خطبة الجمعة
خ1 : التفريط في جنب الله
خ2 : الفرق بين التشريع الوضعي والتشريع الإلهي
لفضيلة الدكتور محمد راتب النابلسي بتاريخ: 2003-06-27
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله نحمده، ونستعين به ونسترشده، ونعوذ به من شرور أنفسنـا وسيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلن تجد له ولياً مرشداً، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، إقراراً بربوبيته وإرغامـاً لمن جحد به وكفر، وأشهد أن سيدنا محمداً صلى الله عليه وسلم رسول الله سيد الخلق والبشر، ما اتصلت عين بنظر أو سمعت أذن بخبر، اللهم صل وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آله وأصحابه وعلى ذريته ومن والاه ومن تبعه إلى يوم الدين، اللهم لا علم لنا إلا ما علمتنا إنك أنت العليم الحكيم، اللهم علمنا ما ينفعنا وانفعنا بما علمتنا وزدنا علمنا، وأرنا الحــق حقاً وارزقنا إتباعه وأرنا الباطل باطلاً وارزقنا اجتنابه، واجعلنا ممــــن يستمعون القول فيتبعون أحسنه، وأدخلنا برحمتك في عبادك الصالحين.
أيها الأخوة الكرام:
لا زلنا في محور بدأت الحديث عنه قبل أسبوعين، وهذا المحور متعلق بالمحنة التي يعاني منها المسلمون، ذلك أن الشيطان يلبس على المسلمين أن يزهدهم فيما هم قادرون عليه، وأن يدفعهم إلى ما لا يستطيعونه، فالنتيجة أن الذي هم الذين قادرون عليه لم يفعلوه وأن الذي لا يستطيعونه لا يستطيعونه، إذاً بقي الإسلام ظاهرة صوتية.
تحدثت من قبل عن غض البصر، وتحدثت بعدها عن تربية الأولاد، واليوم أحاول أن أضع يدي على نقاط ضعف المسلمين.
أيها الأخوة:
قد تجد طالبين على مقعد واحد كلاهما يرتدي الزي الرسمي للمدرسة، وكلاهما يأتي الساعة الثامنة، وكلاهما يجلس على مقعد، قد تجد تشابهاً عجيباً ولكن واحد ينجح ويتفوق والثاني يرسب، بالمظاهر لا تكاد تجد فرق بين المسلمين في العصور الذهبية وبين المسلمين في هذه العصور ولكن الفرق كبيرٌ كبير من حيث الاعتقاد، من حيث السلوك ومن حيث القيم.
فيا أيها الأخوة الكرام:
من نقاط الضعف الكبرى في حياة المسلم أنه هجر كلام الله عز وجل، ولم يفكر في آيات الله.
أيها الأخوة الكرام الله عز وجل حينما يقول: ﴿يَتْلُونَهُ حَقَّ تِلَاوَتِهِ﴾( سورة البقرة الآية: 121 )
قال علماء التفسير: حق التلاوة يعني أن تقرأه وفق قواعد اللغة لا أن تنصب الفاعل وترفع المفعول، وأن تتلوه حق تلاوته أن تتقن قواعد التجويد، وأن تتلوه حق تلاوته أن تفهمه، وأن تتلوه حق تلاوته أن تتدبره، وأن تتلوه حق تلاوته أن تطبقه، فمن قراءة صحيحة إلى إخراج كل حرف من مخرجه إلى فهمه إلى تدبره إلى تطبيق.
أيها الأخوة الكرام:
ظاهرة هجران كلام الله عز وجل ظاهرة متفشية بين المسلمين، حتى أن الله عز وجل في هذه الآية يشار بها إلى هذه الظاهرة.﴿وَقَالَ الرَّسُولُ يَا رَبِّ إِنَّ قَوْمِي اتَّخَذُوا هَذَا الْقُرْآَنَ مَهْجُوراً (30)﴾( سورة الفرقان )
قد تعلقه في البيت، وقد تضعه في مكان بارز من غرفتك، ولكن تلاوته يوماً بيوم، وفهمه، وتدبر آياته، من تدبر الآيات أيها الأخوة أن تسأل نفسك دائماً أين أنا من هذه الآية.
أيها الأخ الكريم:
إذا قرأت آية فيها أمر ما موقفك من هذه الآية ؟ أن تأتمر، إن قرأت آية فيها نهي ما موقفك من هذه الآية ؟ أن تنتهي، إذا قرأت آية كونية ما موقفك منها ؟ أن تتفكر لأن الله سبحانه وتعالى مستحيل أن يقول كلاماً لا معنى له، ومستحيل وألف ألف مستحيل أن يقول كلاماً ليس لك وظيفة تجاهه.
