أرسل الله سبحانه نبيَّه محمدًا صَلَّى الله عليه وسلم بالإسلام، وجعل رسالته خاتمة
الرسالات، وكتابه مهيمنًا على الكتب السابقة، قال الله تعالى: {مَّا
كَانَ مُحَمَّدٌ أَبَا أَحَدٍ مِّن رِّجَالِكُمْ وَلَكِن رَّسُولَ اللهِ وَخَاتَمَ
النَّبِيِّينَ وَكَانَ اللهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمًا} [الأحزاب:
40]، وقال سبحانه: {وَأَنزَلْنَا
إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقًا لِّمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ الْكِتَابِ
وَمُهَيْمِنًا عَلَيْهِ} [المائدة:
48].
ولذا فهو صَلَّى الله عليه وسلم مبعوثٌ إلى النّاس كافّة، لا يحدّ دعوته زمان ولا
مكان، ولا يُختص بها قوم دون آخرين، فهي دعوة عالمية للناس أجمعين، قال تعالى: {قُلْ
يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنِّي رَسُولُ اللهِ إِلَيْكُمْ جَمِيعًا الَّذِي لَهُ
مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ يُحْييِ وَيُمِيتُ
فَآمِنُوا بِاللهِ وَرَسُولِهِ النَّبِيِِّ الْأُمِّيِّ الَّذِي يُؤْمِنُ بِاللهِ
وَكَلِمَاتِهِ وَاتَّبِعُوهُ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ} [الأعراف:
158]، وقال أيضًا: {وَمَا
أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا كَافَّةً لِّلنَّاسِ بَشِيرًا وَنَذِيرًا وَلَكِنَّ أَكْثَرَ
النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ} [سبأ:
28]
ولما كانت دعوة الإسلام دعوة عالمية، فقد أرسل النبي صَلَّى الله عليه وسلم بعض
أصحابه رضي الله عنهم رسلًا إلى الملوك والأمراء، ممن كانوا في الجزيرة العربية
وخارجها؛ يبلغهم دعوة الله سبحانه، ويدعوهم إلى هدايته، لتقوم عليهم الحجة
والبرهان، وليتحقق بالدليل العمليّ أنه صَلَّى الله عليه وسلم قد بُعِثَ للناس
جميعًا، بشيرًا ونذيرًا.
وقد كانت بداية إرسال النبي صَلَّى الله عليه وسلم الرسل إلى الملوك في العام
السابع من الهجرة، بعد أن عقد صلح الحديبة مع أهل مكة، واستراح من تربصّ قريش
وعدوانها، وأمَّن بهذا الصلح جبهته الداخلية. فلم يكن من الحكمة أن يدعو النبي
صَلَّى الله عليه وسلم مَنْ هم حول الجزيرة العربية قبل ذلك؛ لئلا تتشت جهوده،
ويكثر عليه الأعداء من كل صوب وحدب.
ثم كان بعد ذلك أن دخل الناس في دين الله أفواجًا، وتتالت الوفود إلى رسول الله
صَلَّى الله عليه وسلم، تعلن إسلامها وولاءها لله رب العالمين، وتبرأ من الشرك
والأوثان، فتوحدت كلمة العرب تحت راية القرآن، وأضحت دولة الإسلام لا تخشى بطش
الروم أو الفرس، بل تقاوم كل من يقف حجر عثرة في سبيل نشر الإسلام، ومنع الناس من
الدخول فيه.
أولًا: رُسُلُ النبيّ صَلَّى الله عليه وسلم إلى الملوك:
ذكر ابن سعد في "الطبقات الكبير" أن رسول الله صَلَّى الله عليه وسلم، لمّا رجع من
الحديبية في ذي الحجّة سنة ستّ، أرسل الرسل إلى الملوك؛ يدعوهم إلى الإسلام، وكتب
إليهم كتبًا، فقيل: يا رسول الله، إن الملوك لا يقرأون كتابًا إلا مختومًا، فاتخذ
رسول الله صَلَّى الله عليه وسلم يومئذ خاتمًا من فضة، نقشه ثلاثة أسطر: محمد رسول
الله، وختم به الكتب فخرج ستة نفر منهم في يوم واحد وذلك في المحرّم سنة سبع، وأصبح
كل رجل منهم يتكلم بلسان القوم الذين بعثه إليهم.
وقال محمد رضا في كتابه "محمد رسول الله": اتخذ صَلَّى الله عليه وسلم خاتمًا من
فضة، وكان ينقشه ثلاثة أسطر؛ "محمد" سطر، "رسول" سطر، "الله" سطر. والأسطر الثلاثة
تُقْرَأ من أسفل إلى فوق. وكانت الكتابة مقلوبة؛ لتكون على الاستواء، إذا خُتِمَ
به. فكان ذلك الخاتم في يده صَلَّى الله عليه وسلم، ثم في يد أبي بكر، ثم في يد
عمر، ثم في يد عثمان بن عفان، رضي الله عنهم، حتى وقع في بئر أريس، في السنة التي
قُتِلَ فيها عثمان بن عفان رضي الله عنه، فالتمسوه ثلاثة أيام، فلم يجدوه.
وروى ابن سعد عن الشعبي أنه قال: كان رسول الله صَلَّى الله عليه وسلم يكتب كما
تكتب قريش: "باسمك
اللهم"،
حتى نزلت عليه: {إِنَّهُ
مِن سُلَيْمَانَ وَإِنَّهُ بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ} [النمل:
30] فكتب: {بِسْمِ
اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ}.
ثم ذكر ابن سعد أن الملوك الستة، الذين أرسل إليهم النبي صَلَّى الله عليه وسلم
كُتبًا في يوم واحد في المحرّم سنة سبع، هم: النجاشي ملك الحبشة، وقيصر ملك الروم،
وكسرى ملك الفرس، والمقوقس ملك مصر والإسكندرية، والحارث بن أبي شمر الغساني ملك
البلقاء، وهَوْذَةَ بن عليّ الحَنَفِيّ صاحب اليمامة.
[1] كتاب النبي صَلَّى الله عليه وسلم إلى النجاشي، ملك الحبشة:
قال ابن سعد في "الطبقات الكبير": كان أول رسول بعثه رسول الله صَلَّى الله عليه
وسلم، عمرو بن أمية الضمري إلى النجاشي؛ وكتب إليه كتابين، يدعوه في أحدهما إلى
الإسلام، ويتلو عليه القرآن، فأخذ كتاب رسول الله صَلَّى الله عليه وسلم فوضعه على
عينيه، ونزل من سريره فجلس على الأرض، تواضعًا، ثم أسلم وشهد شهادة الحق، وقال: لو
كنت أستطيع أن آتيه، لأتيته. وكتب إلى رسول الله صَلَّى الله عليه وسلم بإجابته
وتصديقه، وإسلامه على يدي جعفر بن أبي طالب لله رب العالمين.
وفي الكتاب الآخر؛ يأمره أن يزوجه أم حبيبة بنت أبي سفيان بن حرب؛ وكانت قد هاجرت
إلى أرض الحبشة مع زوجها عبيد الله بن جحش الأسدي، فَتَنَصَّر هناك، ومات. وأمره
رسول الله صَلَّى الله عليه وسلم في الكتاب أن يبعث إليه بِمَنْ قبله مِنْ أصحابه،
ويحملهم، ففعل؛ فزوجه أم حبيبة بنت أبي سفيان، وأصدق عنه أربعمائة دينار، وأمر
بجهاز المسلمين وما يصلحهم، وحملهم في سفينتين مع عمرو بن أمية الضمري، ودعا بحُق
من عاج فجعل فيه كتابي رسول الله صَلَّى الله عليه وسلم، وقال: لن تزال الحبشة
بخير، ما كان هذان الكتابان بين أظهرها.
