خطبة الجمعة : سورة الكهف4 ( قصة أصحاب الجنتين - الناجحون في الحياة ) .
لفضيلة الدكتور محمد راتب النابلسي
الحمد لله نحمده، ونستعين به ونسترشده، ونعوذ به من شرور أنفسنـا وسيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلن تجد له ولياً مرشداً.
وأشهد أن لا إله إلا الله وحده ولا شريك له، إقراراً بربوبيته وإرغامـاً لمن جحد به وكفر.
وأشهد أن سيدنا محمداً صلى الله عليه وسلم رسول الله سيد الخلق والبشر، ما اتصلت عين بنظر أو سمعت أذن بخبر.
اللهم صل وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آله وأصحابه وعلى ذريته ومن والاه ومن تبعه إلى يوم الدين.
اللهم لا علم لنا إلا ما علمتنا إنك أنت العليم الحكيم، اللهم علمنا ما ينفعنا وانفعنا بما علمتنا وزدنا علماً، وأرِنا الحــق حقاً وارزقنا اتباعه وأرنا الباطل باطلاً وارزقنا اجتنابه، واجعلنا ممــــن يستمعون القول فيتبعون أحسنه، وأدخلنا برحمتك في عبادك الصالحين.
أيها الإخوة الكرام:
أي إنسان كائناً من كان، بأية صفة، وبأي مكان، وبأية مكانة مطلوب من قبل الله عز وجل، مطلوب ليسعده في الدنيا والآخرة، قال تعالى:
﴿ إِلَّا مَنْ رَحِمَ رَبُّكَ وَلِذَلِكَ خَلَقَهُمْ﴾[سورة هود من الآية 119]
فكل الفئات، وكل الطبقات إن صح التعبير، وفي كل الظروف، وفي كل الأحوال، وفي كل المناسبات، أنت مطلوب من قبل الله عز وجل إن كنت مريداً لله، أنعم وأكرم بهذا الطلب العظيم، وإن لم تكن فأنت مُراد من قبل الله..
هذه الخطبة، تتوجه إلى فئة من المجتمع، إلى فئة الناجحين في الحياة الذين حققوا أهدافهم كاملةً، قد تكون هذه الأهداف مادية ؛ كالذي وصل إلى حجم مالي كبير، وقد تكون هذه الأهداف علمية ؛ كالذي وصل إلى درجة علمية عالية جداً، وقد تكون هذه الأهداف من حيث القوة والشأن. هؤلاء الذين وصلوا إلى قمم المجد، وصلوا إلى أهدافهم كاملةً، هؤلاء معرضون لمرض خطير، هؤلاء معرضون لمرض الغرور، لمرضِ أن يتوهموا أن هذا الذي حصَّلوه بقوتهم، وسعيهم وجدهم، ونشاطهم وخبراتهم.
حينما تعزو النعمة إليك وقعت في مطبٍّ كبير، حينما تعزو هذه النعم التي هي بقدر الله، وبعلم الله، وبقوة الله، وبتوفيق الله وبفضل الله حينما تعزو هذه النعم إليك، وقعت في مطبٍّ كبير وعندئذ يستحق الإنسان التأديب.
هؤلاء الأعلام، هؤلاء اللامعون، هؤلاء المتفوقون، هؤلاء النجوم بكلمة واسعة، نجوم المجتمع، هؤلاء المتألقون، هذه الخطبة لهم اليوم هذا التألق، وذاك النجاح، وذاك التفوق، قد يعزيه الإنسان إلى ذاته فيقول: إنما حصلته بخبرتي، بعلمٍ مني، بكد وسعي، لذلك كان الدرس الثالث من دروس سورة الكهف، قصة صاحب الجنتين:
﴿ وَاضْرِبْ لَهُمْ مَثَلاً رَجُلَيْنِ جَعَلْنَا لِأَحَدِهِمَا جَنَّتَيْنِ مِنْ أَعْنَابٍ وَحَفَفْنَاهُمَا بِنَخْلٍ وَجَعَلْنَا بَيْنَهُمَا زَرْعاً (32) كِلْتَا الْجَنَّتَيْنِ آَتَتْ أُكُلَهَا وَلَمْ تَظْلِمْ مِنْهُ شَيْئاً وَفَجَّرْنَا خِلَالَهُمَا نَهَراً (33) وَكَانَ لَهُ ثَمَرٌ فَقَالَ لِصَاحِبِهِ وَهُوَ يُحَاوِرُهُ أَنَا أَكْثَرُ مِنْكَ مَالاً وَأَعَزُّ نَفَراً (34) وَدَخَلَ جَنَّتَهُ وَهُوَ ظَالِمٌ لِنَفْسِهِ قَالَ مَا أَظُنُّ أَنْ تَبِيدَ هَذِهِ أَبَداً (35) وَمَا أَظُنُّ السَّاعَةَ قَائِمَةً وَلَئِنْ رُدِدْتُ إِلَى رَبِّي لَأَجِدَنَّ خَيْراً مِنْهَا مُنْقَلَباً (36) قَالَ لَهُ صَاحِبُهُ وَهُوَ يُحَاوِرُهُ أَكَفَرْتَ بِالَّذِي خَلَقَكَ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ مِنْ نُطْفَةٍ ثُمَّ سَوَّاكَ رَجُلاً (37) لَكِنَّا هُوَ اللَّهُ رَبِّي وَلَا أُشْرِكُ بِرَبِّي أَحَداً (38) وَلَوْلَا إِذْ دَخَلْتَ جَنَّتَكَ قُلْتَ مَا شَاءَ اللَّهُ لَا قُوَّةَ إِلَّا بِاللَّهِ إِنْ تَرَنِ أَنَا أَقَلَّ مِنْكَ مَالاً وَوَلَداً (39) فَعَسَى رَبِّي أَنْ يُؤْتِيَنِ خَيْراً مِنْ جَنَّتِكَ وَيُرْسِلَ عَلَيْهَا حُسْبَاناً مِنَ السَّمَاءِ فَتُصْبِحَ صَعِيداً زَلَقاً (40) أَوْ يُصْبِحَ مَاؤُهَا غَوْراً فَلَنْ تَسْتَطِيعَ لَهُ طَلَباً (41) وَأُحِيطَ بِثَمَرِهِ فَأَصْبَحَ يُقَلِّبُ كَفَّيْهِ عَلَى مَا أَنْفَقَ فِيهَا وَهِيَ خَاوِيَةٌ عَلَى عُرُوشِهَا وَيَقُولُ يَا لَيْتَنِي لَمْ أُشْرِكْ بِرَبِّي أَحَداً (42) وَلَمْ تَكُنْ لَهُ فِئَةٌ يَنْصُرُونَهُ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَمَا كَانَ مُنْتَصِراً (43) هُنَالِكَ الْوَلَايَةُ لِلَّهِ الْحَقِّ هُوَ خَيْرٌ ثَوَاباً وَخَيْرٌ عُقْباً (44) ﴾[سورة الكهف]
هذه قصة أغفل الله أسماء أصحابها، وزمانها، ومكانها، وجزئياتها لأنها نموذج متكرر، في كل عصر، في كل مصر، هناك من يقول أنا هناك من يقول: إنما أوتيته على علم عندي هذا الذي يرى النعمة ولا يرى المنعم، القصة اليوم له.. وهو منزلق خطير، قد تدخل إلى المسجد وقد تصلي، وأنت معجب بنفسك، ترى أنك حصلت شيئاً ثميناً بقدراتك الذاتية، وتنسى فضل الله عليك.