آية الأمر يقتضي أن تأتمر، وآية النهي يقتضي أن تنتهي، والآية الكونية في القرآن الكريم يقتضي أن تبادر إلى التفكر فيها، ولاسيما وأن الله سبحانه وتعالى يقول:
﴿إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلَافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ لَآَيَاتٍ لِأُولِي الْأَلْبَابِ (190) الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللَّهَ قِيَاماً وَقُعُوداً وَعَلَى جُنُوبِهِمْ وَيَتَفَكَّرُونَ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ رَبَّنَا مَا خَلَقْتَ هَذَا بَاطِلاً سُبْحَانَكَ فَقِنَا عَذَابَ النَّارِ (191)﴾( سورة آل عمران )
ويتفكرون جاء الفعل بصيغة المضارع، وصيغة المضارع تعني الاستمرار هذه آية فيها ذكر فضيلة من فضائل المؤمنين، أين أنت منها ؟ الشيء الذي يخشى منه أن يضغط الدين كله إلى خمس عبادات شعائر، مع أن علماء القرآن يقولون كل أمر في القرآن يقتضي الوجوب، إذا قال الله لك:﴿اتَّقُوا اللَّهَ وَكُونُوا مَعَ الصَّادِقِينَ (119)﴾( سورة التوبة )
هذا أمر يقتضي الوجوب، هل أنت مع الصادقين أم مع المنافقين، هل أنت مع المنضبطين أم مع المتفلتين، هل أنت مع أولياء الله الصالحين أم مع أعداء الدين، أنت مع من ؟ مع من تسهر ؟ مع من تلتقي ؟ من تشارك، من تقيم معه علاقة حميمة، هل أنت منضم إلى مجموع المؤمنين أم أنك شارد عنهم كل أمر في القرآن يقتضي الوجوب، أكاد أقول أيها الأخوة ما من آية في كتاب الله إلا وينبغي أن يكون لك منها موقف إما ائتمار أو ترك أو اتعاظ أو تفكر أو مبادرة أو طموح، لذلك حينما قال الله عز وجل:((وَقَالَ الرَّسُولُ يَا رَبِّ إِنَّ قَوْمِي اتَّخَذُوا هَذَا الْقُرْءَانَ مَهْجُورًا " فهجران القرآن أحد نقاط الضعف عند المسلمين))
وعن جابر بن عبد الله قال: دخل النبي صلى الله عليه وسلم المسجد فإذا فيه يقرؤون القرآن قال:)) اقرؤوا القرآن وابتغوا به الله تعالى من قبل أن يأتي قوم يقيمونه إقامة القدح يتعجلونه ولا يتأجلونه ((
يعني هذه الآية اقرأ القرآن قراءة تعبدية لا مانع، اقرأه قراءة تدبر هذا واجب عليك.
أيها الأخوة الكرام:
تلاوة صحيحة وفهم وتدبر وتطبيق، هكذا كان أصحاب النبي رضوان الله تعالى عليهم أجمعين.
أيها الأخوة الكرام:
أحد العلماء يقول: من لم يردعه القرآن والموت فلو تناطحت الجبال بين يديه لم يرتدع، القرآن والموت، القرآن واعظ ناطق، والموت واعظ صامت، وفي هذين الواعظين كفاية.
أيها الأخوة:
أحد العلماء يخاطب نفسه، يقول يا نفس لو أن طبيباً منعك من أكلة تحبينها لا شك أنك تمتنعين، أيكون الطبيب أصدق عندك من الله، إذاً ما أكفرك، الذي يعصي الله عز وجل وهو يعلم أنه يعصي الله هذا مدموغ بالجهل وبالكفر إن أصر على هذه المعصية.
أيها الأخوة:
يقول بعض العلماء: ما تعلم رجل القرآن ثم تركه إلا بذنب، تعلمه ثم تركه هذا يكون بذنب اقترفه.