وقال ابن القيم في "زاد المعاد في هدي خير العباد" عن رسل النبي صَلَّى الله عليه
وسلم إلى الملوك: "فأولهم عمرو بن أمية الضمري؛ بعثه إلى النجاشي، واسمه: أصحمة بن
أبجر، وتفسير أصحمة بالعربية: عطية، فعظم كتاب النبي صَلَّى الله عليه وسلم، ثم
أسلم وشهد شهادة الحق، وكان من أعلم الناس بالإنجيل، وصلّى عليه النبي صَلَّى الله
عليه وسلم يوم مات بالمدينة وهو بالحبشة، هكذا قال جماعة؛ منهم الواقدي وغيره، وليس
كما قال هؤلاء؛ فإن أصحمة النجاشي الذي صلّى عليه رسول الله صَلَّى الله عليه وسلم،
ليس هو الذي كتب إليه، هذا الثاني لا يُعْرَف إسلامه بخلاف الأول، فإنه مات مسلمًا.
وقد روى مسلم في صحيحه من حديث قتادة عن أنس قال: كتب رسول الله صَلَّى الله عليه
وسلم إلى كسرى، وإلى قيصر، وإلى النجاشي، وإلى كل جبار، يدعوهم إلى الله تعإلى،
وليس بالنجاشي الذي صلّى عليه رسول الله صَلَّى الله عليه وسلم. وقال أبو محمد بن
حزم: إن هذا النجاشي الذي بعث إليه رسول الله صَلَّى الله عليه وسلم عمرو بن أمية
الضمري، لم يسلم. والأول هو اختيار ابن سعد وغيره، والظاهرُ قولُ ابن حزم".
وقد أورد ابن القيم نصَّ كتاب النبي صَلَّى الله عليه وسلم إلى النجاشي فقال: وكتب
إلى النجاشي: "بِسْمِ
اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ مِنْ
مُحَمّدٍ رَسُولِ اللّهِ إلى النّجَاشِيّ مَلِكِ الْحَبَشَةِ؛ أَسْلِمْ أَنْتَ،
فَإِنّي أَحْمَدُ إلَيْكَ اللّهَ؛ الّذِي لَا إلَهَ إلّا هُوَ، الْمَلِكُ،
الْقُدّوسُ، السّلَامُ، الْمُؤْمِنُ، الْمُهَيْمِنُ، وَأَشْهَدُ أَنّ عِيسَى ابْنَ
مَرْيَمَ، رُوحُ اللّهِ، وَكَلِمَتُهُ، أَلْقَاهَا إلى مَرْيَمَ؛ الْبَتُولِ،
الطّيّبَةِ، الْحَصِينَةِ، فَحَمَلَتْ بِعِيسَى، فَخَلَقَهُ اللّهُ مِنْ رُوحِهِ،
وَنَفَخَهُ، كَمَا خَلَقَ آدَمَ بِيَدِهِ، وَإِنّي أَدْعُوكَ إلى اللّهِ، وَحْدَهُ
لَا شَرِيكَ لَهُ، وَالْمُوَالَاةِ عَلَى طَاعَتِهِ، وَأَنْ تَتْبَعَنِي،
وَتُؤْمِنَ بِاَلّذِي جَاءَنِي؛ فَإِنّي رَسُولُ اللّهِ. وَإِنّي أَدْعُوكَ
وَجُنُودَكَ إلى اللّهِ عَزّ وَجَلّ، وَقَدْ بَلّغْتُ وَنَصَحْت، فَاقْبَلُوا
نَصِيحَتِي، وَالسّلَامُ عَلَى مَنِ اتّبَعَ الْهُدَى".
وبعث بالكتاب مع عمرو بن أمية الضمري. فقال ابن إسحاق: إن عَمْرًا قال له: يا
أصحمة؛ إن عليَّ القول، وعليك الاستماع، إنك كأنك في الرقة علينا، وكأنا في الثقة
بك، منك؛ لأنا لم نظن بك خيرًا قط، إلا نلناه، ولم نخفك على شيء قط، إلا أمناه. وقد
أخذنا الحجة عليك من فيك، الإنجيل بيننا وبينك، شاهد لا يُرَدّ، وقاضٍ لا يجور، وفي
ذلك موقع الحز، وإصابة المفصل، وإلا، فأنت في هذا النبي الأمي، كإليهود في عيسى ابن
مريم. وقد فرَّق النبي صَلَّى الله عليه وسلم رسله إلى الناس، فرجاك لما لم يرجهم
له، وأمنك على ما خافهم عليه، بخير سالف، وأجر ينتظر.
فقال النجاشي:
أشهد بالله، أنه النبي الأمي الذي ينتظره أهل الكتاب، وأن بشارة موسى براكب الحمار،
كبشارة عيسى براكب الجمل، وأن العيان ليس بأشفى من الخبر. ثم كتب النجاشي جواب كتاب
النبي صَلَّى الله عليه وسلم: {بِسْمِ
اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ} "إلى
محمد رسول الله من النجاشي أصحمة، سلام عليك يا نبي الله من الله ورحمة الله
وبركاته، الله الذي لا إله إلا هو، أما بعد؛ فقد بلغني كتابك يا رسول الله فيما
ذكرت من أمر عيسى، فورب السماء والأرض، إن عيسى لا يزيد على ما ذكرت ثُفْرُوقًا،
إنه كما ذكرت. وقد عرفنا ما بعثت به إلينا، وقد قربنا ابن عمك، وأصحابه، فأشهد أنك
رسول الله، صادقًا مصدقًا، وقد بايعتك، وبايعت ابن عمك، وأسلمت على يديه لله رب
العالمين". وَالثّفْرُوقُ: عِلَاقَةٌ مَا بَيْنَ النّوَاةِ وَالْقِشْرِ. ومات
النجاشي سنة تسع، وأُخبر رسول الله صَلَّى الله عليه وسلم بموته ذلك اليوم، فخرج
بالناس إلى المصلَّى، فصلى عليه، وكبر أربعًا.
وبعد أن ذكر ابن القيم هذه الرواية، عقَّب عليها، فقال: "هذا وَهْمٌ، والله أعلم،
وقد خلط راويه، ولم يميز بين النجاشي الذي صلَّى عليه، وهو الذي آمن به وأكرم
أصحابه، وبين النجاشي الذي كتب إليه يدعوه، فهما اثنان، وقد جاء ذلك مُبَيَّنًا في
"صحيح مسلم"، أن رسول الله صَلَّى الله عليه وسلم كتب إلى النجاشي، وليس بالذي
صَلَّى عليه.
[2] كتاب النبي صَلَّى الله عليه وسلم إلى قيصر، ملك الروم:
قال ابن القيم: "وبعث دحيةَ بن خليفة الكلبي إلى قيصر ملك الروم، واسمه هرقل،
وهَمَّ بالإسلام وكاد ولم يفعل، وقيل: بل أسلم، وليس بشيء. وقد روى أبو حاتم بن
حبان في صحيحه عن أنس بن مالك قال: قال رسول الله صَلَّى الله عليه وسلم: "مَنْ
ينطلق بصحيفتي هذه إلى قيصر، وله الجنة؟" فقال
رجل من القوم: وإن لم يقبل؟ قال: "وإن
لم يقبل".