هذه القصة، وهذا التعليق ـ أيها الإخوة ـ قصة الغرور البشري بالنعمة قصة متكررة، فالمغتر لا يأخذ النعمة بالشكر، بل بالغرور، ويتوهم أنه حصل عليها بفكره وعمله، وأنه بها قد استغنى عن الله، الذي خلقه وخلق له هذه النعمة، وأعطاه القدرة على التمتع بها.. قد تملك المال وقد تشتري الطعام، ولا يسمح الله لك أن تستمع بالطعام، قد تتزوج وتنجب الأولاد، ويكون الابن عبئاً عليك، سبباً لشقائك ؛ لأن الله جل جلاله بيده كل شيء.
أيها الإخوة الكرام:
هذا الذي يتوهم أن هذه النعم جاءته بذكائه، بقدراته بسعيه، بكده وينسى فضل الله عليه، يحاول أن ينميها، وأن ينمقها، ويحسب أنه في مَنَعة من قضاء الله.. فليدقق في هذه الآية: ﴿ كَلَّا إِنَّ الْإِنْسَانَ لَيَطْغَى (6) أَنْ رَآَهُ اسْتَغْنَى (7)﴾[سورة العلق]
أكبر مطبٍّ يقع به الإنسان، أن يتوهم أنه مستغنٍ عن الله، أن يتوهم أنه وصل إلى شيء، أو أنه يقف على أرض صلبة:
﴿ كَلَّا إِنَّ الْإِنْسَانَ لَيَطْغَى (6) أَنْ رَآَهُ اسْتَغْنَى (7)﴾
والآية الثانية:
﴿ وَإِذَا أَنْعَمْنَا عَلَى الْإِنْسَانِ أَعْرَضَ وَنَأَى بِجَانِبِهِ وَإِذَا مَسَّهُ الشَّرُّ كَانَ يَئُوساً (83)﴾[سورة الإسراء]
أعرض عن الله، نسي ربه، نسي كتابه، نسي أمره ونهيه، نسي المصير، نسي الجنة والنار.
الغرور البشري يوهم الإنسان أنه قادر، ويستطيع أن يفعل ما يريد وأن الأرض تعطيه من كنوزها، بقدرته هو، وينسى أن كل شيء في الكون خاضع لقدرة الله، وأن الأشياء التي تعطيه إنما سخَّرها الله له وسمح لها بأن تعطيه.. قال تعالى:
﴿ وَلَا تَقُولَنَّ لِشَيْءٍ إِنِّي فَاعِلٌ ذَلِكَ غَداً (23) إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ وَاذْكُرْ رَبَّكَ إِذَا نَسِيتَ وَقُلْ عَسَى أَنْ يَهْدِيَنِ رَبِّي لِأَقْرَبَ مِنْ هَذَا رَشَداً (24)﴾[سورة الكهف]
وقد ورد في الجامع الصغير، أنه " من عدَّ غداً من أجله فقد أساء صحبة الموت ".
من قال بعفوية، غداً سأفعل كذا، غداً سأدفع فاتورة الهاتف، ونسي أن غداً لا يملكه، " من عدَّ غداً من أجله فقد أساء صحبة الموت ".
يا أيها الإخوة الكرام:
يجب أن يعلم الإنسان علم اليقين، أنه لا يضمن القدرة على الفعل إطلاقاً، لأنك لا تضمن بقاءك إلى الغد، وإذا ضمنت بقاءك إلى الغد لا تضمن بقاء الذي تعلِّق الأمل عليه إلى الغد..
أعرف رجلاً وقع في محنة، وعلَّق أمله على إنسان، لينقذه في يوم محدد، وفي اليوم الذي سبق هذا اليوم، وافت المنية من علق الأمل عليه.
لا تملك بقاءك إلى اليوم التالي، كما أنك لا تضمن بقاء الذي علقت عليه الأمل إلى اليوم التالي.
لو ضمنت بقاء الاثنين، أنت والذي علقت الأمل عليه، لا تضمن الظروف، فقد تأتي الظروف وتحول بينك وبينما تريد.
﴿ وَلَا تَقُولَنَّ لِشَيْءٍ إِنِّي فَاعِلٌ ذَلِكَ غَداً (23) إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ وَاذْكُرْ رَبَّكَ إِذَا نَسِيتَ وَقُلْ عَسَى أَنْ يَهْدِيَنِ رَبِّي لِأَقْرَبَ مِنْ هَذَا رَشَداً (24)﴾
عناصر الفعل ليست بيدك، إنما هي في يد الله، فالذي ينسى أن يقول إن شاء الله، فقد وقع في مطبٍّ كبير، وقع في الشرك وهو لا يدري نسب القدرة إلى ذاته، يظن أنه ضمن المستقبل، أو ملك المستقبل.