شكوت إلى وكيع سوء حفظي فأرشدني إلى ترك المعاصي
وأنبأني بأن العلم نــــور ونور الله لا يهدى لـعاصي
أيها الأخوة الكرام:
قال مالك بن دينار وقرأ هذه الآية:﴿لَوْ أَنْزَلْنَا هَذَا الْقُرْآَنَ عَلَى جَبَلٍ لَرَأَيْتَهُ خَاشِعاً مُتَصَدِّعاً مِنْ خَشْيَةِ﴾( سورة الحشر الآية: 21 )
فبكى، وقال أقسم لكم لا يؤمن عبد بهذا القرآن إلا صدع قلبه، كلام خالق الأكوان، كلام الواحد الديان، كلام من بيده كل شيء، كلام من إليه المصير، كلام الذي في السماء إله وفي الأرض إله، كلام الذي إليه يرجع الأمر كله.
ويقول: يا حملة القرآن، ماذا زرع القرآن في قلوبكم ؟ إن القرآن ربيع المؤمنين كما أن الغيث ربيع الأرض، فقد ينزل الغيث من السماء فيصيب الحب فتهتز وتخضر فيا حملة القرآن ماذا زرع القرآن في قلوبكم.
وعن بعض التابعين قام الليل ذات ليلة هذا التابعي، فقام يصلي فمر بقوله تعالى:
﴿أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ اجْتَرَحُوا السَّيِّئَاتِ أَنْ نَجْعَلَهُمْ كَالَّذِينَ آَمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ سَوَاءً مَحْيَاهُمْ وَمَمَاتُهُمْ سَاءَ مَا يَحْكُمُونَ (21)﴾( سورة الجاثية )
فما زال يتلو هذه الآية طوال الليل ولم يشبع منها ﴿أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ اجْتَرَحُوا السَّيِّئَاتِ أَنْ نَجْعَلَهُمْ كَالَّذِينَ آَمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ سَوَاءً مَحْيَاهُمْ وَمَمَاتُهُمْ سَاءَ مَا يَحْكُمُونَ (21)﴾
يقول بعضهم أيها الأخوة كيف يؤتمن على سر أو يوثق به في أمر من دفع القرآن وكذب على النبي صلى الله عليه وسلم.
وعن عبد الله بن مسعود يقول: ينبغي لحامل القرآن أن يعرف بليله إذا الناس نائمون، وبنهاره إذا الناس يفطرون، وبحزنه إذا الناس يفرحون، وببكائه إذا الناس يضحكون، وبصمته إذا الناس يخوضون، وبخشوعه إذا الناس يختالون، وينبغي لحامل القرآن أن يكون باكياً محزوناً حليماً سكيتاً ليناً، لا ينبغي لحامل القرآن أن يكون جافياً ولا غافلاً، ولا صخاباً، ولا صياحاً.
أيها الأخوة الكرام:
لحملة القرآن أخلاق، لمن يقرأ القرآن أناء الليل وأطراف النهار أخلاق، لمن يعيش أجواء القرآن أخلاق، فخلق حامل القرآن خلق متميز، بل هو خلق صارخ.
أيها الأخوة الكرام:
هذه نقطة ضعف من نقاط ضعف المسلمين الذين قعدوا وانتظروا أن تأتي معجزة من السماء فتنصرهم على أعداءهم.
النقطة الثانية أيها الأخوة: ضعف العبادة، قال تعالى:
﴿إِنَّ الْمُنَافِقِينَ يُخَادِعُونَ اللَّهَ وَهُوَ خَادِعُهُمْ وَإِذَا قَامُوا إِلَى الصَّلَاةِ قَامُوا كُسَالَى يُرَاءُونَ النَّاسَ وَلَا يَذْكُرُونَ اللَّهَ إِلَّا قَلِيلاً (142)﴾
( سورة النساء )
وعن شداد بن أوس عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال:))الكيس من دان نفسه وعمل لما بعد الموت، والعاجز من أتبع نفسه هواها وتمنى على الله الأماني ((
[ أحمد في مسنده والترمذي وابن ماجة والحاكم في المستدرك عن شداد بن أوس ]
فيا أيها الأخوة:
يضعف مع ضعف العبادة شحن النفس بالطاقة الروحية، فإذا ضعفت النفس تصحرت، وإذا تصحرت سئمت من سماع الحق، وملت منه لأنها ليس مطبقة له، لذلك من دعاء النبي عليه الصلاة والسلام أنه كان يقول:
((اللهم إني أعوذ بك من العجز والكسل ومن الجبن والهرم، وأعوذ بك من فتنة المحي والممات، وأعوذ بك من عذاب القبر، العجز والكسل ))
أيها الأخوة:
علو الهمة من الإيمان.