فوافق قيصرَ وهو يأتي بيت المقدس، قد جُعِلَ عليه بساط، لا يمشي عليه غيره، فرمى
بالكتاب على البساط وتنحى. فلما انتهى قيصر إلى الكتاب، أخذه، فنادى قيصر: مَنْ
صاحب الكتاب؟ فهو آمن، فجاء الرجل فقال: أنا. قال: فإذا قَدِمْتَ فَأْتِنِي، فلما
قدم أتاه، فأمر قيصر بأبواب قصره فغلقت، ثم أمر مناديًا ينادي: ألا إن قيصر قد اتبع
محمدًا وترك النصرانية، فأقبل جنده وقد تسلحوا، حتى أطافوا به، فقال لرسول رسول
الله صَلَّى الله عليه وسلم: قد ترى أني خائف على مملكتي، ثم أمر مناديه فنادى: ألا
إن قيصر قد رضي عنكم، وإنما اختبركم؛ لينظر كيف صبركم على دينكم، فارجعوا،
فانصرفوا. وكتب إلى رسول الله صَلَّى الله عليه وسلم: إني مسلم، وبعث إليه بدنانير.
فقال رسول الله صَلَّى الله عليه وسلم: "كذب
عدو الله، ليس بمسلم وهو على النصرانية"،
وقسَّم الدنانير.
وروى البخاري بسنده عن عبد الله بن عباس، أن أبا سفيان بن حرب أخبره أن هرقل أرسل
إليه في ركب من قريش، وكانوا تجارًا بالشأم، في المدة التي كان رسول الله صَلَّى
الله عليه وسلم مَادَّ فيها أبا سفيان وكفار قريش، فأتوه وهم بإيلياء، فدعاهم في
مجلسه، وحوله عظماء الروم، ثم دعاهم ودعا بترجمانه، فقال: أيكم أقرب نسبًا بهذا
الرجل، الذي يزعم أنه نبي؟ فقال أبو سفيان: فقلت: أنا أقربهم نسبًا. فقال: أدنوه
مني، وقربوا أصحابه، فاجعلوهم عند ظهره، ثم قال لترجمانه: قل لهم إني سائل هذا عن
هذا الرجل، فإن كذبني، فكذبوه. قال أبو سفيان: فوَاللَّهِ، لولا الحياءُ مِنْ أَنْ
يَأْثِرُوا عليَّ كَذِبًا، لَكَذَبْتُ عنه. ثم كان أول ما سألني عنه، أن قال: كيف
نسبه فيكم؟ قلت: هو فينا ذو نسب.
قال:
فهل قال هذا القول منكم أحد قط قبله؟ قلت: لا. قال: فهل كان من آبائه من ملك؟ قلت:
لا. قال: فأشراف الناس يتبعونه أم ضعفاؤهم؟ فقلت: بل ضعفاؤهم. قال: أيزيدون أم
ينقصون؟ قلت: بل يزيدون. قال: فهل يرتد أحد منهم؛ سخطة لدينه بعد أن يدخل فيه؟ قلت:
لا. قال: فهل كنتم تتهمونه بالكذب، قبل أن يقول ما قال؟ قلت: لا. قال: فهل يغدر؟
قلت: لا، ونحن منه في مدة، لا ندري ما هو فاعل فيها، قال: ولم تُمْكِنِّي كلمةٌ
أُدْخِلُ فيها شيئًا غيرُ هذهِ الكلمةِ. قال: فهل قاتلتموه؟ قلت: نعم. قال: فكيف
كان قتالكم إياه؟ قلت: الحرب بيننا وبينه سِجَال، ينال منا، وننال منه. قال: ماذا
يأمركم؟ قلت: يقول: اعبدوا الله وحده، ولا تشركوا به شيئًا، واتركوا ما يقول
آباؤكم، ويأمرنا بالصلاة، والزكاة، والصدق، والعفاف، والصلة.
فقال للترجمان: قل له: سألتك عن نسبه، فذكرت أنه فيكم ذو نسب، فكذلك الرسل، تُبعثُ
في نسب قومها. وسألتُكَ: هل قال أَحَدٌ منكم هَذَا الْقَوْلَ؟ فَذَكَرْتَ أَنْ لَا،
فَقُلْتُ: لَوْ كَانَ أَحَدٌ قَالَ هَذَا الْقَوْلَ قَبْلَهُ، لَقُلْتُ: رَجُلٌ
يَأْتَسِي بِقَوْلٍ قيل قبله. وسألتك: هل كان من آبائه من مَلِك، فذكرت أن لا،
قلتُ: فلو كان من آبائه من ملك، قلت: رجل يطلب ملك أبيه. وسألتك: هل كنتم تتهمونه
بالكذب، قبل أن يقول ما قال؟ فذكرت أن لا، فقد أعرف أنه لم يكن ليذر الكذب على
الناس ويكذب على الله. وسألتك: أشراف الناس اتبعوه أم ضعفاؤهم؟ فذكرت أن ضعفاءهم
اتبعوه، وهم أتباع الرسل. وسألتك: أيزيدون أم ينقصون؟ فذكرت أنهم يزيدون، وكذلك أمر
الإيمان حتى يتم. وسألتك: أيرتد أحد؛ سخطة لدينه بعد أن يدخل فيه؟ فذكرت أن لا،
وكذلك الإيمان، حين تخالط بشاشته القلوب. وسألتك: هل يغدر؟ فذكرت أن لا، وكذلك
الرسل، لا تغدر.
وسألتك:
بما يأمركم؟ فذكرت أنه يأمركم: أن تعبدوا الله ولا تشركوا به شيئًا، وينهاكم عن
عبادة الأوثان، ويأمركم بالصلاة، والصدق، والعفاف. فإن كان ما تقول حقًا، فسيملك
موضع قدمي هاتين، وقد كنت أعلم أنه خارج، لم أكن أظن أنه منكم، فلو أني أعلم أني
أخلص إليه، لَتَجَشَّمْتُ لقاءَه، ولو كنت عنده، لغسلت عن قدمه.
ثم دعا بكتاب رسول الله صَلَّى الله عليه وسلم، الذي بعث به دحية إلى عظيم بصرى،
فدفعه إلى هرقل، فقرأه، فإذا فيه: "بِسْمِ
اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ، من
محمد عبد الله ورسوله إلى هرقل عظيم الروم؛ سلام على من اتبع الهدى، أما بعد: فإني
أدعوك بدعاية الإسلام، أسلم تسلم، يؤتك الله أجرك مرتين، فإن توليت فإن عليك إثم
الأريسيين،
ويَا
أَهْلَ الْكِتَابِ تَعَالَوْا إلى كَلِمَةٍ سَوَاءٍ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ أَن
لَّا نَعْبُدَ إِلَّا اللَّهَ وَلَا نُشْرِكَ بِهِ شَيْئًا وَلَا يَتَّخِذَ
بَعْضُنَا بَعْضًا أَرْبَابًا مِّن دُونِ اللَّهِ فَإِن تَوَلَّوْا فَقُولُوا
اشْهَدُوا بِأَنَّا مُسْلِمُونَ" [آل
عمران: 64].
