خطبة الجمعة = خ1 : الأمراء والعلماء - خ2 : اذكر نعَمَ ربك
لفضيلة الدكتور محمد راتب النابلسي
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله نحمده، ونستعين به ونسترشده، ونعوذ به من شرور أنفـسنا وسـيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلن تجد له ولياً مرشداً، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، إقـراراً بربوبيته، وإرغـاماً لمن حجد به وكفر، وأشـهد أن سيدنا محمداً صلى الله عليه وسلم رسول الله، سيد الخلق والبشر، ما اتصلت عين بنظر، وسمعت أذن بخبر، اللـهم صلي وسلم وبارك على سيدنا محمد، وعلى آله وأصحابه، وعلى ذريته ومن والاه ومن تبعه إلى يوم الدين.
اللهم لا علم لنا إلا ما علمتنا، إنك أنت العليم الحكيم اللهم علمنا ما ينفعنا، وانفعنا بما علمتنا، وزدنا علماً، وأرنا الحق حقاً وارزقنا اتباعه، وأرنا الباطل باطلاً وارزقنا اجتنابه، واجعلنا ممن يستمعون القول فيتبعون أحسنه، وأدخلنا برحتك في عبادك الصالحين.
أيها الأخوة الكرام: جلست ساعات طويلة أبحث عن موضوع يصلح لهذه الخطبة، كلما اخترت موضوعاً توقعت أن يكون هناك موضوعٌ أفضل منه، ثم ضاقت بي الحيل وأنا أعرض عليكم مشكلة كل خطيب يهيئ موضوعاً لخطبة الجمعة، لكنه استقر اختياري على أن أقدم لكم مقتطفات من ندوة كانت عن سيدنا عمر في بعض الأجهزة الإعلامية، ومن محاضرة ألقيتها في بيروت عن الإمام الأوزاعي، وجمعت بين الموضوعين فيما ورد عن رسول الله صلى الله عليه وسلم:
((صنفان من أمتي إذا صلحوا صلح الناس، وإذا فسدوا فسد الناس، الأمراء والعلماء))
وفي رواية ثانية:
((صنفان من أمتي إذا صلحوا صلحت الأمة، الأمراء والفقهاء))
وقد قيل العدل حسن ولكن في الأمراء أحسن، والسخاء حسن ولكن في الأغنياء أحسن، والورع حسن ولكن في العلماء أحسن، والصبر حسن لكن في الفقراء أحسن، والتوبة حسن لكن في الشباب أحسن، والحياء حسن لكن في النساء أحسن، وحينما قال الله عز وجل:﴿أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ﴾(سورة النساء)
فسر الإمام الشافعي أولي الأمر بأنهم العلماء والأمراء، العلماء يعلمون الأمر والأمراء ينفذون الأمر.
أيها الأخوة الكرام الخليفة الراشد عمر بن الخطاب رضي الله عنه عين والياً وأراد أن يمتحنه، قال: ماذا تفعل إذا جاءك الناس بسارق أو بناهب ؟ قال: أقطع يده. قال: إذاً إن جاءني من رعيتك من هو جائع أو عاطل فسأقطع يدك، يا هذا إن الله قد استخلفنا على خلقه لنسد جوعتهم ونستر عورتهم، ونوفر لهم حرفتهم، فإن وفينا لهم ذلك تقاضيناهم شكرها، إن هذه الأيدي خلقت لتعمل، فإذا لم تجد في الطاعة عملاً التمست في المعصية أعمالاً، فاشغلها بالطاة، قبل ن تشغلك بالمعصية.
أيها الأخوة الكرام: هذا الخليفة الراشد عرف مقدار المسؤولية التي حمله الله إياها، قال مرة: لست خيراً من أحدكم ولكنني أثقلكم حملاً، والله لو تعثرت بغلة في العراق لحاسبني الله عنها، لمَ لم تصلح لها الطريق يا عمر ؟
مرة كان مع سيدنا عبد الرحمن بن عوف، يتجولان في أسواق المدينة، فرأوا في ظاهر المدينة قافلة حطت رحالها، فقال عمر لسيدنا عبد الرحمن رضي الله عنهما: تعال نحرس هذه القافلة، وإذا بعمر يسمع صوت بكاء صغير !! فاتجه إلى أمه وقال: أرضعيه. أرضعته ثم بكى ثانية، فقال: أرضعيه. أرضعته ثم بكى ثالثة، فتعجب ماذا تفعل !! ليس هذا هو الإرضاع !! فقال لها: يا أمة السوء أرضعيه. فقالت: وما شأنك بنا ؟ إنني أفطمه. قال: ولم ؟ قالت: لأن عمر لا يعطينا العطاء إلا بعد الفطام.