شيء آخر من مظاهر ضعف العبادة: ضعف الخشية، قال تعالى:
﴿أَلَمْ يَأْنِ لِلَّذِينَ آَمَنُوا أَنْ تَخْشَعَ قُلُوبُهُمْ لِذِكْرِ اللَّهِ وَمَا نَزَلَ مِنَ الْحَقِّ وَلَا يَكُونُوا كَالَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلُ فَطَالَ عَلَيْهِمُ الْأَمَدُ فَقَسَتْ قُلُوبُهُمْ وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ فَاسِقُونَ (16)﴾
( سورة الحديد ).
لماذا قست قلوبهم ؟ لأنهم خرجوا عن منهج الله، الإنسان حينما يعصي ربه يقسو قلبه، وحينما يقسو قلبه يصبح ضعيف الخشوع لله عز وجل، فالخشوع ثمرة الطاعة والخشوع ثمرة الورع، والخشوع ثمرة التطبيق، والخشوع ثمرة الإخلاص.
أيها الأخوة:
يقول عبد الله بن مسعود رضي الله عنه:
((كفى بالخشية علماً، وكفى بالاغترار جهلاً))
حصل من العلوم ما شئت، فإن لم تكن خاشعاً فهذه العلوم لا وزن لها في ميزان الصلاة
((كفى بالخشية علماً، وكفى بالاغترار جهلاً))
لذلك أيها الأخوة هناك علم بخلق الله وهناك علم بأمره، وهناك علم به، العلم بخلق الله أيها الأخوة موضوع العلوم الكونية في الجامعات في كل دول العالم، من فيزياء إلى كيمياء إلى طبيعيات إلى فلك إلى رياضيات إلى طب إلى هندسة إلى علم نفس إلى علم اجتماع إلى علم تربية، حقائق، ودقائق، وأدلة وبراهين، وعلاقات وصفية ورياضية هذه كلها في كتاب ولها مدرس، وهناك طالب يستمع ويناقش ويتفهم ويقرأ ويذاكر ويراجع ويؤدي امتحان، هذه العملية بأكملها اسمها المدارسة يستوي فيها من كان اختصاصه كونياً ومن كان اختصاصه شرعياً، حتى كليات الشريعة فيها علوم وفيها تفاصيل، وفيها جزئيات، وفيها نصوص، وفيها كتب، وفيها أدله، وفيها براهين وفيها موازنات، مجمل الاستماع والمتابعة والفهم والمذاكرة والمراجعة وأداء الامتحان هذه العملية بمجملها اسمها عملية مدارسة، فالعلم بخلق الله يحتاج إلى مدارسة والعلم بأمر الله يجتاح إلى مدارسة، العلم بخلق الله هذه الحقائق وتلك الدقائق تتخزن بالدماغ والذي يتعلم العلوم الإسلامية في هذه العلوم حقائق ودقائق تتخزن بالدماغ، ولكن قد تجد مفارقة حادة بينما يعلم الإنسان وبينما يطبق، فكم من طبيب يدخن، أين علم طبه ؟ وكم من رجل يعرف الحكم الشرعي وهو يخالفه ؟
لكن العلماء قالوا: إذا كان هناك علم بخلقه ثمنه المدارسة وإذا كان هناك علم بأمر ثمنه المدارسة فهناك علم به، وهذا العلم به له ثمنان المجاهدة والتفكر في خلق السماوات والأرض، المجاهدة تحتاج إلى إرادة قوية، تحتاج إلى صدق شديد، تحتاج لمراقبة لله عز وجل، تحتاج إلى تعظيم له، تحتاج إلى تفكر في خلق السماوات والأرض المجاهدة ثمن العلم به، لكن هذه المجاهدة أيها الأخوة تنطلق إلى الاتصال بالله عز وجل وإذا اتصل الإنسان بالله انعكست ثمار هذه الصلة على كيانه كله، فإذا هو صادق، وإذا هو أمين وإذا هو عفيف، وإذا هو منصف، وإذا هو رحيم، هذه الأثمان الباهظة للعلم بالله لها ثمار يانعة الأثمان الباهظة للعلم بالله عن طريق المجاهدة، وعن طريق التفكر بخلق السماوات والأرض لها نتائج رائعة، لا تبقى في الدماغ معلومات ليس غير بل تسري في كل جوارح الإنسان وفي كل كيانه، فيصبح مؤمناً يشار إليه بالبنان، يصبح مؤمناً ملء السمع والبصر يصبح مؤمناً ذا مرتبة أخلاقية، وذا مرتبة علمية، وذا مرتبة جمالية، هؤلاء المؤمنون بهذه الشروط إذا كثروا جذبوا الناس إلى الإسلام، أما أن تكون متحذلقاً، أن تكون حافظاً ليس غير، وأخلاقك لا تختلف أبداً عن أخلاق الطرف الأخر هذه الحذلقة وهذه العبادات الجوفاء لا تجذب الناس إليك.