الله جل جلاله أزلي أبدي، دائم الوجود دائم القدرة، فعَّال لما يريد لا يستطيع أحد من خلقه أن يمنع قضاءه وقدره، قال تعالى:
﴿ مَا يَفْتَحِ اللَّهُ لِلنَّاسِ مِنْ رَحْمَةٍ فَلَا مُمْسِكَ لَهَا وَمَا يُمْسِكْ فَلَا مُرْسِلَ لَهُ مِنْ بَعْدِهِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (2)﴾[سورة فاطر]
﴿ يَدُ اللَّهِ فَوْقَ أَيْدِيهِمْ﴾[سورة الفتح الآية 10]
﴿ اللَّهُ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ وَكِيلٌ (62)﴾[سورة الزمر]
﴿ أَلَا لَهُ الْخَلْقُ وَالْأَمْرُ تَبَارَكَ اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ (54)﴾[سورة الأعراف]
﴿ وَلِلَّهِ غَيْبُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَإِلَيْهِ يُرْجَعُ الْأَمْرُ كُلُّهُ فَاعْبُدْهُ وَتَوَكَّلْ عَلَيْهِ وَمَا رَبُّكَ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ (123)﴾[سورة هود]
﴿ وَمَا رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ رَمَى﴾[سورة الأنفال الآية 17]
وقد ورد في الحديث:
(( عَنْ أَبِي الدَّرْدَاءِ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهم عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ لِكُلِّ شَيْءٍ حَقِيقَةٌ وَمَا بَلَغَ عَبْدٌ حَقِيقَةَ الْإِيمَانِ حَتَّى يَعْلَمَ أَنَّ مَا أَصَابَهُ لَمْ يَكُنْ لِيُخْطِئَهُ وَمَا أَخْطَأَهُ لَمْ يَكُنْ لِيُصِيبَهُ )) [انفرد به أحمد]
هذا الخطاب موجه إلى المتألقين إلى الناجحين، إلى الذين وصلوا إلى أهدافهم، يجب أن لا تغيب عنك لحظة هذه الحقيقة، أنك وصلت إلى ما وصلت إليه بفضل الله عليك، قال تعالى:
﴿ وَأَنْزَلَ اللَّهُ عَلَيْكَ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَعَلَّمَكَ مَا لَمْ تَكُنْ تَعْلَمُ وَكَانَ فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكَ عَظِيماً (113)﴾[سورة النساء]
﴿ وَأَنَّهُ هُوَ أَضْحَكَ وَأَبْكَى (43)﴾[سورة النجم]
حينما تجلس في البيت، وتضحك مع أهلك، سمح الله لك أن تضحك ولو أن هناك خبراً سيئاً، يذهب الضحك كلياً من وجه الإنسان، سمح لك أن تضحك، طمأنك، سمح لك أن تكون مسروراً.
الإنسان الغافل ينسب الأفعال والنعم إلى ذاته، وينسى الله عز وجل ماذا يفعل الله معه ؟ حرصاً عليه، رحمة به، تقريباً له، إنقاذاً له من هذا الشرك، يؤدبه كيف يؤدبه ؟ يؤدبه ويؤدب الناس من حوله، فيأخذ النعمة منه فجأةً، أو يأخذها لسبب صغير، خطأ صغير.. ترتب عليه مئتا مليون مثلاً، يجب أن يدفعها فوراً، خطأ صغير يأخذ النعمة منه أو يأخذ صاحب النعمة، ليكون عبرةً لمن حوله، كل هذا ليلفتنا إلى أن كل شيء بيد الله، وأن الأسباب التي تُعطى إنما تعطى بقدرة الله انظروا إلى قول قارون، ودققوا فيه:
﴿ قَالَ إِنَّمَا أُوتِيتُهُ عَلَى عِلْمٍ عِنْدِي أَوَلَمْ يَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ قَدْ أَهْلَكَ مِنْ قَبْلِهِ مِنَ الْقُرُونِ مَنْ هُوَ أَشَدُّ مِنْهُ قُوَّةً وَأَكْثَرُ جَمْعاً وَلَا يُسْأَلُ عَنْ ذُنُوبِهِمُ الْمُجْرِمُونَ (78)﴾[سورة القصص]
الآية الثانية:
﴿ فَخَسَفْنَا بِهِ وَبِدَارِهِ الْأَرْضَ فَمَا كَانَ لَهُ مِنْ فِئَةٍ يَنْصُرُونَهُ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَمَا كَانَ مِنَ الْمُنْتَصِرِينَ (81)﴾[سورة القصص]
قد يرتكب الإنسان معصيةً كبيرة يستغفر الله ويتوب، أما حينما يشرك يقصمه الله عز وجل.
لو كان قارون صادقاً فيما يقول: إنما أوتيته على علم عندي ينبغي أن يحفظ هذه النعمة، لأنها ملكه، لو كان قارون صادقاً فيما يقول يجب أن يحفظ حياته، قال تعالى: ﴿ فَلَوْلَا إِذَا بَلَغَتِ الْحُلْقُومَ (83) وَأَنْتُمْ حِينَئِذٍ تَنْظُرُونَ (84) وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْكُمْ وَلَكِنْ لَا تُبْصِرُونَ (85) فَلَوْلَا إِنْ كُنْتُمْ غَيْرَ مَدِينِينَ (86) تَرْجِعُونَهَا إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (87)﴾[سورة الواقعة]
من يملك حياته بعد ساعة، من يملك أن يشفي نفسه من مرض عضال ولو كان يملك الملايين، ولو كان يملك الأرض كلها.