((التعويض العائلي ))
تروي هذه القصة أن عمر بن الخطاب ضرب جبهته وقال: ويحك يا عمر. كم قتلت من أطفال المسلمين ؟ فلما صلى بأصحابه الفجر لم يفهم أصحابه قراءته من شدة بكائه، فكان يدعو ويقول: ربي هل قبلت توبتي فأهنئ نفسي ؟ أم رددتها فأعزيها ؟ وأصدر توجيها جديداً أن العطاء يستحق من حين الولادة.
سيدنا عمر جاءه سؤال من أحد الولاة قال: يا أمير المؤمنين إن رجالاً اغتصبوا مالاً ليس لهم، لست أقدر على استخراجه منهم إلا أن أمسهم بالعذاب، فإذا أذنت لي فعلت، فقال: يا سبحان الله أتستأذنني في تعذيب بشر ؟ وهل أنا لك حصن من عذاب الله ؟ وهل رضائي عنك ينجيك من سخط الله ؟ أقم عليهم البينة، فإن قامت فخذهم بالبينة، فإن لم تقم فادعهم إلى الإقرار، فإن أقروا فخذهم بإقرارهم، فإن لم يقروا فادعهم لحلف اليمين، فإن حلفوا فأطلق سراحهم، ويم الله لأن يلقوا الله بخيانتهم أهون من أن ألقى الله بدمائهم.
سيدنا عمر وجه توجيهاً لبعض الولاة، قال له: لا تغلق بابك دونهم، فيأكل قويهم ضعيفهم، إذا كان هناك استحالة للوصول إلى القيادة فإن الذين تحت هذا القائد ربما يظلمون الناس، لا تغلق بابك دونهم، فيأكل قويهم ضعيفهم.
أرسل كتاباً إلى بعض الولاة، قال: أما بعد فقد نمي إلي أنه قد صار لك هيئة حسنة في مطعمك ومشربك، وملبسك، ومركبك ومسكنك، ليست لعامة المسلمين، إحذر يا عبد الله أن تكون كدابة مرت بوادٍ خصب فجعلت همها في السِمَن وفي السِمَن حتفها.
هذا الخليفة الراشد حينما توفي سيدنا الصديق ألقى خطبة الخلافة كما يقال اليوم: خطبة العرش، ألقى خطبة الخلافة فقال فيها: أيها الناس كنت خادم رسول الله، وسيفه، وجلواذه، فكان يغمدني إذا شاء، وتوفي عني وهو عني راضٍ، الحمد لله على هذا كثيراً وأنا به أسعد، ثم آلت الأمور إلى الصديق، فكنت خادمه وكنت جلواذه وكنت سيفه المسلول، فكان يغمدني إذا شاء، وتوفي عني وهو عني راضٍ، الحمد لله على هذا كثيراً وأنا به أسعد، ثم آلت الأمور إلي، اعلموا أيها الناس أن تلك الشدة قد أضعفت، وإنما تكون على أهل المعصية والفجور، أما أهل التقوى والعفاف فأضع خدي لهم ليطئوه بأقدامهم.
أيها الناس ! خذوني بخمس خصال، لكم علي أن لا آخذ من أموالكم شيئاً إلا بحقه، ولكم علي أن لا أنفقه إلا بحقه، ولكم علي أن أزيد عطاياكم إن شاء الله تعالى، ولكم علي أن لا أجمركم في البعوث، فإذا غبتم في البعوث فأنا أبو العيال حتى ترجعوا.
هذا الخليفة الراشد تفقدت رعيته مرة، فإذا بالفعاليات الاقتصادية ليست بأيدي المسلمين، وبخهم توبيخاً شديداً وقال لهم: كيف بكم إذا أصبحتم عبيداً عندهم ؟ أدرك هذا الخليفة الراشد قبل ألفٍ وأربعمائة عام أن المنتج قوي، وأن المستهلك ضعيف، وأن المنتج يتحكم في المستهلك.