أسوق لكم مثلاً لعله صارخ ؛ لو رأيت إنساناً يعتنق ديناً وثنياً وهو شبه عارٍ يقوم بحركات لا معنى لها، قذر، هل يخطر في بالك لثانية واحدة أن تقرأ دينه ؟ لا، لأن هذا الإنسان حجبك عن دينه، بهذا الوضع المذري، وبهذه القذارة، وبهذه الخرافة، وبهذا التخلف حجبك عن دينه.
والمسلم أيها الأخوة إما أن يحجب الناس عن دين الإسلام حينما يكذب، وحينما لا يتقن عمله، وحينما يخلف وعده، وحينما يسقط من عين أهل الدنيا لخطأ في سلوكه هذا المسلم يحجب الناس عن دينه، هذا المسلم اسمه منفر، أما إذا كنت على خلق عظيم باستقامة وصدق وأمانة وعفاف وإنصاف وموضوعية وتواضع ورحمة وعدل وعفو، هذا المسلم الذي يجلب الناس إلى الدين، لذلك قال عليه الصلاة والسلام:
((أنت على ثغرة من ثغر الإسلام فلا يؤتين من قبلك))
لو سألت واحداً قد التزم في مسجد أو آخر ما سبب التزامك ؟ في الأعم الأغلب أنه التقي بمسلم صادق، أعجب بهذه الشخصية، أعجب بالوضوح بالفكر النير، بالنفس الثابتة، بالفكر الواضح، بالعقيدة السليمة، بالانضباط الأخلاقي، بالأذواق الجمالية.
أيها الأخوة الكرام:
شخصية المؤمن شخصية فذة، شخصية المؤمن تجذب الناس إلى الدين.
أيها الأخوة:
حقيقة أضعها بين أيديكم: ما من مؤمن صادق إلا وهو داعية إلى الله تكلم أو سكت، صدقه دعوة، وفاءه دعوة، رحمته دعوة، حلمه دعوة، أمانته دعوة، عفافه دعوة هكذا.
((كنا قوماً أهل جاهلية نعبد الأصنام ونأكل الميتة ونأتي الفواحش ونقطع الأرحام ونسيء الجوار))
هذه الجاهلية، وقد عدنا إلى جاهلية أكبر، وهذا ملمح من قوله تعالى:
﴿وَلَا تَبَرَّجْنَ تَبَرُّجَ الْجَاهِلِيَّةِ الْأُولَى﴾
( سورة الأحزاب الآية: 33 )
إذاً هناك جاهلية ثانية حتى بعث الله إلينا رسولا ما صفات هذا الرجل ماذا طرح أمامنا، قال:
(( نعرف نسبه وصدقه وأمانته وعفافه فدعانا إلى الله لنوحده ونعبده ونخلع ما كنا نحن نعبد وآباؤنا من دونه من الحجارة والأوثان وأمرنا بصدق الحديث وأداء الأمانة وصلة الرحم وحسن الجوار والكف عن المحارم والدماء ونهانا عن الفواحش وقول الزور وأكل مال اليتيم وقذف المحصنة وأمرنا أن نعبد الله وحده ولا نشرك به شيئا وأمرنا بالصلاة والزكاة والصيام ))
هذا هو الدين مجموعة قيم، وقلت لكم مراراً والله الذي لا إله إلا هو لو أن أصحاب رسول الله فهموا الدين كما نفهمه نحن والله ما خرج من مكة، ما وصل إلى أطراف الدنيا، بصدقهم وأمانتهم وعفتهم.
في لوحة بفينا بأوربة تصور الجيوش الإسلامية إلى مشارف فينا، هذه اللوحة تصور جندياً مسلماً يشتري عنباً من فتاة من النمسا يعطيها الثمن ويغض طرفه عنها، لهذه الصورة معناً كبير، حينما طبقوا أمر الله عز وجل كان الله معهم ونصرهم وقهر أعداءهم وأعزهم.