قارون لم يقدر على إبقاء النعمة، كما أنه لم يقدر على إبقاء حياته قال تعالى:
﴿ فَخَسَفْنَا بِهِ وَبِدَارِهِ الْأَرْضَ فَمَا كَانَ لَهُ مِنْ فِئَةٍ يَنْصُرُونَهُ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَمَا كَانَ مِنَ الْمُنْتَصِرِينَ (81)﴾[سورة القصص]
إذاً: أحد أسباب زوال النعم، أن تعزوها إلى قدراتك، أن تعزوها إلى ذكائك، أن تعزوها إلى علمك، أن تعزوها إلى خبرتك، أن تعزوها إلى ظروف تملكها، هذا سبب أول من أسباب زوال النعم..
كنت أقول سابقاً: طريق القمة طريق صعب جداً، طرقات صاعدة وملتوية، فيها الأَكَمات، وفيها العثرات، وفيها الحفر، وفيها الوحوش ولكنك إذا وصلت إلى قمة أي شيء بجهد جهيد، هناك طريق زلق تهبط به إلى القاع في ثانية واحدة، إنه طريق الغرور، المطب الكبير الذي ينتظر كل ناجح في الحياة هو الغرور.
أيها الإخوة الكرام، قال تعالى:
﴿ وَقُلْ رَبِّ أَدْخِلْنِي مُدْخَلَ صِدْقٍ وَأَخْرِجْنِي مُخْرَجَ صِدْقٍ وَاجْعَلْ لِي مِنْ لَدُنْكَ سُلْطَاناً نَصِيراً (80)﴾[سورة الإسراء]
لمَ لم يقل ربنا جل جلاله، رب اجعلني صادقاً، أليس في هذا إيجازاً؟ قد تدخل مدخلاً صادقاً، ولا تخرج منه صادقاً، قد تنشئ مشروعاً خيرياً وأنت في وسط المشروع ترى الأموال بين يديك، فيقسو قلبك فيتحول هذا المستشفى الخيري إلى مستشفى ابتزازي، قد تدعو إلى الله وفي أثناء الدعوة تقصر في متابعة رسول الله صلى الله عليه وسلم تزل القدم، لا تخرج من هذه الدعوة صادقاً، تدخلها صادقاً ولا تخرج منها صادقاً، مطب الغرور أكبر مطبٍّ يصيب الناجحين، في كل الحقول إطلاقاً.
سبب آخر لزوال النعم، أن تمنع حق الفقير، أن تمنع أصحاب الحقوق من حقوقهم، قال تعالى:
أصحاب البساتين والمزارع، مشاريع ضخمة جداً..
﴿ إِنَّا بَلَوْنَاهُمْ كَمَا بَلَوْنَا أَصْحَابَ الْجَنَّةِ إِذْ أَقْسَمُوا لَيَصْرِمُنَّهَا مُصْبِحِينَ (17) وَلَا يَسْتَثْنُونَ (18) فَطَافَ عَلَيْهَا طَائِفٌ مِنْ رَبِّكَ وَهُمْ نَائِمُونَ (19) فَأَصْبَحَتْ كَالصَّرِيمِ (20)﴾ [سورة القلم]
أحياناً يتلف الصقيع محاصيل كثيرة باهظة الثمن. قال تعالى:
﴿ فَطَافَ عَلَيْهَا طَائِفٌ مِنْ رَبِّكَ وَهُمْ نَائِمُونَ (19) فَأَصْبَحَتْ كَالصَّرِيمِ (20) فَتَنَادَوْا مُصْبِحِينَ (21) أَنِ اغْدُوا عَلَى حَرْثِكُمْ إِنْ كُنْتُمْ صَارِمِينَ (22) فَانْطَلَقُوا وَهُمْ يَتَخَافَتُونَ (23) أَنْ لَا يَدْخُلَنَّهَا الْيَوْمَ عَلَيْكُمْ مِسْكِينٌ (24) وَغَدَوْا عَلَى حَرْدٍ قَادِرِينَ (25) فَلَمَّا رَأَوْهَا قَالُوا إِنَّا لَضَالُّونَ (26) بَلْ نَحْنُ مَحْرُومُونَ (27)﴾
دهشوا، صعقوا، ليست هذه بساتيننا، ثم تأكدوا أنها بساتينهم..
﴿ فَلَمَّا رَأَوْهَا قَالُوا إِنَّا لَضَالُّونَ (26) بَلْ نَحْنُ مَحْرُومُونَ (27) قَالَ أَوْسَطُهُمْ أَلَمْ أَقُلْ لَكُمْ لَوْلَا تُسَبِّحُونَ (28) قَالُوا سُبْحَانَ رَبِّنَا إِنَّا كُنَّا ظَالِمِينَ (29) فَأَقْبَلَ بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ يَتَلَاوَمُونَ (30) قَالُوا يَا وَيْلَنَا إِنَّا كُنَّا طَاغِينَ (31) عَسَى رَبُّنَا أَنْ يُبْدِلَنَا خَيْراً مِنْهَا إِنَّا إِلَى رَبِّنَا رَاغِبُونَ (32) كَذَلِكَ الْعَذَابُ وَلَعَذَابُ الْآَخِرَةِ أَكْبَرُ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ (33)﴾[سورة القلم]
أجمل تعقيب على هذه القصة هو قوله تعالى:﴿كَذَلِكَ الْعَذَابُ وَلَعَذَابُ الْآَخِرَةِ أَكْبَرُ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ (33)﴾
كل أنواع العذاب التي يسوقها الله لعباده، من هذا النوع، ليدفعهم إلى العبودية الصادقة، ليدفعهم إلى بابه، ليسعدهم، لذلك قال بعض علماء التوحيد: لا ينبغي أن تقول ( الله الضار) الضار من أسمائه، ينبغي أن تقول (الضار النافع) يبغي أن تقول (الخافض الرافع) ؛ لأنه يخفض ليرفع يبغي أن تقول (المذل المعز) ؛ لأنه يذل ليعز، يبغي أن تقول (المانع المعطي) لأنه يمنع ليعطي..
يقول الله جل جلاله، كما قلت في أول درس من دروس الكهف:
﴿ وَعَسَى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئاً وَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وَعَسَى أَنْ تُحِبُّوا شَيْئاً وَهُوَ شَرٌّ لَكُمْ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ (216)﴾[سورة البقرة]
فأحد أسباب زوال النعم، أن تمنع حق الفقير..