سيدنا الصديق رضي الله عنه، قال لعمر مرة: يا عمر (عقب وفاة النبي عليه الصلاة والسلام ) ابسط يدك لأبايعك. قال سيدنا عمر: أي أرض تقلني وأي سماء تظلني إذا كنت أميراً على قومٍ فيهم أبو بكر ؟!! قال الصديق: يا عمر أنت أقوى مني. قال: يا أبا بكر أنت أفضل مني. ثم قال عمر: يا أبا بكر قوتي إلى فضلك نتعاون. أما يوم توفي الصديق لم يرضَ أن يقف على درجته، نزل درجة، وقال في خطبته: ما كان الله ليراني أن أرى نفسي في مقام أبي بكر . لكن عثمان رضي الله عنه لم ينزل هذه الدرجة الثانية.
أيها الأخوة الكرام عامل عمر بن الخطاب على أذربيجان جاء إلى المدينة و معه رسالة من سيده، وصل المدينة في منتصف الليل، كره أن يطرق باب عمر في هذا الوقت المتأخر فذهب إلى المسجد، فإذا رجل والظلام عميم يناجي ربه ويقول: ربي هل قبلت توبتي فأهنئ نفسي ؟ أم رددتها فأعزيها ؟ فقال: من أنت يرحمك الله ؟ قال: أنا عمر. قال يا أمير المؤمنين ألا تنام الليل ؟ قال: إني إن نمت ليلي كله أضعت نفسي أمام ربي، وإن نمت نهاري أضعت رعيتي. وانتظرا حتى دخل وقت الفجر وصلى عمر بالناس إماماً، ثم دعاه إلى بيته، ليطعمه، فخيَّره بين أن يأكل بين فقراء المسلمين وبين أن يأكل في بيته، فهذا الرسول لما هو مألوف في العالم كله اختار أن يأكل في بيت عمر، فلما دخل بيته قال: يا أم المؤمنين ما عندك من طعام ؟ قالت: والله ما عندنا إلا خبز وملح. قال هاتيه لنا، وكان الفقراء يأكلون اللحم، أكل وشرب وبعد أن أتم طعامه قال: الحمد لله الذي أطعمنا وسقانا. ثم قال: ما وراءك يا هذا ؟. قال: معي هدية من عاملك على أذربيجان. فتح الهدية فإذا هي طعام نفيس، حلوى نفيسة، أول سؤال سأله قال: يا هذا هل يأكل عنكم عامة الناس هذا الطعام ؟ قال: لا !! إنه طعام الخاصة. طعام الأغنياء. فأخرج اللقمة من بطنه ثم قال: حرام على بطن عمر أن يأكل طعاماً لا يأكله فقراء المسلمين. فوجه إلى الوالي رسالة قاسية: كيف يعنيك ما يعنيهم إن لم تأكل مما يأكلون ؟
أيها الأخوة الكرام: كان عمر يمشي في الطريق فإذا أطفال صغار لشدة هيبته تفرقوا لما رأوه، إلا واحداً منهم، قال: يا غلام لم لَمْ تهرب مع من هرب ؟ قال: أيها الأمير ! لست ظالماً فأخشى ظلمك، ولست مذنباً فأخشى عقابك، والطريق يسعني ويسعك.
هذا الغلام رسم منهج دولة، رسم منهج أمة، لست ظالماً فأخشى ظلمك، ولست مذنباً فأخشى عقابك، والطريق يسعني ويسعك.
ينبغي أن يطمئن البريء، وأن يخاف المذنب، أما إذا كان العكس فهي الطامة الكبرى، في عام المجاعة امتنع عن تناول اللحم مدة طويلة، فقرقر بطنه، فخاطب بطنه وقال: أيها البطن قرقر أو لا تقرقر فوالله لن تذوق اللحم حتى يشبع منه صبية المسلمين.
هذا الخليفة الراشد كان يقول: أريد أميراً إن كان أميراً بدا وكأنه واحد من الناس، من شدة تواضعه، وإن لم يكن أميراً بدا ولو كأنه أمير من شدة هيبته، من شدة غيرته على مصالح المسلمين.