أيها الأخوة الكرام:
لا تنسوا أن هناك علماً بأمره يحتاج إلى مدارسة فقط، وأي واحد ذكي متفرغ يقدر على المدارسة، ولا تنسوا أن العلم بأمره يحتاج إلى مدارسة فقط، وأي إنسان ذكي ذي ذاكرة قوية متفرغ يملك هذه المدارسة وقد يتفوق بها، ولكن إن أردت أن تعرف الله عز وجل فلا بد من أن تجاهد نفسك وهواك، لا بد من أن تقف عند الأمر، لا بد من أن يجدك حيث أمرك وأن يفتقدك حيث نهاك، لا بد من أن تطبق هذه الآية:
﴿وَأَمَّا مَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ وَنَهَى النَّفْسَ عَنِ الْهَوَى (40) فَإِنَّ الْجَنَّةَ هِيَ الْمَأْوَى (41)﴾
( سورة النازعات )
هذا علم بالله يحتاج إلى ثمن باهظ، مجاهدة النفس والهوى، وتفكر في خلق السماوات والأرض، عندئذٍ إن دفعت هذا الثمن الباهظ تسري الفضائل في كل كيانك، يمتلئ قلبك غناً، يمتلئ قلبك سكينة، يمتلئ قلبك رضاً عن الله عز وجل، أما هذا الذي لا يطبق ينتقل من مكان إلى مكان، ويسأم كل شيء تابعه، يمل منه، يتحول إلى غيره، لأنه واقف.
أيها الأخوة الكرام:
مثل للتوضيح لو ركبت أفخر قطار في الأرض والنوافذ مغلقة خلال دقائق تحيط بما في الغرفة وبعدئذٍ تسأم وتضجر، لو ركبت أقدم قطار في الأرض والنافذة مفتوحة والمناظر متبدلة أنت في سرور دائم.
يعني مهما تكن، مادام في اتصال بالله عز وجل وفي تجدد وفي إقبال على الله عز وجل أنت أسعد الناس، أما حينما تجمد ولا تتقدم، ومن لم يكن في زيادة فهو في نقصان والمغبون من تساوى يوماه.
أيها الأخوة الكرام:
الوقت ثمين والعمر قصير والله الذي لا إله إلا هو في أيام معدودة أخوة من إخواننا كثيرون غادروا الدنيا صلوا الظهر وكانوا بعد أذان العصر تحت أطباق الثرى الموت يأتي بغتة أيها الأخوة، هذا اللسان يألف أن يكون الدين من عاداته ليس غير، مقيم على ما هو مشتهن، لا يعبأ لا بأمر ولا بنهي، يؤدي عباداته أداء شكلياً، ولا يرقى عند الله عز وجل، هذا لا يكون عند الله مقبولاً.
مرةً ثانية أيها الأخوة الناس لا يشدون إليك من عباداتك، ولا يشدون إليك من شكلك، يشدون إليك من معاملتك، قد تجد إنساناً تلتقي به أول مرة تأخذ عنه فكرة من شكله من ثيابه، من أناقته، فإذا كلمك تنسى ثيابه، وإذا عاملك تنسى كلامه، قال له أتعرفه ؟ قال نعم، نعم يا أمير المؤمنين أعرفه، قال له هل سافرت معه ؟ قال له لا قال له هل جاورته ؟ قال لا، قال له هل حاككته بالدرهم والدينار ؟ قال لا، قال أنت لا تعرفه، فالمؤمن كل ما اقتربت منه، وكلما حاككته، وكلما كنت معه تألق في نظرك، لأن كماله أصيل، لأن كماله كمال معرفة بالله، لأن دفع ثمن معرفته بالله باهظاً.
أيها الأخوة الكرام:
يقول بعض العلماء: ليس العلم من كثرة العلم، ولكن العلم من الخشية.
وقال بعضهم: البسوا ثياب الملوك وأميتوا قلوبكم بالخشية.
وقال الفضيل بن عياض: إنما الفقيه من أنطقته الخشية وأسكتته الخشية، إذا قالَ قال بالكتاب والسنة، وإن سكتَ سكت بالكتاب والسنة، وإن اشتبه عليه شيء وقف عنده ورده إلى عالمه.
شخصية المسلم التي ينبغي أن تكون عليها قد لا نجدها متوافرة بالمجتمع الإسلامي، لذلك المسلمون في وضع لا يحسدون عليه.
يقول عمر بن عبد العزيز رحمه الله تعالى ورضي عنه: من جعل دينه غرضاً للخصومات كثر تنقله من دين إلى دين ومن عمل إلى عمل فقد يسام كل شيء هو فيه.
ما في تطبيق لأنه، لو التقيت بأفضل عالم بعد حين تمل منه لأنك متوقف في مكانك، لأنك لا تطبق كلامه.