قال أبو سفيان: فلما قال ما قال، وفرغ من قراءة الكتاب، كثر عنده الصخب، وارتفعت
الأصوات، وأُخْرِجنا، فقلت لأصحابي حين أخرجنا: لقد أَمِرَ أَمْرُ ابْنِ أَبِي
كَبْشَةَ، إنه يخافه ملك بني الأصفر، فما زلت موقنًا أنه سيظهر، حتى أدخل الله عليّ
الإسلام.
وَكَانَ ابْنُ النَّاظُورِ، صَاحِبُ إِيلِيَاءَ وَهِرَقْلَ، سُقُفًا على نصارى
الشأم، يحدث أن هرقل حين قدم إيلياء، أصبح يومًا خبيث النفس، فقال بعض بطارقته: قد
استنكرنا هيئتك. قال ابن الناظور: وكان هرقل حزاءً ينظر في النجوم، فقال لهم حين
سألوه: إني رأيت الليلة حين نظرت في النجوم، ملك الختان قد ظهر، فمن يختتن من هذه
الأمة؟ قالوا: ليس يختتن إلا إليهود، فلا يهمنك شأنهم، واكتب إلى مداين ملكك
فيقتلوا من فيهم من إليهود. فبينما هم على أمرهم، أُتِي هرقل برجل، أرسل به ملك
غسان، يخبر عن خبر رسول الله صَلَّى الله عليه وسلم، فلما استخبره هرقل قال:
اذهبوا، فانظروا: أمختتن هو أم لا؟ فنظروا إليه، فحدثوه أنه مختتن. وسأله عن العرب،
فقال: هم يختتنون. فقال هرقل: هذا ملك هذه الأمة، قد ظهر.
ثم كتب هرقل إلى صاحب له برومية، وكان نظيره في العلم، وسار هرقل إلى حمص، فَلَمْ
يَرِمْ حِمْصَ حتى أتاه كتاب من صاحبه، يوافق رأي هرقل على خروج النبي صَلَّى الله
عليه وسلم، وأنه نبي، فأذن هرقل لعظماء الروم في دَسْكَرَةٍ لَهُ بحمص، ثم أمر
بأبوابها فغلقت، ثم اطلع فقال: يا معشر الروم؛ هل لكم في الفلاح والرشد، وأن يثبت
ملككم، فتبايعوا هذا النبي. فَحَاصُوا حَيْصَةَ حُمُرِ الْوَحْشِ إلى الأبواب،
فوجدوها قد غُلِّقَتْ، فلما رأى هرقل نفرتهم، وَأَيِسَ من الإيمان، قال: ردوهم
عليّ، وقال: إني قلت مقالتي آنفًا؛ أختبر بها شدتكم على دينكم، فقد رأيت. فسجدوا
له، ورضوا عنه، فكان ذلك آخر شأن هرقل.
وروى الإمام أحمد بسنده عن سعيد بن أبي راشد قال: لَقِيتُ التَّنُوخِيَّ، رَسُولَ
هِرَقْلَ إلى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، بِحِمْصَ.
وَكَانَ جَارًا لِي، شَيْخًا كَبِيرًا، قَدْ بَلَغَ الْفَنَدَ أَوْ قَرُبَ،
فَقُلْتُ: أَلَا تُخْبِرُنِي عَنْ رِسَالَةِ هِرَقْلَ إلى النَّبِيِّ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَرِسَالَةِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ إلى هِرَقْلَ؟ فَقَالَ: بَلَى؛ قَدِمَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ تَبُوكَ، فَبَعَثَ دِحْيَةَ الْكَلْبِيَّ إلى هِرَقْلَ،
فَلَمَّا أَنْ جَاءَهُ كِتَابُ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ،
دَعَا قِسِّيسِي الرُّومِ وَبَطَارِقَتَهَا، ثُمَّ أَغْلَقَ عَلَيْهِ وَعَلَيْهِمْ
بَابًا، فَقَالَ: قَدْ نَزَلَ هَذَا الرَّجُلُ حَيْثُ رَأَيْتُمْ، وَقَدْ أَرْسَلَ
إِلَيَّ يَدْعُونِي إلى ثَلَاثِ خِصَالٍ: يَدْعُونِي إلى أَنْ أَتَّبِعَهُ عَلَى
دِينِهِ، أَوْ عَلَى أَنْ نُعْطِيَهُ مَالَنَا عَلَى أَرْضِنَا، وَالْأَرْضُ
أَرْضُنَا، أَوْ نُلْقِيَ إليه الْحَرْبَ، وَاللَّهِ لَقَدْ عَرَفْتُمْ فِيمَا
تَقْرَءُونَ مِنْ الْكُتُبِ، لَيَأْخُذَنَّ مَا تَحْتَ قَدَمَيَّ، فَهَلُمَّ
نَتَّبِعْهُ عَلَى دِينِهِ، أَوْ نُعْطِيهِ مَالَنَا عَلَى أَرْضِنَا. فَنَخَرُوا
نَخْرَةَ رَجُلٍ وَاحِدٍ، حَتَّى خَرَجُوا مِنْ بَرَانِسِهِمْ، وَقَالُوا:
تَدْعُونَا إلى أَنْ نَدَعَ النَّصْرَانِيَّةَ، أَوْ نَكُونَ عَبِيدًا
لِأَعْرَابِيٍّ جَاءَ مِنْ الْحِجَازِ. فَلَمَّا ظَنَّ أَنَّهُمْ، إِنْ خَرَجُوا
مِنْ عِنْدِهِ أَفْسَدُوا عَلَيْهِ الرُّومَ، رَفَأَهُمْ، وَلَمْ يَكَدْ، وَقَالَ:
إِنَّمَا قُلْتُ ذَلِكَ لَكُمْ؛ لِأَعْلَمَ صَلَابَتَكُمْ عَلَى أَمْرِكُمْ.
ثُمَّ دَعَا رَجُلًا مِنْ عَرَبِ تُجِيبَ كَانَ عَلَى نَصَارَى الْعَرَبِ، فَقَالَ:
ادْعُ لِي رَجُلًا حَافِظًا لِلْحَدِيثِ، عَرَبِيَّ اللِّسَانِ، أَبْعَثْهُ إلى
هَذَا الرَّجُلِ بِجَوَابِ كِتَابِهِ، فَجَاءَ بِي، فَدَفَعَ إِلَيَّ هِرَقْلُ
كِتَابًا، فَقَالَ: اذْهَبْ بِكِتَابِي إلى هَذَا الرَّجُلِ، فَمَا ضَيَّعْتُ مِنْ
حَدِيثِهِ، فَاحْفَظْ لِي مِنْهُ ثَلَاثَ خِصَالٍ: انْظُرْ، هَلْ يَذْكُرُ
صَحِيفَتَهُ الَّتِي كَتَبَ إِلَيَّ بِشَيْءٍ؟ وَانْظُرْ، إِذَا قَرَأَ كِتَابِي
فَهَلْ يَذْكُرُ اللَّيْلَ؟ وَانْظُرْ فِي ظَهْرِهِ، هَلْ بِهِ شَيْءٌ يَرِيبُكَ؟
فَانْطَلَقْتُ بِكِتَابِهِ حَتَّى جِئْتُ تَبُوكَ، فَإِذَا هُوَ جَالِسٌ بَيْنَ
ظَهْرَانَيْ أَصْحَابِهِ، مُحْتَبِيًا عَلَى الْمَاءِ، فَقُلْتُ: أَيْنَ
صَاحِبُكُمْ؟ قِيلَ: هَا هُوَ ذَا؟ فَأَقْبَلْتُ أَمْشِي حَتَّى جَلَسْتُ بَيْنَ
يَدَيْهِ، فَنَاوَلْتُهُ كِتَابِي، فَوَضَعَهُ فِي حَجْرِهِ، ثُمَّ قَالَ: "مِمَّنْ
أَنْتَ؟" فَقُلْتُ:
أَنَا أَحَدُ تَنُوخَ. قَالَ: "هَلْ
لَكَ فِي الْإِسْلَامِ؛ الْحَنِيفِيَّةِ، مِلَّةِ أَبِيكَ إِبْرَاهِيمَ؟".
