الحب في الله أن تحب من أجل الله -جل وعلا - وتبغض في الله؛ فإذا علمت أن شخصًا ما على الكفر عاصيًا لله فتبغضه في الله، ولو كان شخصًا عاصيًا ولكنه مسلم، فتبغضه بقدر ما عنده من المعاصي.
والمحبة في الله ليست محبة من أجل تبادل منافع وتحصيل أغراض دنيوية، وإنما جمع بينهم الحب في الله، فيلزم من تلك المحبة نفع المسلم لأخيه المسلم، وترك إيذائه.
والحب في الله يحمل المسلم على بذل النصيحة لكل من يحتاج إلى النصيحة من المسلمين، ونصرتهم إذا لزم الأمر. قال النبي عليه الصلاة والسلام: «الدين النصيحة». قلنا: لمن؟ قال: «لله ولكتابه ولرسوله ولأئمة المسلمين وعامتهم». ((والنصيحة لعامة المسلمين تكون بتعريفهم بأوامر الله ورسوله وبشرائع الدين، وبالعمل على ما فيه نفعهم وصلاحهم، وإبعاد الضرر عنهم، وأمرهم بالمعروف، ونهيهم عن المنكر برفق وإخلاص، والشفقة عليهم، وتوقير صغيرهم، وتخولهم بالموعظة الحسنة، وترك غشهم وحسدهم، وأن يحب لهم ما يحب لنفسه من الخير، ويكره لهم ما يكره لنفسه من المكروه، والذب عن أموالهم وأعراضهم، وغير ذلك مما فيه صلاح الناس في دينهم ودنياهم)) .
وقال تعالى: {وَالَّذِينَ جَاءُوا مِنْ بَعْدِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلِإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالْإِيمَانِ وَلَا تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنَا غِلًّا لِلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنَا إِنَّكَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ} [الحشر: ، وهذا من فضائل الإيمان أن المؤمنين ينتفع بعضهم ببعض، ويدعو بعضهم لبعض؛ بسبب المشاركة في الإيمان المقتضي لعقد الأخوة بين المؤمنين.
ولقد كان حب الأنصار- الذين نصروا النبي، وأقاموا الدعوة في بدايتها - من علامة الإيمان، قال عليه الصلاة والسلام: «الأنصار لا يحبهم إلا مؤمن، ولا يبغضهم إلا منافق، فمَنْ أحبَّهم أحبَّه الله، ومن أبغضهم أبغضه الله» ، فمحبتهم من تمام حب الله ورسوله صلى الله عليه وسلم، ومن دلائل صحة الإيمان، والصدق في الإسلام، ولا يبغضهم إلا منافق في عقيدته.
ومن لوازم الحب في الله للمسلمين: الإشفاق عليهم، والدعاء لهم، والسلام، وزيارة مريضهم، وتشييع جنائزهم، وتفقُّد أحوالهم، أما لوازم البغض للكُفَّار فمنها: ألا نبتدئهم بالسلام، والهجرة من دار الكفر إلى دار الإسلام، وعدم التشبُّه بهم، وعدم مشاركتهم في أعيادهم.
ومن واجبات المحبة أن تخبر بها، قال عليه الصلاة والسلام: «إذا أحب أحدكم أخاه فليُعلمه إيَّاه» .
وفي هذا حثٌّ على التودُّد والتآلف؛ وذلك أنه إذا أخبر أخاه المسلم أنه يحبه، استمال قلبه واجتلب به ودَّه، وإذا علم منه ذلك قبل نصحه، فيحصل بذلك الائتلاف، ويزول الاختلاف بين المؤمنين.
وكلما ازداد الشخص عبادةً لله تعالى وحده ازداد تحقيقًا للحبِّ في الله، والبغض في الله. فتوحيد الغاية والهدف بأن يكون كل ما يفعله المسلم مرتبطًا بتقوى الله عز وجل والتقرب إليه سبحانه، وحينه تصغر الدنيا ومتاعها، وتعظم الآخرة، وتنمحي الضغينة، ويزداد الحب والتآلف بين أفراد المجتمع المسلم.