أيها الأخوة الكرام:
المؤمن الصادق داعية شاء أم أبى ولو بقي ساكتاً، في خطبة قادمة إن شاء الله عز وجل نتابع نقاط الضعف التي يعاني منها المسلمون والتي قد تكون تفسيراً واضحاً لما يعانيه المسلمون من ضعف ومن محنة، أرجو الله أن يخرجوا منها في أقرب وقت.
أقول قولي هذا وأستغفر الله العظيم لي ولكم فاستغفروه يغفر لكم فيا فوز المستغفرين أستغفر الله.
وأشهد أن لا إله إلا الله ولي الصالحين وأشه د أن سيدنا محمد عبده ورسوله صاحب الخلق العظيم، اللهم صل وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
أيها الأخوة الكرام:
موضوع تحت عنوان الفرق بين التشريع الإلهي والتشريع الوضعي.
أيها الأخوة:
انتشرت في أمريكة عادة شرب الخمور انتشاراً كبيراً الأمر الذي اقنع الحكومة وقتها بضرر الخمرة على الفرد والأسرة والمجتمع فأصدرت قانوناً عام 1918 يمنع الخمرة مما يلفت النظر أن منع الخمر لم يكن استبدادياً ملكياً، أو أمراً من امبرطور له رأي وفكر خاص بل إنه تشريع جاء عن طريق برلمان في بلد ديمقراطي، يعني هذا التشريع نابع كما يقال من إرادة الشعب، وهذا الشعب من شأنه أن يشرع لنفسه ما يجلب له النفع وما يدرأ عنه الفساد والضرر، وبعد أن اقتنع الرأي العام وتحقق له من الوجوه العلمية والعملية أن الخمرة ضارة بالصحة، مفسدة للعقل، محطمة للحضارة صدر قانون في عام 1918بتحريم الخمر فماذا فعلت الحكومة وقتها من أجل تنفيذ هذا القانون ؟ جند الأسطول كله لمراقبة الشواطئ منعاً من التهريب، جند الطيران كله لمراقبة الأجواء منعاً من التهريب عن طريق الطائرات الخاصة، شغلت أجهزة الحكومة، واستخدمت كل وسائل الدعاية لمحاربة الخمر، أنفقت الدولة في محاربة الخمر على المنشورات التي تحذر من تناول الخمر وتبين أضراره 60 مليون دولار، طبعت 10 بلايين صفحة في 14 عاماً ووزعت، أنفقت الحكومة على متابعة هذا القانون 250 مليون دولار، أعُدم 300 مئة ألف إنسان خالفوا هذا القانون، سجن 500 ألف مواطن، بلغت الغرامات التي تم دفعها لمن خالف هذا القانون 16 ملايين دولار صودرت الأماكن التي تصنع الخمر، وصودر ما قيمته 400 مليون دولار، وكل هذه الإجراءات، وكل هذه النفقات، وكل هذه المطبوعات، وكل هذه النشرات، وكل هذا السجن لم يزد الشعب إلا تعلقاً بالخمر وإصراراً على تعاطيها، ففي عام 1933 اضطرت الحكومة إلى إلغاء هذا القانون وإباحة الخمر، هذا تشريع الإنسان.
أما المسلمون مليار ومئتين مليون، يقول الله عز وجل:
﴿إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالْأَنْصَابُ وَالْأَزْلَامُ رِجْسٌ مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ فَاجْتَنِبُوهُ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ (90)﴾
( سورة المائدة ).
ماذا فعلت هذه الآية بالمؤمنين ؟ المؤمن أحياناً يضحي بمنصبه من أجل ألا يجلس على مائدة فيها خمر، هو لا يشرب لكن محرم عليه أن يكون على مائدة يدار في الخمر يضحي بتجارته، يخسر وكالة حصرية لأنها تبيع الخمر، يضحي بشركة لأن مندوبها يريد أن يشرب خمراً حينما يزوره، هذا تشريع الله عز وجل، ما الذي يمنعك في رمضان في أشهر الصيف في شهر آب واليوم 17 ساعة، و56 الحرارة، إذا دخلت إلى بيتك وأغلقت الباب ما الذي يمنعك أن تشرب كأس ماء بارد ؟ إنه الله.