قُلْتُ: إِنِّي رَسُولُ قَوْمٍ، وَعَلَى دِينِ قَوْمٍ، لَا أَرْجِعُ عَنْهُ حَتَّى
أَرْجِعَ إليهمْ. فَضَحِكَ، وَقَالَ: {إِنَّكَ
لَا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَن يَشَاءُ وَهُوَ
أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ} [القصص:
56]، "يَا
أَخَا تَنُوخَ؛ إِنِّي كَتَبْتُ بِكِتَابٍ إلى كِسْرَى فَمَزَّقَهُ، وَاللَّهُ
مُمَزِّقُهُ، وَمُمَزِّقٌ مُلْكَهُ. وَكَتَبْتُ إلى النَّجَاشِيِّ بِصَحِيفَةٍ،
فَخَرَقَهَا، وَاللَّهُ مُخْرِقُهُ، وَمُخْرِقٌ مُلْكَهُ. وَكَتَبْتُ إلى صَاحِبِكَ
بِصَحِيفَةٍ، فَأَمْسَكَهَا، فَلَنْ يَزَالَ النَّاسُ يَجِدُونَ مِنْهُ بَأْسًا،
مَا دَامَ فِي الْعَيْشِ خَيْرٌ".
قُلْتُ: هَذِهِ إِحْدَى الثَّلَاثَةِ، الَّتِي أَوْصَانِي بِهَا صَاحِبِي،
وَأَخَذْتُ سَهْمًا مِنْ جَعْبَتِي، فَكَتَبْتُهَا فِي جِلْدِ سَيْفِي.
ثُمَّ إِنَّهُ نَاوَلَ الصَّحِيفَةَ رَجُلًا عَنْ يَسَارِهِ، قُلْتُ: مَنْ صَاحِبُ
كِتَابِكُمْ، الَّذِي يقْرَأُ لَكُمْ؟ قَالُوا: مُعَاوِيَةُ. فَإِذَا فِي كِتَابِ
صَاحِبِي، تَدْعُونِي إلى جَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّمَوَاتُ وَالْأَرْضُ أُعِدَّتْ
لِلْمُتَّقِينَ، فَأَيْنَ النَّارُ؟ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "سُبْحَانَ
اللَّهِ! أَيْنَ اللَّيْلُ إِذَا جَاءَ النَّهَارُ؟!".
قَالَ: فَأَخَذْتُ سَهْمًا مِنْ جَعْبَتِي، فَكَتَبْتُهُ فِي جِلْدِ سَيْفِي،
فَلَمَّا أَنْ فَرَغَ مِنْ قِرَاءَةِ كِتَابِي، قَالَ: "إِنَّ
لَكَ حَقًّا، وَإِنَّكَ رَسُولٌ، فَلَوْ وُجِدَتْ عِنْدَنَا جَائِزَةٌ جَوَّزْنَاكَ
بِهَا، إِنَّا سَفْرٌ مُرْمِلُونَ".
قَالَ: فَنَادَاهُ رَجُلٌ مِنْ طَائِفَةِ النَّاسِ، قَالَ: أَنَا أُجَوِّزُهُ،
فَفَتَحَ رَحْلَهُ فَإِذَا هُوَ يَأْتِي بِحُلَّةٍ صَفُورِيَّةٍ، فَوَضَعَهَا فِي
حَجْرِي، قُلْتُ: مَنْ صَاحِبُ الْجَائِزَةِ؟ قِيلَ لِي: عُثْمَانُ، ثُمَّ قَالَ
رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "أَيُّكُمْ
يُنْزِلُ هَذَا الرَّجُلَ؟".
فَقَالَ فَتًى مِنْ الْأَنْصَارِ: أَنَا، فَقَامَ الْأَنْصَارِيُّ وَقُمْتُ مَعَهُ،
حَتَّى إِذَا خَرَجْتُ مِنْ طَائِفَةِ الْمَجْلِسِ، نَادَانِي رَسُولُ اللَّهِ
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَقَالَ: "تَعَالَ
يَا أَخَا تَنُوخَ".
فَأَقْبَلْتُ أَهْوِي إليه، حَتَّى كُنْتُ قَائِمًا فِي مَجْلِسِي الَّذِي كُنْتُ
بَيْنَ يَدَيْهِ، فَحَلَّ حَبْوَتَهُ عَنْ ظَهْرِهِ، وَقَالَ: "هَاهُنَا،
امْضِ لِمَا أُمِرْتَ لَهُ".
فَجُلْتُ فِي ظَهْرِهِ، فَإِذَا أَنَا بِخَاتَمٍ فِي مَوْضِعِ غُضُونِ الْكَتِفِ،
مِثْلِ: الْحَجْمَةِ الضَّخْمَةِ".
[3] كتاب النبي صَلَّى الله عليه وسلم إلى كسرى، ملك الفرس:
قال ابن القيم: بعث النبي صَلَّى الله عليه وسلم عبد الله بن حذافة السهمي إلى
كسرى، واسمه: أبرويز بن هرمز بن أنوشروان، وكتب إليه: "بِسْمِ
اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ، مِنْ
مُحَمّدٍ رَسُولِ اللّهِ إلى كِسْرَى عَظِيمِ فَارِسَ؛ سَلَامٌ عَلَى مَنْ اتّبَعَ
الْهُدَى، وَآمَنَ بِاَللّهِ وَرَسُولِهِ، وَشَهِدَ أَنْ لَا إلَهَ إلّا اللّهُ،
وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ، وَأَنّ مُحَمّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ، أَدْعُوكَ
بِدِعَايَةِ اللّهِ، فَإِنّي أَنَا رَسُولُ اللّهِ إلى النّاسِ كَافّةً؛ لِيُنْذِرَ
مَنْ كَانَ حَيًّا، وَيَحِقّ الْقَوْلُ عَلَى الْكَافِرِينَ. أَسْلِمْ تَسْلَمْ،
فَإِنْ أَبَيْت فَعَلَيْكَ إثْمُ الْمَجُوسِ".
وذكر
"محمد رضا"
أن رسول الله صَلَّى الله عليه وسلم بعث بكتابه إلى كسرى مع عبد الله بن حذافة
السهمي؛ لأنه كان يتردد على كسرى كثيرًا. ولما قُرِيء الكتاب على كسرى، أخذه
فمزَّقه، فلما بلغ ذلك رسول الله صَلَّى الله عليه وسلم، قال: "اللّهُمَّ
مَزِّقْ مُلْكَهُ".