وفي واقع المسلمين الآن نجد عند كثير من الناس أن الحب والبغض في الله لم يعد هو المعيار الذي تُقام عليه العلاقات بين الأفراد، بل أصبح الحب والبغض من أجل فِرَق كُرَة، أو عصبية بغيضة لقومية أو عرقية أو وطنية، أو حتى لبعض المحافظات داخل الوطن الواحد، أو فرق أو أحزاب سياسية، أو من أجل شهوات، ويكون الجرم أكبر إذا نتج عن هذا الحب والكره مشاجرات أو إيذاء للآخرين أو إفساد لممتلكات، أو انبهار بلاعبين أو ممثلين أنزلهم الناس منزلة القدوة يعادون ويوالون فيهم، أو حتى التعصب لدعاة أو شيوخ تعصبًا ليس مرجعه إلى العلم، فهو ليس حبًّا أو بغضًا في الله، وإنما هو حب أو بغض ناتج عن الهوى والميل الشخصي بغض النظر عن الحق.
قال الله تعالى عن المؤمنين: {وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَيُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَيُطِيعُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ أُولَئِكَ سَيَرْحَمُهُمُ اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ} [التوبة: 71]. {بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ} في المحبة والموالاة، والانتماء والنصرة.
وقال تعالى عن الكفار: {وَالَّذِينَ كَفَرُوا بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ إِلَّا تَفْعَلُوهُ تَكُنْ فِتْنَةٌ فِي الْأَرْضِ وَفَسَادٌ كَبِيرٌ} [الأنفال: 73]. قال السعدي: (لما عقد الولاية بين المؤمنين، أخبر أن الكفار حيث جمعهم الكفر فبعضهم أولياء لبعض، فلا يواليهم إلا كافر مثلهم. وقوله: {إِلَّا تَفْعَلُوهُ}؛ أي: موالاة المؤمنين ومعاداة الكافرين، بأن واليتموهم كلهم أو عاديتموهم كلهم، أو واليتم الكافرين وعاديتم المؤمنين، {تَكُنْ فِتْنَةٌ فِي الْأَرْضِ وَفَسَادٌ كَبِيرٌ} فإنه يحصل بذلك من الشر ما لا ينحصر من اختلاط الحق بالباطل، والمؤمن بالكافر، وعدم كثير من العبادات الكبار؛ كالجهاد والهجرة، وغير ذلك من مقاصد الشرع والدين التي تفوت إذا لم يتخذ المؤمنون وحدهم أولياء بعضهم لبعض.
وقد قال الله عز وجل عن المتحابِّين في غير ذات الله: {الْأَخِلَّاءُ يَوْمَئِذٍ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ إِلَّا الْمُتَّقِينَ} [الزخرف: 67]، قال السعدي: (وإن الأخِلَّاء يومئذ؛ أي: يوم القيامة، المتخالين على الكفر والتكذيب ومعصية الله، {بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ} لأن خلتهم ومحبتهم في الدنيا لغير الله، فانقلبت يوم القيامة عداوة {إِلَّا الْمُتَّقِينَ} للشرك والمعاصي، فإن محبتهم تدوم وتتصل، بدوام من كانت المحبة لأجله).
وقال الله تعالى: {لَا تَجِدُ قَوْمًا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ يُوَادُّونَ مَنْ حَادَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلَوْ كَانُوا آبَاءَهُمْ أَوْ أَبْنَاءَهُمْ أَوْ إِخْوَانَهُمْ أَوْ عَشِيرَتَهُمْ أُولَئِكَ كَتَبَ فِي قُلُوبِهِمُ الْإِيمَانَ وَأَيَّدَهُمْ بِرُوحٍ مِنْهُ وَيُدْخِلُهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ أُولَئِكَ حِزْبُ اللَّهِ أَلَا إِنَّ حِزْبَ اللَّهِ هُمُ الْمُفْلِحُونَ} [المجادلة: 22]. قال السعدي: (أي: لا يجتمع هذا وهذا، فلا يكون العبد مؤمنًا بالله واليوم الآخر حقيقة، إلا كان عاملًا على مقتضى الإيمان ولوازمه، من محبة من قام بالإيمان وموالاته، وبغض من لم يقم به ومعاداته، ولو كان أقرب الناس إليه).