الراعي لما رآه سيدنا عمر قال له بعني هذه الشاة وخذ ثمنها، قال ليست لي قال قل لصاحبها ماتت، قال ليست لي، قال خذ ثمنها، قال والله إنني لفي أشد الحاجة إلى ثمنها ولو قلت لصاحبها ماتت أو أكلها الذئب لصدقني فإني عنده صادق أمين، لكن أين الله ؟ هذا هو الدين، هذا الراعي لو لم يُحصل شهادة عالية، لو لم يكن في بيته آلاف المجلدات المذهبة لأنه قال أين الله وضع يده على جوهر الدين، هذا هو الدين أن تخاف من الله، ولا يمكن لمجتمع أن يرقى إلا بخوف من الله، لا يمكن لإنسان أن يستقيم إلا إذا خاف من الله، وما يطرح خلاف ذلك كلام فارغ لا معنى له، التربية بيتية في إغراءات تطيح بكل التربية البيتية المؤمن يستوي عنده التبر والتراب.
أيها الأخوة:
سقت هذا الكلام لأننا في يوم، البارحة كان 26 من هذا الشهر الذي نحن فيه يوم مكافحة المخدرات، وقد كنت في ندوة إعلامية سمعت من خلالها الشيء الذي لا يصدق 400 مليون إنسان في العالم مدمنون على المخدرات، وكلهم من الشباب في سن العطاء، 700 مليار دولار تداول في تجارة المخدرات ضعف هذا المبلغ ينفق على ضبط المخدرات وعلى معالجة المدمنين، هذه الأموال الطائلة أموال فلكية 700 مليار دولار وضعف هذا المبلغ ينفق على مكافحة المخدرات وعلى معالجة المصابين، والمبلغ المتداول والعدد المعطل عن العمل 400 مليون إنسان كله بسبب البعد عن الله عز وجل، في توعية وندوات، ونشرات ومكافحة، وسجن، ومعالجة، أما حينما ينهاك الله عن أمر أنت مؤمن بالله عز وجل ترتدع الذي لا يصدق أيها الأخوة، أن هؤلاء الـ 400 مليون بعني 99 % منهم ما أرادوا أن يكونوا مدمنين مخدرات، لكن لقاء واحد، وشمة واحدة كهدية، أول شيء يتعاطاه المتعاطي المخدرات يأخذه مجاناً هدية ضيافة، وعنده حب الفضول، لذلك حينما قال الله عز وجل:
﴿وتِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ فَلَا تَقْرَبُوهَا﴾
( سورة البقرة الآية: 187 )
ما لم يكن بينك وبين المعصية هامش أمان لا سبيل إلى تجنبها، ما لم يكن بينك وبين هذه المعصية هامش أمان
﴿وتِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ فَلَا تَقْرَبُوهَا﴾
﴿وَلَا تَقْرَبُوا الزِّنَا إِنَّهُ كَانَ فَاحِشَةً وَسَاءَ سَبِيلاً (32)﴾
( سورة الإسراء )
أيها الأخوة الكرام:
الإنسان حينما ينجح في الحياة ويفاجئ أن ابنه قد وقع في هذا البلاء يكون هذا الابن مصدر شقاء لأبيه.
اللهم اهدنا فيمن هديت وعافينا فيمن عافيت وتولنا فيمن توليت وبارك لنا فيما أعطيت واقنا واصرف عنا شر ما قضيت فإنك تقضي بالحق ولا يقضى عليك، وإنه لا يزل من واليت ولا يعز من عاديت، تباركت ربنا وتعاليت، ولك الحمد على ما قضيت نستغفرك ونتوب إليك، اللهم هب لنا عملاً صالحاً يقربنا إليك، اللهم أعطنا ولا تحرمنا، أكرمنا ولا تهنا، آثرنا ولا تؤثر علينا، أرضنا وارض عنا، أصلح لنا ديننا الذي هو عصمة أمرنا وأصلح لنا دنيانا التي فيها معاشنا وأصلح لنا أخرتنا التي إليها مردنا، واجعل الحياة زاداً لنا من كل خير، واجعل الموت راحة لنا من كل شر، مولانا رب العالمين، اللهم اكفنا بحلالك عن حرامك، وبطاعتك عن معصيتك وبفضلك عمن سواك، اللهم لا تؤمنا مكرك، ولا تهتك عنا سترك، ولا تنسنا ذكرك يا رب العالمين، اللهم بفضلك ورحمتك أعل ِكلمة الحق والدين وانصر الإسلام وأعز المسلمين، وأذل الشرك والمشركين، دمر أعداءك أعداء الدين اجعل بأسهم بينهم، اجعل الدائرة تدور عليهم يا رب العالمين، اجعل تدميرهم في تدبيرهم إنك على ما تشاء قدير وبالإجابة جدير.
والحمد لله رب العالمين