أيها الأخوة شيء آخر قدم لهذا الخليفة الراشد في بعض اللقاءات طعام نفيس، قدموا له أطيب ما في الناقة، فبكى وقال: بئس الخليفة أنا إذا أكلت أطيبها وأكل الناس كراديسها.
مرة وهو في الطريق رأى إبلاً سمينة، قال: لمن هذه الإبل ؟ قالوا هي لابنك عبد الله. فغضب غضباً شديداً ماذا فعل عبد الله ؟ قال: آتوني به. فلما وصل إليه قال: لمن هذه الإبل؟ تعجب ابنه عبد الله، قال: يا أبت هي لي. اشتريتها بمالي وبعثت بها إلى المرعى لتسمن فماذا فعلت ؟ قال: ويقول الناس اسقوا هذه الإبل فهي لابن أمير المؤمنين !! ارعوا هذه الإبل فهي لابن أمير المؤمنين، وهكذا تسمن إبلك يا ابن أمير المؤمنين !! بع هذه الإبل وخذ رأس مالك ورد الباقي إلى بيت مال المسلمين. من شدة خوف هذا الخليفة الراشد من الله مع أنه من المبشرين بالجنة، وكان حذيفة بن اليمان رضي الله عنه كاتم سر رسول الله، ومعه أسماء المنافقين، فقال له: يا حذيفة بربك اسمي مع المنافقين ؟
وقد ورد عن أصحاب رسول الله أن تابعياً كان يقول: التقيت بأربعين صحابياً ما بينهم واحداً إلا ويظن نفسه منافقاً، المؤمن أيها الأخوة لشدة ورعه وخوفه من الله وهذا خوف مقدس، يتقلب في اليوم الواحد بأربعين حالاً، بينما المنافق يبقى في حال المطمئن الطمأنينة الساذجة أربعين عاماً.
أيها الأخوة الكرام: هذا خليفة راشد، كان هذا الخليفة من العدل والرحمة بمكان، فلما ولاه الصديق من بعده خليفة عاتب الناس الصدِّيق، قالوا: يا خليفة رسول الله تولي علينا أشدنا ؟ فقال الصدِّيق رضي الله عنه، لقد وليت عليكم أرحمكم، فإذا سألني ربي أقول يا رب وليت عليهم أرحمهم، هذا علمي به فإن بدل وغيَّر فلا علم لي بالغيب.
هذا الخليفة الراشد حينما هاب الناس شدته بكى وقال: والله إن في قلبي من الرحمة لو عرفها الناس لأخذوا عباءتي هذه، ولكن هذا الأمر لا يناسبه إلا كما ترى. يقول هذا الخليفة الراشد: لو أن الله أنزل أنه معذبٌ واحداً لخفت أن أكون أنا، ولو أنه أنزل أنه راحمٌ واحداً لرجوت أن أكون أنا. كان يعبد الله بين الخوف والرجاء.
أيها الأخوة الكرام الحديث عن هذا الخليفة الراشد يطول، هذه مقتطفات من مواقفه ومن أقواله ومن أفعاله، أيها الأخوة: كما قال عليه الصلاة والسلام:
((صنفان من أمتي إذا صلحوا صلح الناس، وإذا فسدوا فسد الناس، الأمراء والعلماء))
وفي رواية ثانية:
((صنفان من أمتي إذا صلحوا صلحت الأمة، الأمراء والفقهاء))
وأولو الأمر كما قال الإمام الشافعي: هم العلماء الذين يعلمون الأمر، والأمراء الذين ينفذون الأمر. هذا الخليفة الراشد كان خليفة مثالي في العدل وفي الرحمة.