وعلينا أن نفرق بين بغض الكفار ومعاداتهم، وبين البرِّ والإقساط إليهم، فنبغضهم لكفرهم ولكن هذا لا يعني أن نظلمهم، قال تعالى: {لَا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ أَنْ تَبَرُّوهُمْ وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ} [الممتحنة: 8]. وقال تعالى في الحديث القدسي: «يا عبادي، إنِّي حرمتُ الظلم على نفسي وجعلته بينكم محرمًا فلا تظالموا...» .
قال الشيخ ابن عثيمين: (وأما الكافر فلا بأس من برِّه، والإحسان إليه بشرط أن يكون ممن لا يقاتلوننا في ديننا، ولم يخرجونا من ديارنا). وقال النووي - رحمه الله):- فلو تصدَّق على فاسق أو على كافر من يهودي أو نصراني أو مجوسي جاز، وكان فيه أجر في الجملة. قال صاحب البيان: قال الصيمري: وكذلك الحربي، ودليل المسألة: قول الله تعالى: {وَيُطْعِمُونَ الطَّعَامَ عَلَى حُبِّهِ مِسْكِينًا وَيَتِيمًا وَأَسِيرًا} [الإنسان: 8] ومعلوم أن الأسير حربي).
مع التأكيد على أن عقيدتهم باطلة، وكتابهم مُحرَّف، ولا يجوز تهنئتهم ومشاركتهم في أعيادهم ومناسباتهم الدينية. أما غير ذلك فلا بأس من الاجتماعيات المباحة. وإذا استطعت أن تدعوهم إلى الإسلام فبها ونعمت.
ومن ثمرات الحب في الله:
• أن الحب في الله أحد الخصال التي يجد بها المؤمن حلاوة الإيمان، قال عليه الصلاة والسلام: «ثلاث من كن فيه وجد حلاوة الإيمان: أن يكون اللهُ ورسولُه أحَبَّ إليه مما سواهما، وأن يحب المرء لا يحبه إلا لله، وأن يكره أن يعود في الكفر كما يكره أن يقذف في النار» . فالتحابُّ في الله من أوثق عرى الإيمان.
وقال عليه الصلاة والسلام: «مَن أحبَّ لله، وأبغض لله، وأعطى لله، ومنع لله، فقد استكمل الإيمان» . وإنما خصَّ الأفعال الأربعة؛ لأنها حظوظ نفسانية؛ إذ قلما يمحصها الإنسان لله تعالى، فإن قدر على مثل تلك الأمور أن يجعلها لله تعالى، كان على غيرها أقدر.
وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم في حديث السبعة الذين يظلُّهم الله في ظله: «سبعة يظلهم الله في ظله يوم لا ظل إلا ظله» فذكر منهم: «ورجلان تحابَّا في الله اجتمعا عليه وتفرَّقا عليه» . قال النووي في شرحه لصحيح مسلم: ويحتمل أَنَّهُ أراد أنهما اجتمعا عَلَى التحابِّ فِي الله، فإن تغيَّر أحدُهما عما كَانَ عَلِيهِ مِمَّا توجب محبته فِي الله فارقه الآخر بسبب ذَلِكَ، فيدور تحابُبُهما عَلَى طاعة الله وجودًا وعدمًا.
وفي الحديث القدسي: ((قال الله عز وجل: وجبت محبتي للمتحابِّين فيَّ، والمتجالسين فيَّ، والمتزاورين فيَّ، والمتباذلين فيَّ)) .