أيها الإخوة الكرام:
فكرة فاتتني في الموضوع الأول ؛ أصحاب النبي وهم على ما هم عليه من رفعة الشأن والقرب من الله، قالوا كلمة قبيل غزوة حنين قالوا: لن نُغلب من قلة، أصبحنا أقوياء، ثم جاءهم من الله التأديب قال تعالى:
﴿ لَقَدْ نَصَرَكُمُ اللَّهُ فِي مَوَاطِنَ كَثِيرَةٍ وَيَوْمَ حُنَيْنٍ إِذْ أَعْجَبَتْكُمْ كَثْرَتُكُمْ فَلَمْ تُغْنِ عَنْكُمْ شَيْئاً وَضَاقَتْ عَلَيْكُمُ الْأَرْضُ بِمَا رَحُبَتْ ثُمَّ وَلَّيْتُمْ مُدْبِرِينَ (25)﴾[سورة التوبة]
أيها الإخوة الكرام:
بدر وحنين، في حياة كل مؤمن في اليوم مائة مرة، إذا قلت الله تولاك الله، أنت موحد، وما تعلمت العبيد أفضل من التوحيد، وإذا قلت أنا تخلى عنك، من اتكل على نفسه أوكله الله إياها، فرق بين الإيمان والشرك، أن تقول الله، أو تقول أنا، فإذا قلت أنا تخلى الله عنك فأنت بين التولي والتخلي، والأمر إليك، إذا وحدت تولاك، إذا أشركت تخلى عنك، هذا درس بليغ، لم ينجُ أصحاب رسول الله من التأديب.
أيها الإخوة الكرام:
صاحب الجنتين، أخذ بالأسباب، وأعطته هذه الأسباب هاتين الجنتين ولكن نسي إرادة المسبب، نسي أن هذه الأسباب لا تعطي إلا بأمر الله نسي أن هذه الأسباب لا تعطي إلا إذا سمح الله لها أن تعطي، لذلك:
من أخذ بالأسباب واعتمد عليها وألهها فقد أشرك، ومن لم يأخذ بها فقد عصى.. يجب أن تأخذ بالأسباب، ويجب أن تتوكل على الله، يجب ان تأخذ بالأسباب وكأنها كل شيء، ويجب أن تتوكل على الله وكأنها ليست بشيء، هذا الموقف الدقيق وقفه النبي عليه الصلاة والسلام في الهجرة، أخذ بكل الأسباب، اختار مصاحباً، اختبأ في غار ثور، عين من يأتيه بالأخبار، عين من يمحو له الآثار، اختار دليلاً ورجح فيه الخبرة على الولاء، فعل كل شيء، ولما وصل المشركون إلى باب الغار، قال له الصديق يا رسول الله، ولو نظر أحدهم إلى موطئ قدمه لرآنا، قال: يا أبا بكر، ما ظنك باثنين الله ثالثهما..
لو أنه اخذ بالأسباب واعتمد عليها، ينبغي أن ينهار في هذه اللحظة أخذ بالأسباب طاعةً لله، واعتماده على الله دائماً، وهذا منزلق خطير أحياناً الناجح في حياته، يأخذ بالأسباب، وهذه الأسباب تعطيه، ولكن ينسى أن الله سمح لها أن تعطيه، وقع في الشرك، يؤدب بإحباط عمله يؤدب لأن هذه الأسباب التي يأخذ بها لا تعطيه ما يريد في بعض الأحيان هنا يُدهش، أنك اعتمدت عليها ولم تعتمد على الله عز وجل لذلك إما أن يعطلها، أو أن يلغي نتائجها، وهذا تأديب من الله عز وجل.
يعني بكلمة جامعة مانعة ؛ الغرب أخذ بالأسباب، ألَّه الأسباب والمسلمون تركوا الأسباب، وكلاهما في خطأ كبير، يجب أن نأخذ بها وكأنها كل شيء ويجب أن نتوكل على الله وكأنها ليست بشيء..
قد يسأل سائل: لماذا يؤدبنا ربنا عز وجل إذا أشركنا ؟.. لأنه يريدنا له ؛ لأن السعادة كلها عنده، لأن السلامة عنده، لأن الجنة والنار عنده فحينما يؤدبنا فلكي ندع الشرك، كي نلتفت إليه، كي نسعد بقربه، والله عز وجل كما ورد في الحديث القدسي الصحيح:
((يَا عِبَادِي لَوْ أَنَّ أَوَّلَكُمْ وَآخِرَكُمْ وَإِنْسَكُمْ وَجِنَّكُمْ كَانُوا عَلَى أَتْقَى قَلْبِ رَجُلٍ وَاحِدٍ مِنْكُمْ مَا زَادَ ذَلِكَ فِي مُلْكِي شَيْئًا يَا عِبَادِي لَوْ أَنَّ أَوَّلَكُمْ وَآخِرَكُمْ وَإِنْسَكُمْ وَجِنَّكُمْ كَانُوا عَلَى أَفْجَرِ قَلْبِ رَجُلٍ وَاحِدٍ مَا نَقَصَ ذَلِكَ مِنْ مُلْكِي شَيْئًا يَا عِبَادِي لَوْ أَنَّ أَوَّلَكُمْ وَآخِرَكُمْ وَإِنْسَكُمْ وَجِنَّكُمْ قَامُوا فِي صَعِيدٍ وَاحِدٍ فَسَأَلُونِي فَأَعْطَيْتُ كُلَّ إِنْسَانٍ مَسْأَلَتَهُ مَا نَقَصَ ذَلِكَ مِمَّا عِنْدِي إِلَّا كَمَا يَنْقُصُ الْمِخْيَطُ إِذَا أُدْخِلَ الْبَحْرَ يَا عِبَادِي إِنَّمَا هِيَ أَعْمَالُكُمْ أُحْصِيهَا لَكُمْ ثُمَّ أُوَفِّيكُمْ إِيَّاهَا فَمَنْ وَجَدَ خَيْرًا فَلْيَحْمَدِ اللَّهَ وَمَنْ وَجَدَ غَيْرَ ذَلِكَ فَلَا يَلُومَنَّ إِلَّا نَفْسَهُ ))
[أخرجه مسلم والترمذي وابن ماجه وأحمد والدرامي من حديث أَبِي ذَرٍّ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهم عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِيمَا رَوَى عَنِ اللَّهِ تَبَارَكَ وَتَعَالَى أَنَّهُ قَالَ: يَا عِبَادِي إِنِّي حَرَّمْتُ الظُّلْمَ عَلَى نَفْسِي وَجَعَلْتُهُ بَيْنَكُمْ مُحَرَّمًا فَلَا تَظَالَمُوا.. ]
كلمة جافية، قاسية، بشعة أن يقول: أنا أكثر منك مالاً وأعز نفراً..