أيها الأخوة الكرام فماذا عن العلماء من السلف الصالح ؟ يروى أن عبد الله بن علي فتح دمشق من قبل العباسيين، وفعل ما فعل، والتاريخ يروي أشياء كثيرة لا مجال لذكرها، وفي لحظة عنفوانه (بالمناسبة أيها الأخوة لما فتح النبي مكة المكرمة دخلها مطأطئ الرأس وكادت ذبابة عمامته تلامس عنق بعيره من شدة تواضعه لله عز وجل ) فهذا الذي فتح دمشق وهو عبد الله بن علي، فعل ما فعل ولا سبيل لذكر ما فعل، قال وهو في لحظة عنفوانه وشعوره بالتفوق: من ينكر علي ما أفعل ؟ فقال من حوله: لا نعلم من ينكر عليك سوى إمام واحد هو الإمام الأوزاعي. فيرسل من يستدعيه، فعلم هذا الإمام الجليل أنه الامتحان الصعب، وعلم أنه الابتلاء، وعلم أنه إما أن ينجح ونجاح ما بعده رسوب، وإما أن يرسب ورسوب ما بعده نجاح، ماذا كان من هذا العالم ؟ قام واغتسل وتحنط وتكفن، ولبس ثيابه على كفنه، فأخذ عصاه في يده ثم اتجه إلى الله عز وجل، إلى من حفظه وقت الرخاء، وقال: يا ذا العزة التي لا تضام ويا ذا الركن الذي لا يرام، يا من لا يهزم جنده ولا يغلب أولياءه، أنت حسبي ومن كنت حسبه فقد كفيته، حسبي الله ونعم الوكيل. ثم انطلق وقد أخذ شحنة من الله عز وجل وانطلق انطلاقة الأسد إلى ذلك الحاكم، ماذا فعل عبد الله بن علي ؟ صف وزراءه، وصف سماطين من الجنود، من أجل قتله، ولعله يرهب الناس به، قال: فدخلت فإذا السيوف مشرعة، وإذا السماط معد، هذا رداء يوضع لئلا يؤذي الدم الأثاث، لأنه سيقتل في هذا المكان، وإذا السماط معد، وإذا الأمور على غير ما كنت أتوقع، فدخلت و والله ما تصورت في تلك اللحظة إلا عرش الرحمن بارزاً و المنادي ينادي: فريق في الجنة وفريق في السعير، فو الله ما رأيت أمامي إلا ذباباً، والله ما دخلت بلاطه، حتى بعت نفسي من الله عز وجل، قال: فانعقد جبين هذا الرجل من الغضب، ثم قال لي: أنت الأوزاعي ؟ قلت: يقول الناس أني الأوزاعي، قال: يا أوزاعي ما ترى فيما صنعنا من إزالة أيدي أولئك الظلمة عن العباد ؟ أليس جهاداً ورباطاً ؟ فقلت: أيها الأمير يقول رسول الله صلى الله عليه وسلم:
((سَمِعَ عَلْقَمَةَ بْنَ وَقَّاصٍ اللَّيْثِيَّ يَقُولُ سَمِعْتُ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ رَضِي اللَّهم عَنْهم عَلَى الْمِنْبَرِ قَالَ سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهم عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ إِنَّمَا الْأَعْمَالُ بِالنِّيَّاتِ وَإِنَّمَا لِكُلِّ امْرِئٍ مَا نَوَى فَمَنْ كَانَتْ هِجْرَتُهُ إِلَى دُنْيَا يُصِيبُهَا أَوْ إِلَى امْرَأَةٍ يَنْكِحُهَا فَهِجْرَتُهُ إِلَى مَا هَاجَرَ إِلَيْهِ))
(صحيح البخاري)
فازداد غضباً، قال: ما ترى في هذه الدماء التي سفكناها ؟ قال: حدثنا فلان عن فلان وذكر الأسانيد الطويلة عن جدك ابن عباس عن ابن مسعود وعن أنس بن مالك وعن أبي هريرة رضي الله عنه عن عائشة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:
((قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهم عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَا يَحِلُّ دَمُ امْرِئٍ مُسْلِمٍ يَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَأَنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَّا بِإِحْدَى ثَلَاثٍ النَّفْسُ بِالنَّفْسِ وَالثَّيِّبُ الزَّانِي وَالْمَارِقُ مِنَ الدِّينِ التَّارِكُ لِلْجَمَاعَةِ)) (صحيح البخاري)