ثم كتب كسرى إلى أمير له باليمن يقال له "باذان": أن أبعث إليّ هذا الرجل الذي
بالحجاز، رجلين من عندك، جلدين، فليأتياني به. فبعث "باذان" قهرمانه؛ وهو "بابويه"،
وكان كاتبًا حاسبًا بكتاب فارس، وبعث معه رجلًا من الفرس، يقال له: "خرخسر". وكتب
معهما إلى رسول الله صَلَّى الله عليه وسلم يأمره أن ينصرف معهما إلى كسرى، وقال
لبابويه: أئت بلد هذا الرجل وكلمه، وأتني بخبره. فخرجا حتى قدما الطائف، فوجدا
رجالًا من قريش، بنخب من أرض الطائف، فسألاهم عنه، فقالوا: هو بالمدينة. واستبشروا
بهما، وفرحوا، وقال بعضهم لبعض: أبشروا؛ فقد نصب له كسرى، ملك الملوك، كفيتم الرجل.
فخرجا، حتى قدما على رسول الله صَلَّى الله عليه وسلم، فكلمه بابويه؛ فقال: إن
شاهنشاه، ملك الملوك كسرى، قد كتب إلى الملك باذان، يأمره أن يبعث اليك مَنْ يأتيه
بك، وقد بعثني إليك لتنطلق معي. فإن فعلت، كتب فيك إلى ملك الملوك ينفعك ويكفه عنك،
وأن أبيت، فهو مَنْ قد علمت؛ فهو مهلكك، ومهلك قومك، ومخرب بلادك. ودخلا على رسول
الله صَلَّى الله عليه وسلم وقد حلقا لحاهما، وأعفيا شواربهما، فكره النظر إليهما.
ثم أقبل عليهما، فقال: "ويلكما،
مَنْ أمركما بهذا؟".
قالا: ربنا، يعنيان كسرى. فقال رسول الله: "لكن
ربي أمرني باعفاء لحيتي، وقص شاربي".
ثم قال لهما: "ارجعا
حتى تأتياني غدًا".
وأتى رسول الله صَلَّى الله عليه وسلم الخبر من السماء؛ أن الله قد سلط على كسرى
ابنه شيرويه، فقتله في شهر كذا وكذا، ليلة كذا وكذا من الليل. وذكر الواقدي أن
شيرويه قتل أباه كسرى ليلة الثلاثاء لعشر ليال مضين من جمادى الأولى من سنة سبع،
لسبع ساعات مضت منها. فدعاهما، فأخبرهما، فقالا: هل تدري ما تقول؟ أنا قد نقمنا
عليك ما هو أيسر من هذا، أفنكتب هذا عنك، ونخبره الملك؟ قال: "نعم،
أخبراه ذلك عني، وقولا له: إن ديني وسلطاني سيبلغ ما بلغ ملك كسرى، وينتهي إلى
منتهى الخف والحافر، وقولا له: إنك إن أسلمت، أعطيتك ماتحت يديك، وملكتك على قومك
من الأبناء".
ثم أعطى "خرخسرة" منطقة فيها ذهب وفضة، كان أهداها له بعض الملوك.
فخرجا من عنده حتى قدما على باذان، فقال: والله ما هذا بكلام ملك، وأني لأرى الرجل
نبيًّا كما يقول، ولتنظرن ما قد قال، فلئن كان هذا حقًا، ما فيه كلام، أنه لنبي
مرسل، وإن لم يكن، فسنرى فيه رأينا. ثم لم ينشب باذان، أن قدم عليه كتاب شيرويه،
يقول فيه: أما بعد؛ فإني قد قتلت كسرى، ولم أقتله إلا غضبًا لفارس؛ لما كان استحل
من قتل أشرافهم، وتجميرهم في ثغورهم. فإذا جاءك كتابي هذا، فخذ لي الطاعة ممن
قِبَلك، وانظر الرجل، الذي كان كسرى كتب فيه إليك، فلا تهجه حتى يأتيك أمري فيه.
فلما انتهى كتاب شيرويه إلى باذان، قال: إن هذا الرجل لرسول. فأَسلمَ، وأسلمت
الأبناء معه من فارس، من كان منهم باليمن. فكانت حمير تقول لخرخسرة: ذو المعجزة،
للمنطقة التي أعطاه أياها رسول الله صَلَّى الله عليه وسلم، والمنطقة بلسان حمير:
المعجزة، فبنوه اليوم يُنْسَبُون إليها، خرخسرة ذو المعجزة. وقد قال بابويه لباذان،
يصف رسول الله صَلَّى الله عليه وسلم: ما كلمت رجلًا قط، أهيب عندي منه. فقال له
باذان: هل معه شرط؟ قال: لا. ثم مَلَّكَ الله المسلمين ملك كسرى، وخزائنهم،
وأموالهم، في خلافة عمر رضي الله عنه، ومزقهم الله كل ممزق، تحقيقًا لدعوته صَلَّى
الله عليه وسلم.
[4] كتاب النبي صَلَّى الله عليه وسلم إلى المقوقس، ملك مصر
والإسكندرية:
ذكر ابن القيم أن المقوقس كان يُسمَّى: جريج بن ميناء. وقال محمد رضا في كتابه
"محمد رسول الله": بعث صَلَّى الله عليه وسلم حاطب بن أبي بلتعة رضي الله عنه إلى
المقوقس. وذلك أنه صَلَّى الله عليه وسلم عند منصرفه من الحديبية قال: "أيها
الناس، أيُّكم ينطلق بكتابي هذا إلى صاحب مصر وأجره على الله؟" فوثب
إليه حاطب، وقال: أنا يا رسول الله، فقال: "بارك
الله فيك يا حاطب".
وقد أورد ابن القيم في "زاد المعاد" نصَّ كتاب النبي صَلَّى الله عليه وسلم فقال:
وكتب إلى المقوقس، ملك مصر والإسكندرية: "بِسْمِ
اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيم، مِنْ
مُحَمّدٍ عَبْدِ اللّهِ وَرَسُولِهِ إلى الْمُقَوْقِسِ عَظِيمِ الْقِبْطِ؛ سَلَامٌ
عَلَى مَنْ اتّبَعَ الْهُدَى، أَمّا بَعْدُ: فَإِنّي أَدْعُوكَ بِدِعَايَةِ
الْإِسْلَامِ، أَسْلِمْ تَسْلَمْ، وَأَسْلِمْ يُؤْتِكَ اللّهُ أَجْرَكَ مَرّتَيْنِ،
فَإِنْ تَوَلّيْت فَإِنّ عَلَيْكَ إثْمَ الْقِبْطِ، يَا
أَهْلَ الْكِتَابِ تَعَالَوْا إلى كَلِمَةٍ سَوَاءٍ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ أَن
لَّا نَعْبُدَ إِلَّا اللَّهَ وَلَا نُشْرِكَ بِهِ شَيْئًا وَلَا يَتَّخِذَ
بَعْضُنَا بَعْضًا أَرْبَابًا مِّن دُونِ اللَّهِ فَإِن تَوَلَّوْا فَقُولُوا
اشْهَدُوا بِأَنَّا مُسْلِمُونَ" [آلِ
عِمْرَانَ: 64]. وبعث به مع حاطب بن أبي بلتعة.