قصة رمزية سمعتها ؛ رجل يجلس مع زوجته يأكل دجاجة، طرق طارق فتحتِ الباب فإذا بالباب سائل، قال لها: من مال الله، فهمَّت أن تعطيه قطعة من هذه الدجاجة ليأكلها فنهرها زوجها، وقال: اطرديه فطرَدَته. بعد حين ساءت العلاقة بينهما فطلقها، وبعد حين آخر خطبها رجل ميسور، وكانت تجلس معه على الطعام ويأكلون دجاجة، طُرق الباب ذهبت لتفتح الباب فإذا بالباب سائل، فاضطربت، قال: مالكِ اضطربتِ ؟ قالت: إن بالباب سائلاً، قال: هناك شيء آخر، قالت: أتدري من هو السائل؟ إنه زوجي الأول، قال أتدرين من أنا ؟ أنا السائل الأول !..
حينما تعزو النعم إليك، وتبخل بها، تُحرم منها تأديباً:
﴿ فَإِنْ كَذَّبُوكَ فَقُلْ رَبُّكُمْ ذُو رَحْمَةٍ وَاسِعَةٍ وَلَا يُرَدُّ بَأْسُهُ عَنِ الْقَوْمِ الْمُجْرِمِينَ (147)﴾[سورة الأنعام]
الشيء الأخطر أن صاحب الجنتين قال لصاحبه:
﴿ وَكَانَ لَهُ ثَمَرٌ فَقَالَ لِصَاحِبِهِ وَهُوَ يُحَاوِرُهُ أَنَا أَكْثَرُ مِنْكَ مَالاً وَأَعَزُّ نَفَراً (34)﴾[سورة الكهف]
كلمة جافية، قاسية.. رجل أظن به الصلاح والإيمان، قال خطأً في سهرة مع أصدقائه: أنا لن أموت قريباً، قيل له لماذا ؟ قال لأنني آكل قليلاً وأمشي كثيراً، ولا أدخن، ولا أحمِّل الأشياء فوق ما أطيق.. وهذا كلام علمي ـ هذه أسباب طول العمر ـ تكلم هذا يوم السبت، فكان في السبت القادم تحت أطباق الثرى..
إياك أن تحكم على الله، إياك أن تتقمص دور الإله، إياك أن تحكم على المستقبل، إياك أن تقول أنا.. ﴿ أَنَا أَكْثَرُ مِنْكَ مَالاً وَأَعَزُّ نَفَراً (34)﴾
ويا ليته بقي عند هذا الحد ولكنه قال:
﴿ وَدَخَلَ جَنَّتَهُ وَهُوَ ظَالِمٌ لِنَفْسِهِ قَالَ مَا أَظُنُّ أَنْ تَبِيدَ هَذِهِ أَبَداً (35) وَمَا أَظُنُّ السَّاعَةَ قَائِمَةً وَلَئِنْ رُدِدْتُ إِلَى رَبِّي لَأَجِدَنَّ خَيْراً مِنْهَا مُنْقَلَباً (36)﴾[سورة الكهف]
الآن حكم على المستقبل، ارتكب حماقة في الحاضر قال: أنا أكثر منك مالاً وأعزُّ نفراً، والآن حكم على المستقبل، قال: وما أظن أن تبيد هذه أبداً انتقل إلى أصعب، قال: وما أظن الساعة قائمة، نفى قيام القيامة، نفى البعث، نفى الآخرة، وفرضاً لو كان هناك يوم آخر: ﴿ وَلَئِنْ رُدِدْتُ إِلَى رَبِّي لَأَجِدَنَّ خَيْرًا مِنْهَا مُنقَلَبًا﴾
على ماذا اعتمد، اعتمد على فكرة يعتنقها معظم الأغنياء، يعني إذا أحب الله عز وجل إنساناً جعله غنياً، وإذا أحب إنساناً أطلعه على ملكه فكل إنسان اغتنى، وسافر إلى أطراف الدنيا، يتوهم في سذاجة أن الله يحبه، فحينما أغناه قال: ﴿وَلَئِنْ رُدِدْتُ إِلَى رَبِّي لَأَجِدَنَّ خَيْرًا مِنْهَا مُنقَلَبًا﴾
مع أن الله عز وجل يقول:
﴿ فَأَمَّا الْإِنْسَانُ إِذَا مَا ابْتَلَاهُ رَبُّهُ فَأَكْرَمَهُ وَنَعَّمَهُ فَيَقُولُ رَبِّي أَكْرَمَنِ (15) وَأَمَّا إِذَا مَا ابْتَلَاهُ فَقَدَرَ عَلَيْهِ رِزْقَهُ فَيَقُولُ رَبِّي أَهَانَنِ (16)﴾[سورة الفجر]
سيقول هو ربي أكرمني
كلا.. هذه أداة ردع ونفي، هذا كلام غير صحيح، هذا كلامكم هذه مقولتكم، ليس عطائي إكراماً، ولا منعي حرماناً، عطائي ابتلاء وحرماني دواء..