قال: فتلمظ كما تتلمظ الحية. وقام الناس يتحفذون ويرفعون ثيابهم لئلا يصيبهم دمي، ورفعت عمامتي ليقع السيف على رقبتي مباشرة، فأموت من ضربة واحدة، وإذا به يقول: وما ترى في هذه الدور التي اغتصبناها ؟ قال سوف يجردك الله عرياناً كما خلقك ثم يسألك عن الصغير وعن الكبير، والنقير والقطمير فإن كانت حلالاً فحساب، وأن كانت حرام فعقاب، قال: فانعقد جبينه مرة أخرى من الغضب وقام وزراءه يرفعون ثيابهم وقمت لأرفع عمامتي ليقع السيف على رقبتي، قال: وإذا به تنتفخ أوداجه، ويقول: أخرج. قال: فخرجت والله ما زادني ربي إلا عزاً. وبعد حين توفاه الله عز وجل والشيء الذي لا يصدق أن هذا الذي فتح دمشق وكان بطاشاً جباراً مر على قبر الأوزاعي بعد أن دفن وقال: والله ما كنت أخاف أحداً على وجه الأرض كخوفي من هذا المدفون في هذا القبر، والله كنت إذا رأيته رأيت الأسد بارزاً، والله كنت أخاف منك (خاطبه ) أكثر مما أخاف من الذي ولاني (ويعني المنصور )
من هاب الله هابه كل شيء، ومن حفظ الله في الرخاء حفظه الله في الشدة، ومن اتقى الله وقاه، هذه القصة أيها الأخوة ذكرتني بقصة أخرى، للحسن البصري يوم أدى أمانة التبيين، وذكر بعض المنكرات في عهد الحجاج، فلما بلغ الحجاج مقالة الحسن البصري قال لمن حوله: يا جبناء ! لمَ لم تردوا عليه ؟ والله لأروينكم من دمه. ثم أمر بقتله، واستدعاه ليقتل، وجيء بالسياف ومد البساط لئلا يتأثر أساس المكان، بدم هذا العالم، فلما دخل إلى مجلس الحجاج رأى الناس شفاه هذا العالم الجليل تتمتم لكن لم يسمعوا شيئاً، فلما دخل عليه إذا بالحجاج يقوم له !! وما زال يقربه حتى أجلسه على سريره، السياف والخدام لا يعلمون الذي حصل، فإذا به يسأله بعض الأسئلة، ثم يضيفه، ويعطره، ثم يشيعه إلى مدخل البيت وقال: يا أبا سعيد أنت أفضل العلماء. وخرج أبو سعيد الحسن البصري وتبعه الحاجب قال: يا أبا سعيد ما الذي حدث ؟ قد جيء بك إلى غير ما فعل فيك !! فماذا قلت وأنت داخل على الحجاج ؟ قال: ناجيت ربي وقلت: يا ملاذي عند كربتي، يا مؤنسي في وحشتي، إجعل نقمته علي برداً وسلاماً كما جعلت النار برداً وسلاماً على إبراهيم.
كان هذا الحسن البصري عند والي دمشق فجاء توجيه من يزيد كما تذكر الروايات أنه إن نفذ هذا التوجيه أغضب الله عز وجل، وإن لم ينفذه أغضب يزيد فهذا الوالي سأل الحسن البصري قال: ماذا أفعل بهذا التوجيه ؟ فقال كلمة كما يقال اليوم تكتب بماء الذهب: إن الله يمنعك من يزيد، ولكن يزيد لا يمنعك من الله.
أيها الأخوة الكرام لو قوي التوحيد فينا ما نافقنا، لو قوي التوحيد فينا لما ارتعدت فرائصـنا من تهديد وحيد القرن، لو قوي التوحيد فينا لتكلمنا بالحق، ولم تأخذنا به لومة لائم، لو قوي التوحيد فينا ما رأينا إلا يد الله تعمل في الخفاء، لو قوي التوحيد فينا لتحققنا من قوله تعالى:﴿يَدُ اللَّهِ فَوْقَ أَيْدِيهِمْ﴾(سورة الفتح)
لو قوي التوحيد فينا رأينا الآخرة ولم نعبأ بالدنيا.
أيها الأخوة الكرام:
((صنفان من أمتي إذا صلحوا صلح الناس، وإذا فسدوا فسد الناس، الأمراء والعلماء))
وفي رواية ثانية:
((صنفان من أمتي إذا صلحوا صلحت الأمة، الأمراء والفقهاء))
والعدل حسن لكن في الأمراء أحسن، والسخاء حسن لكن في الأغنياء أحسن، والورع حسن لكن في العلماء أحسن، والصبر حسن لكن في الفقراء أحسن، والتوبة حسن لكن في الشباب أحسن، والحياء حسن لكن في النساء أحسن
والصلاة والسلام على سيدنا محمد الصادق الوعد الأمين.
