المفتي الذي بكّر الرحيل!
فادي شامية
اهتزت المدينة بالخبر، وتغيّر وجه العيد فيها. الفقيد ليس شيخاً وقوراً فحسب؛ وإنما هو ابن صيدا الحافظ، وقاضيها، وأحد وجهائها، ورئيس دائرة الأوقاف سابقاً فيها... كما أنه مفتٍ لمدينة صور المجاورة.
في عاصمة الجنوب أبصر النور. بِكرُ والديه هو، وأملهما في بَرَكةِ اسم "محمد". انتهج درب علمه من الأزهر، ومنه عاد إلى صيدا، حيث واصل تعمقه في الفقه وعلوم القرآن، يوم كان العلم الشرعي عزيزاً.
بات محمد دالي بلطة درّة عائلة عرفها الناس بصلاحها، فارتقى في العلم والقضاء بثبات، ورسّخ دعائم اسمه في الخطابة والكتابة، والقضاء والتربية، والموقف الهادئ، والرأي الحكيم... ولما ذرّف على الخمسين؛ عُيّن مفتياً لمدينة صور ومنطقتها.
أحب الشيخ الحياة، بحدود ما شرعه له ربه، وسعى للآخرة، سعي من عرف دربَه، وخطّ في الناس سَمْتاً حسناً؛ فكان نغْشَ فؤادِ أصدقائه، ومحلَّ احترامِ جلسائه، ومجمع التقاءِ الناس تترى... على جبينه الرحب!.
ليس في صيدا من لم يستعذبْ صوتَه الندي في التلاوة، وليس فيها من لم يعرفْ وجهه المتدثّر حمرةً في الخطابة، والقلة التي فاتها هذا أو ذاك؛ "اقتحم" مسامَعها تواترُ ذكرِه، في خبرٍ أو موقفٍ أو عمل.
سيرة الراحل ضارَعَت روحَه الخيّرة، وكانت تعِدُ بطموحات نيّرة، لكن الزهرة التي طاب رحيقها، سقطت قبل أن يشبع الناس من شميمها، أو يسعدوا بمزيد من عبقها. هي حكمة الله وقدَره إذاً، وليس من سبيل لجزع أو اعتراض.
وهكذا، فقد جاءت ساعته، وهو بعدُ، في الرابعة والخمسين من عمره، فتسلل ملَكٌ مأمور إلى داره، وهو بين أهله وأنسبائه. وبعدما أتم ختمته الراتبة، وقبل أن يأوي إلى فراشه، مدّ ملَكُ الموت إليه يده، فتسلّم –برفق- منه الروح، قبل أن يصل المسعفون.
في الأثر، غادره نبضه مسرعاً، فضاعت الدنيا في ناظريه، اللتين شخصتا للبعيد المنتظَر. الدقائقُ القليلة أسدلت ستار عينيه السوداوين، قبل أن يفتحهما مرة أخرى، في حضن أمه، التي فطرت فؤاده، عندما سبقته إلى الحياة الأبدية، قبل عام ونيف!.
محمد دالي بلطة كان الحافظ الثاني لكتاب الله في صيدا، لم يفز به قبله إلا محرم العارفي. كلاهما باركَ المدينة؛ الأول برز في الجهاد أكثر، والثاني كان نصيبه في العلم والقضاء أكبر، ومن بركتهما تألّقت أفواجٌ في المدينة من الحفظة والمجاهدين. الحافظ الأول مضى إلى جوار ربه قبل عشر سنين، عشية العيد الأول، والحافظ الثاني رحل فجأة اليوم، صبيحة العيد الثاني، وبينهما -قبل أقل من عام- سار على درب الراحلين ابنُ صيدا بالتبني؛ خليل الصيفي، صاحبُ الزرع الأول!.
هو هكذا دأب الصالحين؛ الناس من حولهم يحزنون ويبكون، والمتوفون يفرحون ويسعدون، وفي أوقات رحيلهم؛ عظةٌ وبشرى، وجمعٌ للناس المختلفين، وتواثبٌ للأقدام المسرعة للعزاء، ودمعاتٌ غضةٌ تنفر من أعين الرجال... في وقت وجوم الاعتبار!.
بمثل هؤلاء تفخر المدن وتعلو، ولاسم هؤلاء تلثُمُ الثُغور القُبَل، وبفضل هؤلاء تنبُتُ ثمراتٌ ناضرات، تدُلّكَ على من أزجى، من أصحاب السبق والفضل، وتبشّرُك بصفحاتٍ جديدةٍ، مُتْرَعة بالعز والإيمان.
لقد زرع هؤلاء في المدينة أغراساً أخرجت نفسها إلى النور، وحلموا أحلاماً تلمّست طريقها إلى الظهور؛ فما خاب الرجاء، ولا ضل الأمل؛ فصيدا ترابها خصيب، ورحمُها ولود، وحصادُها دؤوب، والجنى نيّرٌ فكرُه، ومُسعِدٌ ذكرُه.
محمد دالي بلطة غيّبه الموت عنا، لكن اسمه سيظل ينبوعاً من نور، وذكراه ستبقى بين ظهرانينا ندية، تطل علينا كنجوم الليلة الصافية، بعينيه الوديعتين، وابتسامةٍ حلوة تنام على شفتيه، كأنه يلهج بما كان يرتّل في الدنيا لسانُه، مبارِكاً خطى السائرين على الخطى... في مدارج السالكين.
[email protected]