أي شيء تملكه إياك أن تسميه نعمة، بل هو ابتلاء، فإذا وظفته في طاعة الله فهو نعمة ورب الكعبة، وإذا وظفته في المعاصي والآثام فهو نقمة ورب الكعبة، إياك أن تسمي المال عطاء، المال الذي أنفق في طاعة الله هو العطاء، أما إذا أنفق على الملذات والمعاصي والآثام هو الغنى المطغي، وهو أحد أكبر المصائب في الدنيا، الغنى المطغي.. الصحة، إذا استخدمتها في طاعة الله كانت نعمة، وإذا استخدمتها في المعاصي والآثام كانت نقمة، أي حظوظ الدنيا، نعمة أو نقمة، نعمة إذا وظفت في طاعة الله، ونقمة إذا وظفت المعاصي والآثام..
فهذا صاحب الجنتين توهم أن الله يحبه لأنه أغناه، فإذا كان هناك جدلاً يوم قيامة ؛ ولئن رددت إلى ربي لأجدن خيراً منها منقلباً، هذا الوهم الرابع..
الذي يقلق الناس، إما أن تزول النعمة عنهم، أو أن يزولوا عنها، لو شققت على صدر خمسة آلاف بليون إنسان في الأرض هناك قلقان أن تزول هذه النعمة، أو أن يزول هو عنها بالموت، لذلك يحرص الناس على أرزاقهم، وعلى النعم التي بين أيديهم وعلى حياتهم حرصاً لا حدود له، لكنَّ المؤمن معافى من هذين المرضين، قال تعالى:
إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا تَتَنَزَّلُ عَلَيْهِمُ الْمَلَائِكَةُ أَلَّا تَخَافُوا وَلَا تَحْزَنُوا وَأَبْشِرُوا بِالْجَنَّةِ الَّتِي كُنْتُمْ تُوعَدُونَ (30)﴾[سورة فصلت]
الماضي مغطى بعدم الحزن على ما فاتك منه، والمستقبل مغطى بعدم القلق والخوف:
﴿ قُلْ لَنْ يُصِيبَنَا إِلَّا مَا كَتَبَ اللَّهُ لَنَا هُوَ مَوْلَانَا وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ (51)﴾[سورة التوبة]
هناك أغنياء مؤمنون تتمنى الغنى من تواضعهم، وسخائهم، وحبهم للخير، وإنفاقهم المعتدل أنا لا أعمم أبداً إن الغني الشارد عن الله عز وجل، أما الغني المؤمن تتمنى أن تكون مثله غنياً، بهذا التواضع وذاك السخاء، وهذه الرحمة وهذا الإنفاق المدروس، دون زيادة، ودون تبذير، ودون إسراف.
يقول الله عز وجل رداً على زعم هؤلاء الأغنياء غير المؤمنين بأن الله يحبهم:
﴿ فَلَا تُعْجِبْكَ أَمْوَالُهُمْ وَلَا أَوْلَادُهُمْ إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُعَذِّبَهُمْ بِهَا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَتَزْهَقَ أَنْفُسُهُمْ وَهُمْ كَافِرُونَ (55)﴾[سورة التوبة]
دقق الآن ؛ يريد الله أن يعذب الغني بماله، الغني الكافر قد يكون ماله سبب قتله، وقد يكون ماله سبب شقائه، وقد يكون ماله سبب سجنه:
إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُعَذِّبَهُمْ بِهَا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَتَزْهَقَ أَنفُسُهُمْ وَهُمْ كَافِرُونَ
يعذبهم الله حتى بأولاده، فجور أولادهم، وانحراف أولادهم قد يكون سبباً في شقائهم.
﴿ أَفَرَأَيْتَ الَّذِي كَفَرَ بِآَيَاتِنَا وَقَالَ لَأُوتَيَنَّ مَالاً وَوَلَداً (77) أَطَّلَعَ الْغَيْبَ أَمِ اتَّخَذَ عِنْدَ الرَّحْمَنِ عَهْداً (78) كَلَّا سَنَكْتُبُ مَا يَقُولُ وَنَمُدُّ لَهُ مِنَ الْعَذَابِ مَدّاً (79) وَنَرِثُهُ مَا يَقُولُ وَيَأْتِينَا فَرْداً (80)﴾[سورة مريم]
أيها الإخوة الكرام:
المؤمن ينظر إلى المنعم، لا إلى النعمة، بينما غير المؤمن ينظر إلى النعمة لا إلى المنعم، المؤمن يعلم أن المنع قد يكون أعظم العطاء، ربما كان المنع عطاء، وربما كان العطاء منعاً، وغير المؤمن يرى العكس.
الإيمان سعادة كبرى، رؤيةٌ صحيحة، والإيمان مرتبة أخلاقية والإيمان مرتبة جمالية..
حاسبوا أنفسكم قبل أن تحاسبوا وزنوا أعمالكم قبل أن توزن عليكم واعلموا أن ملك الموت قد تخطانا إلى غيرنا، وسيتخطى غيرنا إلينا فلنتخذ حذرنا، الكيس من دان نفسه وعمل لما بعد الموت والعاجز من أتبع نفسه هواها وتمنى على الله الأماني والحمد لله رب العالمين.