فلما دخل عليه، قال له: إنه كان قبلك رجل يزعم أنه الرب الأعلى؛ فأخذه الله نكال
الآخرة والأولى، فانتقم به، ثم انتقم منه، فاعتبر بغيرك، ولا يعتبر غيرك بك. فقال:
إن لنا دينًا لن ندعه، إلا لما هو خير منه. فقال حاطب: ندعوك إلى دين الله، وهو
الإسلام؛ الكافي به الله فقد ما سواه. إن هذا النبي دعا الناس، فكان أشدهم عليه
قريش، وأعداهم له إليهود، وأقربهم منه النصارى. ولعمري ما بشارة موسى بعيسى، إلا
كبشارة عيسى بمحمد، وما دعاؤنا إياك إلى القرآن، إلا كدعائك أهل التوراة إلى
الإنجيل. وكل نبي أدرك قومًا فهم من أمته، فالحق عليهم أن يطيعوه، وأنت ممن أدركه
هذا النبي، ولسنا ننهاك عن دين المسيح، ولكنا نأمرك به.
فقال المقوقس:
إني قد نظرت في أمر هذا النبي، فوجدته لا يأمر بمزهود فيه، ولا ينهى عن مرغوب فيه،
ولم أجده بالساحر الضال، ولا الكاهن الكاذب، ووجدت معه آية النبوة؛ بإخراج الخبء،
والإخبار بالنجوى، وسأنظر. وأخذ كتاب النبي صَلَّى الله عليه وسلم فجعله في حق من
عاج، وختم عليه، ودفعه إلى جارية له، ثم دعا كاتبًا له يكتب بالعربية، فكتب إلى
رسول الله صَلَّى الله عليه وسلم: "{بِسْمِ
اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ}ِ
لمحمد بن عبد الله من المقوقس عظيم القبط؛ سلام عليك، أما بعد: فقد قرأت كتابك،
وفهمت ما ذكرت فيه، وما تدعو إليه، وقد علمتُ أن نبيًّا بقي، وكنتُ أظن أنه يخرج
بالشام. وقد أكرمتُ رسولك، وبعثتُ إليك بجاريتين، لهما مكان في القبط عظيم، وبكسوة،
وأهديت إليك بغلة لتركبها، والسلام عليك". ولم يزد على هذا، ولم يسلم. وذكر ابن
القيم أن النبي صَلَّى الله عليه وسلم قال حين بلغه عدم إسلام المقوقس: "ضَنَّ
الخَبِيثُ بِمُلْكِهِ، وَلَا بَقَاءَ لِمُلْكِهِ".
وروى ابن كثير في "السيرة النبوية"
عن يحيى بن عبد الرحمن بن حاطب، عن أبيه، عن جده حاطب بن أبى بلتعة قال: بعثني رسول
الله صَلَّى الله عليه وسلم إلى المقوقس، ملك الاسكندرية، قال: فجئته بكتاب رسول
الله صَلَّى الله عليه وسلم، فأنزلني في منزله وأقمت عنده، ثم بعث إليَّ وقد جمع
بطارقته وقال: إني سائلك عن كلام فأحب أن تفهم عني، قال: قلت: هلمَّ. قال: أخبرني
عن صاحبك، أليس هو نبي؟ قلت: بلى، هو رسول الله. قال: فما له حيث كان هكذا، لم يدع
على قومه؛ حيث أخرجوه من بلده إلى غيرها؟ قال: فقلت: عيسى بن مريم، أليس تشهد أنه
رسول الله؟ قال: بلى. قلت: فما له حيث أخذه قومه فأرادوا أن يصلبوه، ألا يكون دعا
عليهم بأن يهلكهم الله حيث رفعه الله إلى السماء الدنيا؟ فقال لي: أنت حكيم قد جاء
من عند حكيم، هذه هدايا أبعث بها معك إلى محمد، وأُرسِلُ معك ببذرقة [أي:
حُرَّاسًا] يبذرقونك إلى مأمنك.
وذكر ابن كثير
أنه كان في جملة الهدية غلام أسود، اسمه مأبور، وخفان ساذجان أسودان. وكان مابور
هذا خصيًّا، ولم يعلموا بأمره بادئ الأمر، فصار يدخل على مارية، كما كان من عاداتهم
ببلاد مصر، فجعل بعض الناس يتكلم فيهما بسبب ذلك، ولا يعلمون بحقيقة الحال وأنه
خصى، حتى قال بعضهم: إنه الذى أمر رسول الله صَلَّى الله عليه وسلم عليّ بن أبى
طالب بقتله، فوجده خصيًّا، فتركه.
وقد أورد ابن القيم هدايا المقوقس فقال:
أَهدَى للنبي صَلَّى الله عليه وسلم: مارية، وأختيها سيرين وقيسرى، فتسرى مارية،
ووهب سيرين لحسان بن ثابت. وأهدى له جارية أخرى، وألف مثقال ذهبًا، وعشرين ثوبًا من
قباطي مصر، وبغلة شهباء، وهي: دلدل، وحمارًا أشهب، وهو: عفير، وغلامًا خصيًّا، يقال
له: مأبور، وقيل: هو ابن عم مارية، وفرسًا: وهو اللزاز، وقدحًا من زجاج، وعسلًا.
وروى ابن حزم في "جوامع السيرة"
أن المقوقس هادى رسول الله صَلَّى الله عليه وسلم جاريتين؛ إحداهما: مارية، أم
إبراهيم ولد رسول الله صَلًّى الله عليه وسلم، والأخرى: أختها سيرين، وهبها رسول
الله صَلَّى الله عليه وسلم لحسان بن ثابت، فولدت له ابنه عبد الرحمن، فهو ابن خالة
إبراهيم ابن رسول الله صَلَّى الله عليه وسلم. كما أهدى له بغلة، كان يركبها إلى أن
مات، ثم كانت عند علي بن أبي طالب إلى أن مات، قيل: ثم صارت عند عبد الله بن جعفر
بن أبي طالب، وكان يجش لها الشعير لطول عمرها، إلى أن نفقت أيام معاوية. [يقال: جش
الحب، أي: دقَّه أو طحنه غليظًا جريشًا]
وذكر ابن سعد أن البغلة التي أرسلها المقوقس
إلى النبي صَلَّى الله عليه وسلم، لم يكن في العرب يومئذ غيرها. وروى عن حاطب قوله،
وهو يصف استقبال المقوقس له: كان لي مكرمًا في الضيافة، وقلة اللبث ببابه، ما أقمت
عنده إلا خمسة أيام.
وقد نقل محمد رضا في "محمد رسول الله"
عن الأستاذ حفني ناصف أصناف الهدايا التي أرسلها المقوقس إلى رسول الله صَلَّى الله
عليه وسلم، وهي: مارية بنت شمعون، وكانت أمها رومية، وجارية أخرى يقال لها: سيرين،
ولكنها أقل جمالًا من مارية، وجارية أخرى يقال لها: قيسر، وجارية سوداء، يقال لها:
بريرة، وغلامًا أسودًا يقال له: هابو، وبغلة شهباء، وهي التي سُمِّيت بدُلْدُل،
وفرس مسرج ملجم، وهو الذي سُمِّي بميمون، وحمارًا أشهب، وهو الذي سُمي بيعفور،
ومريعة فيها مكحلة، ومرآة ومشط، وقارورة دهن، ومقص، وسواك، وجانبًا من عسل بنها،
وألف مثقال من الذهب، وعشرين ثوبًا من قباطي مصر، وجانبًا من العود، والند، والمسك،
وقدحًا من قوارير، ويقال: أنه كان من ضمن الهدية، طبيب؛ فقال له النبي صَلَّى الله
عليه وسلم: "ارجع
إلى أهلك؛ نحن قوم لا نأكل حتى نجوع، وإذا أكلنا لا نشبع ".