"(للمتحابِّين فيَّ": هم الذين كانت قلوبهم مجتمعة على المحبة في إجلال الله وتعظيمه، فلا يحبون إلا ما يحبه الله، ويبغضون ما يبغضه الله.
"والمتجالسين فيَّ": وهم الذين اجتمعوا على ذكره وعبادت.
"والمتزاورين فيَّ": وهم الذين يزور بعضهم بعضًا لصلة رَحِم وعيادة مريض ونحوه، زيارة خالصة لوجه الله".
"والمتباذلين فيَّ": وهم الذين بذلوا أنفسهم، وأنفقوا أموالهم فيما أمر الله عز وجل وحضَّ عليه؛ فكل هؤلاء ثبتت لهم محبة الله عز وجل).
وروى أبو هريرة- رضي الله عنه- عن النبي -عليه الصلاة والسلام-: «أن رجلًا زار أخًا له في قرية أخرى، فأرصد الله له على مدرجته ملكًا، فلما أتى عليه، قال: أين تريد؟ قال: أريد أخًا لي في هذه القرية، قال: هل لك عليه من نعمة تربها؟ قال: لا، غير أني أحببته في الله عز وجل، قال: فإني رسول الله إليك بأن الله قد أحبك كما أحببته فيه» .
(والظاهر أن المراد بالأخوة هنا أخوة الإيمان، لا أخوة النسب. وقد أخبر الرجل الملك أنه لا يزور أخاه لغرض من أغراض الدنيا، وليس له داعية إلى زيارته إلا محبته إياه في طلب مرضاة الله، فأخبره الملك أنه رسول من الله أرسل إليه؛ ليبشره بأن الله سبحانه قد أحبَّه لمحبته صاحبه في الله. وهذا يدل على أن الحب في الله والتزاوُر فيه من أفضل الأعمال وأعظم القرب إذا تجرَّد ذلك عن أغراض الدنيا وأهواء النفوس).
• والحب في الله والبغض في الله من أعظم أسباب إظهار دين الإسلام، وكفِّ أذى المشركين. فإذا رأى غير المسلم وحدة المجتمع المسلم وتآلفه، دفعه ذلك التفكير للدخول في الإسلام. وأيضًا إذا رأى أعداء الإسلام هذه الآلفة والمحبة بين أفراد المجتمع المسلم فلن يستطيع النيل منهم، بل يفكر ألف مرة قبل أن يؤذي مسلم أو يحتل أي بقعة إسلامية.
أن تحب لأخيك ما تحبه لنفسك:
فالمؤمن يحبُّ لأخيه ما يحب لنفسه. فعن أنس بن مالك- رضي الله عنه - قال: قال رسول الله- عليه الصلاة والسلام -: «لَا يُؤْمِنُ أحَدُكُمْ، حتَّى يُحِبَّ لأخِيهِ ما يُحِبُّ لِنَفْسِهِ» . (قيل في هذا الحديث: إنه ربع الإسلام- والنفي هنا لا يقصد به نفي أصل الإيمان، وإنما نفي الكمال-.
"حتى يحب لأخيه ما يحب لنفسه" من الطاعات وأنواع الخيرات في الدين والدنيا، ويكره له ما يكره لنفسه، فإن رأى في أخيه المسلم نقصًا في دينه، اجتهد في إصلاحه، وإن رأى فيه خيرًا سدَّده وأعانه على الثبات عليه والزيادة منه؛ فلا يكون المؤمن مؤمنًا حقًّا حتى يرضى للناس ما يرضاه لنفسه، وهذا إنما يأتي من كمال سلامة الصدر من الغل والغش والحسد؛ فإن الحسد يقتضي أن يكره الحاسد أن يفوقه أحد في خير، أو يساويه فيه؛ لأنه يحب أن يمتاز على الناس بفضائله، وينفرد بها عنهم، والإيمان يقتضي خلاف ذلك، وهو أن يشركه المؤمنون كلهم فيما أعطاه الله من الخير).