الخطبة الثانية:
أيها الإخوة الكرام:
أقرا عليكم الآيات مرةً ثانية كي نربط الشرح بنص الآيات:
﴿ وَاضْرِبْ لَهُمْ مَثَلاً رَجُلَيْنِ جَعَلْنَا لِأَحَدِهِمَا جَنَّتَيْنِ مِنْ أَعْنَابٍ وَحَفَفْنَاهُمَا بِنَخْلٍ وَجَعَلْنَا بَيْنَهُمَا زَرْعاً (32) كِلْتَا الْجَنَّتَيْنِ آَتَتْ أُكُلَهَا وَلَمْ تَظْلِمْ مِنْهُ شَيْئاً وَفَجَّرْنَا خِلَالَهُمَا نَهَراً (33) وَكَانَ لَهُ ثَمَرٌ فَقَالَ لِصَاحِبِهِ وَهُوَ يُحَاوِرُهُ أَنَا أَكْثَرُ مِنْكَ مَالاً وَأَعَزُّ نَفَراً (34) وَدَخَلَ جَنَّتَهُ وَهُوَ ظَالِمٌ لِنَفْسِهِ قَالَ مَا أَظُنُّ أَنْ تَبِيدَ هَذِهِ أَبَداً (35) وَمَا أَظُنُّ السَّاعَةَ قَائِمَةً وَلَئِنْ رُدِدْتُ إِلَى رَبِّي لَأَجِدَنَّ خَيْراً مِنْهَا مُنْقَلَباً (36) قَالَ لَهُ صَاحِبُهُ وَهُوَ يُحَاوِرُهُ أَكَفَرْتَ بِالَّذِي خَلَقَكَ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ مِنْ نُطْفَةٍ ثُمَّ سَوَّاكَ رَجُلاً (37) لَكِنَّا هُوَ اللَّهُ رَبِّي وَلَا أُشْرِكُ بِرَبِّي أَحَداً (38) وَلَوْلَا إِذْ دَخَلْتَ جَنَّتَكَ قُلْتَ مَا شَاءَ اللَّهُ لَا قُوَّةَ إِلَّا بِاللَّهِ إِنْ تَرَنِ أَنَا أَقَلَّ مِنْكَ مَالاً وَوَلَداً (39) فَعَسَى رَبِّي أَنْ يُؤْتِيَنِ خَيْراً مِنْ جَنَّتِكَ وَيُرْسِلَ عَلَيْهَا حُسْبَاناً مِنَ السَّمَاءِ فَتُصْبِحَ صَعِيداً زَلَقاً (40) أَوْ يُصْبِحَ مَاؤُهَا غَوْراً فَلَنْ تَسْتَطِيعَ لَهُ طَلَباً (41) وَأُحِيطَ بِثَمَرِهِ فَأَصْبَحَ يُقَلِّبُ كَفَّيْهِ عَلَى مَا أَنْفَقَ فِيهَا وَهِيَ خَاوِيَةٌ عَلَى عُرُوشِهَا وَيَقُولُ يَا لَيْتَنِي لَمْ أُشْرِكْ بِرَبِّي أَحَداً (42) وَلَمْ تَكُنْ لَهُ فِئَةٌ يَنْصُرُونَهُ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَمَا كَانَ مُنْتَصِراً (43) هُنَالِكَ الْوَلَايَةُ لِلَّهِ الْحَقِّ هُوَ خَيْرٌ ثَوَاباً وَخَيْرٌ عُقْباً (44) ﴾[سورة الكهف]
أيها الإخوة الكرام:
هذا هو الدرس الثالث من دروس سورة الكهف، الذي ندبنا النبي أن نقرأها كل يوم جمعة، إنها متعلقة بحركتنا في الحياة اليومية، متعلقة بحالتنا النفسية، متعلقة بإقبالنا على ربنا، متعلقة بالشرك والتوحيد فأرجو الله سبحانه وتعالى أن يعينني على متابعة دروس هذه السورة في الأسابيع القادمة.
الدعاء:
اللهم اهدنا فيمن هديت، وعافنا فيمن عافيت، وتولنا فيمن توليت وبارك لنا فيما أعطيت، وقنا واصرف عنا شر ما قضيت، فإنك تقضي بالحق ولا يُقضى عليك، إنه لا يذل من واليت، ولا يعز من عاديت تباركت ربنا وتعاليت، لك الحمد على ما قضيت، نستغفرك ونتوب إليك
اللهم هب لنا عملاً صالحاً يقربنا إليك.
اللهم أعطنا ولا تحرمنا، أكرمنا ولا تهنا، آثرنا ولا تؤثر علينا أرضنا وارض عنا، اقسم لنا من خشيتك، ما تحول به بيننا وبين معصيتك ومن طاعتك ما تبلغنا بها جنتك، ومن اليقين ما تهون علينا مصائب الدنيا ومتعنا اللهم بأسماعنا، وأبصارنا، وقوتنا ما أحييتنا، واجعله الوارث منا، واجعل ثأرنا على من ظلمنا، وانصرنا على من عادانا ولا تجعل الدنيا أكبر همنا ولا مبلغ علمنا، ولا تسلط علينا من لا يخافك ولا يرحمنا، مولانا رب العالمين.
اللهم أصلح لنا ديننا الذي هو عصمة أمرنا، ودنيانا التي فيها معاشنا وأصلح لنا آخرتنا التي إليها مردنا، واجعل الحياة زاداً لنا من كل خير واجعل الموت راحة لنا من كل شر، مولانا رب العالمين.
اللهم اكفنا بحلالك عن حرامك، وبطاعتك عن معصيتك، وبفضلك عمن سواك.
اللهم لا تؤمنا مكرك، ولا تهتك عنا سترك، ولا تنسنا ذكرك يا رب العالمين.
اللهم استر عوراتنا، وآمن روعاتنا، وآمنا في أوطاننا، واجعل هذا البلد آمناً سخياً رخياً، وسائر بلاد المسلمين.
اللهم إنا نعوذ بك من الخوف إلا منك، ومن الفقر إلا إليك، ومن الذل إلا لك، نعوذ بك من عضال الداء، ومن شماتة الأعداء، ومن السلب بعد العطاء.
اللهم ما رزقتنا مما نحب فاجعله عوناً لنا فيما تحب، وما زويت عنا ما نحب فاجعله فراغاً لنا فيما تحب.
اللهم صن وجوهنا باليسار، ولا تبذلها بالإقتار، فنسأل شر خلقك ونبتلى بحمد من أعطى وذم من منع، وأنت من فوقهم ولي العطاء وبيدك وحدك خزائن الأرض والسماء.
اللهم كما أقررت أعين أهل الدنيا بدنياهم فأقرر أعيننا من رضوانك يا رب العالمين.
اللهم بفضلك وبرحمتك أعل كلمة الحق والدين، وانصر الإسلام والمسلمين، وأعز المسلمين، وخذ بيد ولاتهم إلى ما تحب وترضى إنك على ما تشاء قدير وبالإجابة جدير.