أيها الأخوة الكرام وصلتني رسالة بالبريد الإلكتروني رأيت من المناسب أن أذكرها لكم:
تقول هذه الرسالة: إن كان هناك بيتاً يؤيك، ومكان تنام فيه، وطعاماً في بيتك، ولباساً على جسمك، فأنت أغنى من خمسٍ وسبعين بالمائة من سكان العالم. وإذا كان لديك مال في جيبك واستطعت أن توفر منه شيئاً لوقت الشدة فأنت واحد من ثماني بالمائة من سكان العالم، إذا معك وفر قليل لظرف طارئ فأنت واحد من ثمان بالمائة من سكان العالم، وإذا كنت قد أصبحت في عـافية هذا اليوم فـأنت في نعمة عظيمة، فـهناك مليون إنسان في العالم لن يستطيعوا أن يعيشوا سوى أسبوع واحد، وإذا لم تتجرع خطر الحروب، ولم تذق طعم وحدة السجن، ولم تتعرض لشدة التعذيب فأنت أفضل من خمسمائة مليون إنسان على سطح الأرض، وإذا كنت تصلي في المسجد دون خوف من تعذيب أو تنكيل أو اعتقال أو موت فأنت في نعمة لا يعرفها ثلاثة مليارات إنسان في العالم، نحن في المسجد نخطب وندرس، وتدخلون وتخرجون، وأنتم آمنون، وهذه نعمة والله لا يعرفها إلا من فقدها، اشكروا الله عليها، والله يوجد بلاد إسلامية يحاسب الإنسان إذا دخل المسجد مرة واحدة، إذا كان والداك على قيد الحياة ويعيشان معاً غير مطلقين فأنت نادر في هذا الوجود، إذا كنت تبتسم وتشكر المولى عز وجل فأنت في نعمة، فكثيرون يستطيعون ذلك ولكن لا يفعلونه، أن تقول حمداً لله إذا أكلت طعاماً، أن تقول حمداً لله إذا قضيت حاجتك بنفسك، أن تقول حمداً لله إن متعك الله بعينيك وسمعك وبصرك، أن تقول حمداً لله إن كان لك زوجة صالحة.
مرة ملك سأل وزيره: من الملك فقال: أنت. ليس ملك غيرك !! قال: لا الملك رجل لا نعرفه ولا يعرفنا، له بيت يؤيه، وزوجة ترضيه، ورزق يكفيه، إنه إن عرفنا جهد في استرضائنا، وإن عرفناه جهدنا في إذلاله، فإذا كنت تبتسم وتشكر المولى عز وجل فأنت في نعمة كبيرة جداً كثيرون لا يقولون كلمات الشكر لهذه النعمة، كان عليه الصلاة والسلام تعظم عنده النعمة مهما صغرت، كان إذا خرج من الخلاء يقول: الحمد لله الذي أبقى في قوته (قوة الطعام ) وأذاقني لذته، وأذهب عني أذاه، قال: إذا وصلتك هذه الرسالة فأنت في نعمتين عظيمتين، أولهما أن هناك من يفكر فيك، إذا إنسان دعاك إلى المسجد، يوجد إنسان يفكر فيك، أما في مجتمعات المادة لا أحد يعبأ بأحد، إذا اتصل بك إنسان وقال لك: لمَ لم تأت إلى درس الجمعة هناك إنسان يهتم بك نعمة كبرى، والثانية أنك أفضل من مليارين من البشر لا يحسنون القراءة، مليارين في الأرض لا يقرأون.
أيها الأخوة الكرام:
﴿وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَةَ اللَّهِ لَا تُحْصُوهَا﴾(سورة النحل)
شيء عجيب، هل يمكن أن تقول لواحد خذ هذه الليرة عدها ؟ ليرة واحدة حديد !! هذا الكلام لا معنى له، الله يقول:﴿وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَةَ اللَّهِ لَا تُحْصُوهَا﴾
معنى الآية أيها الأخوة أنك إذا أمضيت كل عمرك في تعداد نعم العين ونعم الأذن، ونعم البيان، ونعمة الزوجة والولد، ونعمة المأوى لا تحصي هذه النعم، فإن كنت عاجزاً عن إحصائها فلأن تكون عاجزاً عن شكرها من باب أولى.
والحمد لله رب العالمين