السرايا والبعوث بعد فتح مكة
ولما اطمأن رسول اللَّه (صلى الله عليه وسلم) بعد الفتح بعث خالد بن الوليد إلى العزى لخمس ليال بقين من شهر رمضان سنة ه ليهدمها، وكانت بنخلة، وكانت لقريش وجميع بني كنانه وهي أعظم أصنامهم وكان سدنتها بني شيبان فخرج إليها خالد في ثلاثين فارساً حتى انتهى إليها، فهدمها. ولما رجع سأله رسول اللَّه (صلى الله عليه وسلم) هل رأيت شيئاً؟ قال: لا قال: فإنك لم تهدمها، فارجع إليها فاهدمها، فرجع خالد متغيظاً قد جرد سيفه، فخرجت إليه امرأة عريانة سوداء ناشرة الرأس، فجعل السادن يصيح بها، فضربها خالد فجزلها باثنتين، ثم رجع إلى رسول اللَّه (صلى الله عليه وسلم)فأخبره، فقال: نعم، تلك العزى، وقد أيست أن تعبد في بلادكم أبداً.
ثم بعث عمرو بن العاص في نفس الشهر إلى سواع ليهدمه، وهو صنم لهذيل برهاط، على ثلاثة أميال من مكة، فلما انتهى إليه عمرو قال له السادن ما تريد؟ قال: أمرني رسول اللَّه (صلى الله عليه وسلم)أن أهدمه، قال: لا تقدر على ذلك، قال: لم؟ قال: تمنع. قال: حتى الآن أنت على الباطل؟ ويحك، فهل يسمع أو يبصر؟ ثم دنا فكسره، وأمر أصحابه فهدموا بيت خزانته، فلم يجدوا فيه شيئاً، ثم قال للسادن كيف رأيت؟ قال: أسلمت للَّه.
وفي نفس الشهر بعث سعد بن زيد الأشهلي في عشرين فارساً إلى مناة وكانت بالمشلل عند قديد للأوس والخزرج وغسان وغيرهم، فلما انتهى سعد إليها قال له سادنها ما تريد؟ قال: هدم مناة، قال: أنت وذاك، فأقبل إليها سعد، وخرجت امرأة عريانة سوداء ثائرة الرأس، تدعو بالويل، وتضرب صدرها، فقال لها السادن مناة دونك بعض عصاتك. فضربها سعد فقتلها، وأقبل إلى الصنم فهدمه وكسره، ولم يجدوا في خزانته شيئاً.
ولما رجع خالد بن الوليد من هدم العزى بعثه رسول اللَّه (صلى الله عليه وسلم)في شعبان من نفس السنة (8هـ) إلى بني جذيمة داعياً إلى الإسلام لا مقاتلاً. فخرج في ثلاثمائة وخمسين رجلاً من المهاجرين والأنصار وبني سليم، فانتهى إليهم فدعاهم إلى الإسلام، فلم يحسنوا أن يقولوا أسلمنا، فجعلوا يقولون: صبأنا صبأنا فجعل خالد يقتلهم ويأسرهم، ودفع إلى كل رجل ممن كان معه أسيراً، فأمر يوماً أن يقتل كل رجل أسيره، فأبى ابن عمر وأصحابه حتى قدموا على النبي (صلى الله عليه وسلم)، فذكروا له، (صلى الله عليه وسلم)وقال: اللهم إني أبرأ إليك مما صنع خالد مرتين. وكانت بنو سليم هم الذين قتلوا أسراهم دون المهاجرين والأنصار، وبعث رسول (صلى الله عليه وسلم) علياً فودى لهم قتلاهم وما ذهب منهم، وكان بين خالد وعبد الرحمن بن عوف كلام وشر في ذلك، فبلغ النبي (صلى الله عليه وسلم)فقال: مهلاً يا خالد، دع عنك أصحابي، فواللَّه لو كان أحد ذهبا، ثم أنفقته في سبيل اللَّه ما أدركت غدوة رجل من أصحابي ولا روحته.
تلك هي غزوة فتح مكة، وهي المعركة الفاصلة والفتح الأعظم الذي قضى على كيان الوثنية قضاء باتاً لم يترك لبقائها مجالاً ولا مبرراً في ربوع الجزيرة العربية، فقد كانت عامة القبائل تنتظر ماذا يتمخض عنه العراك والاصطدام الذي كان دائراً بين المسلمين والوثنيين، وكانت تلك القبائل تعرف جيداً أن الحرم لا يسيطر عليه إلا من كان على الحق، وكان قد تأكد لديهم هذا الاعتقاد الجازم أي تأكد قبل نصف القرن حين قصد أصحاب الفيل هذا البيت، فأهلكوا وجعلوا كعصف مأكول. وكانت صلح الحديبية مقدمة وتوطئة بين يدي هذا الفتح العظيم، أمن الناس به وكلم بعضهم بعضاً، وناظره في الإسلام وتمكن من اختفى من المسلمين بمكة من إظهار دينه والدعوة إليه والمناظرة عليه، ودخل بسببه بشر كثير في الإسلام، حتى إن عدد الجيش الإسلامي الذي لم يزد في الغزوات السالفة على ثلاثة آلاف إذا هو يزخر في هذه الغزوة في عشرة آلاف.
وهذه الغزوة الفاصلة فتحت أعين الناس، وأزالت عنها آخر الستور التي كانت تحول بينها وبين الإسلام. وبهذا الفتح سيطر المسلمون على الموقف السياسي والديني كليهما معاً في طول جزيرة العرب وعرضها، فقد انتقلت إليهم الصدارة الدينية والزعامة الدنيوية. فالطور الذي كان قد بدأ بعد هدنة الحديبية لصالح المسلمين قد تم وكمل بهذا الفتح المبين. وبدأ بعد ذلك طور آخر كان لصالح المسلمين تماماً، وكان لهم فيه السيطرة على الموقف تماماً. ولم يبق لأقوام العرب إلا أن يفدوا إلى الرسول (صلى الله عليه وسلم)، فيعتنقوا الإسلام، ويحملوا دعوته إلى العالم. وقد تم استعدادهم لذلك في سنتين آتيتين. المرحَلة الثالثة: وهي آخر مرحلة من مراحل حياة الرسول (صلى الله عليه وسلم). تمثل النتائج التي أثمرتها دعوته الإسلامية بعد جهاد طويل وعناء ومتاعب وقلاقل وفتن واضطرابات ومعارك وحروب دامية واجهتها طيلة بضعة وعشرين عاماً. وكان فتح مكة هو أعظم كسب حصل عليه المسلمون في هذه الأعوام، تغير لأجله مجرى الأيام، وتحول به جو العرب، فقد كان الفتح حداً فاصلاً بين المدة السابقة عليه وبين ما بعده، فإن قريشاً كانت في نظر العرب حماة الدين وأنصاره، والعرب في ذلك تبع لهم، فخضوع قريش يعتبر القضاء الأخير على الدين الوثني في جزيرة العرب.
ويمكن أن نقسم هذه المرحلة إلى صفحتين:
صفحة المجاهدة والقتال.
صفحة تسابق الشعوب والقبائل إلى اعتناق الإسلام. وهاتان الصفحتان متلاصقتان تناوبتا في هذه المرحلة، ووقعت كل واحدة منهما خلال الأخرى، إلا أنا اخترنا في الترتيب الوضعي، أن نأتي على ذكر كل من الصفحتين متميزة عن الأخرى، ونظراً إلى أن صفحة القتال ألصق بما مضى، وأكثر مناسبة من الأخرى قدمناها في الترتيب.