وقد أسلمت مارية قبل أن تصل إلى المدينة، هي وسيرين، بدعوة حاطب بن أبي بلتعة.
[5] كتاب النبي صَلَّى الله عليه وسلم إلى الحارث بن أبي شمر
الغساني، ملك البلقاء:
قال ابن القيم: بعث النبي صَلَّى الله عليه وسلم شجاع بن وهب الأسدي إلى الحارث بن
أبي شمر الغساني، ملك البلقاء، قاله ابن إسحاق والواقدي. وقيل: إنما توجه لجبلة بن
الأيهم، وقيل: توجه لهما معا، وقيل: توجه لهرقل مع دحية بن خليفة، والله أعلم.
وقد أورد محمد رضا كتاب رسول الله صَلَّى الله عليه وسلم إلى الحارث بن أبي شمر
الغساني، وهذا نصه: "بِسْمِ
اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ من
محمد رسول الله إلى الحارث بن أبي شمر؛ سلام على من اتبع الهدى، وآمن بالله، فإني
أدعوك إلى أن تؤمن بالله، وحده لا شريك له، يبقى ملكك".
وروى ابن سعد عن شجاع بن وهب أنه أتى الحارث الغساني، وهو بغوطة دمشق، وهو مشغول
بتهيئة الإنزال والألطاف لقيصر، وقد جاء من حمص إلى ايلياء؛ حيث كشف الله عنه جنود
فارس، شكرًا لله تعإلى. وقال شجاع: فأقمت على بابه يومين أو ثلاثة، فقلت لحاجبه:
إني رسول رسول الله صَلَّى الله عليه وسلم إليه. فقال: لا تصل إليه حتى يخرج يوم
كذا وكذا. وجعل حاجبه، وكان روميا، اسمه مرى، يسألني عن رسول الله صَلَّى الله عليه
وسلم، فكنت أحدَّثه عن صفة رسول الله صَلَّى الله عليه وسلم، وما يدعو إليه، فيرق
حتى يغلبه البكاء، ويقول: إني قد قرأت الإنجيل، فأجد صفة هذا النبي صَلَّى الله
عليه وسلم بعينه، فأنا أومن به، وأصدقه، وأخاف من الحارث أن يقتلني. وكان يكرمني،
ويحسن ضيافتي.
وخرج الحارث يومًا، فجلس ووضع التاج على رأسه، فأذن لي عليه، فدفعت إليه كتاب رسول
الله صَلَّى الله عليه وسلم، فقرأه ثم رمى به، وقال: مَنْ ينتزع مني ملكي؟! أنا
سائر إليه، ولو كان باليمن جئته، عليَّ بالناس. فلم يزل يفرض حتى قام، وأمر بالخيول
تنعل، ثم قال: أخبر صاحبك ما ترى. وكتب إلى قيصر يخبره خبري، وما عزم عليه، فكتب
إليه قيصر: ألَّا تسير إليه، والْهُ عنه، ووافني بايلياء. فلمّا جاءه جواب كتابه،
دعاني، فقال: متى تريد أن تخرج إلى صاحبك؟ فقلت: غدًا، فأمر لي بمائة مثقال ذهب.
ووصلني "مرى"، وأمر لي بنفقة وكسوة، وقال: أقرئ رسول الله صَلَّى الله عليه وسلم
مني السلام.
فقدمت على النبي صَلَّى الله عليه وسلم، فأخبرته، فقال: "بَادَ
مُلْكُهُ".
وأقرأته من "مرى" السلام، وأخبرته بما قال، فقال رسول الله صَلَّى الله عليه وسلم: "صَدَقَ".
ومات الحارث بن أبي شمر عام الفتح. قال محمد رضا: ويُفْهَم من قول النبي صَلَّى
الله عليه وسلم: "بَادَ
مُلْكُهُ"،
أنه لم يسلم.
وقال ابن سعد: كان فروة بن عمرو الجذامي عاملًا لقيصر، على عمان من أرض البلقاء،
فلم يكتب إليه رسول الله صَلَّى الله عليه وسلم، فأسلم فروة، وكتب إلى رسول الله
صَلَّى الله عليه وسلم بإسلامه، وأهدى له، وبعث من عنده رسولًا من قومه، يقال له:
مسعود بن سعد: فقرأ رسول الله صَلَّى الله عليه وسلم كتابه، وقَبِلَ هديته، وكتب
إليه جواب كتابه، وأجاز مسعودًا باثنتي عشرة أوقية ونَشّ؛ وذلك خمسمائة درهم.
[6] كتاب النبي صَلَّى الله عليه وسلم إلى هَوْذَةَ بن عليّ
الحَنَفِيّ، صاحب اليمامة:
ذكر ابن القيم أن رسول الله صَلَّى الله عليه وسلم بعث سليط بن عمرو إلى هوذة بن
علي الحنفي، باليمامة، فأكرمه. وقيل: بعثه إلى هوذة وإلى ثمامة بن أثال الحنفي، فلم
يسلم هوذة، وأسلم ثمامة بعد ذلك.
وقال ابن القيم ــ أيضًا: كتب النبي صَلَّى الله عليه وسلم إلى صاحب اليمامة، هوذة
بن علي، وأرسل به مع سليط بن عمرو العامري: "بِسْمِ
اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ مِنْ
مُحَمّدٍ رَسُولِ اللّهِ إلى هَوْذَةَ بْنِ عَلِيّ؛ سَلَامٌ عَلَى مَنْ اتّبَعَ
الْهُدَى، وَاعْلَمْ أَنّ دِينِي سَيَظْهَرُ إلى مُنْتَهَى الْخُفّ وَالْحَافِرِ،
فَأَسْلِمْ تَسْلَمْ، وَأَجْعَلْ لَكَ مَا تَحْتَ يَدَيْك".
فلما قدم عليه سليط بكتاب رسول الله صَلَّى الله عليه وسلم، مختومًا، أنزله،
وحيَّاه. واقْتَرَأَ عليه الكتاب؛ فرد ردًا دون ردّ، وكتب إلى النبي صَلَّى الله
عليه وسلم: ما أحسن ما تدعو إليه، وأجمله، والعرب تهاب مكاني، فاجعل إليَّ بعض
الأمر أتبعك. وأجاز سليطًا بجائزة، وكساه أثوابًا من نسج هجر.
فقدم بذلك كله على النبي صَلَّى الله عليه وسلم، فأخبره، وقرأ النبي صَلَّى الله
عليه وسلم كتابه، فقال: "لَوْ
سَأَلَنِي سَيَابَةً مِنْ الْأَرْضِ مَا فَعَلْت، بَادَ، وَبَادَ مَا فِي يَدَيْهِ".
فلما انصرف رسول الله صَلَّى الله عليه وسلم من الفتح، جاءه جبريل عليه السلام بأن
هوذة قد مات، فقال النبي صَلَّى الله عليه وسلم: "أَمَا
إنّ الْيَمَامَةَ سَيَخْرُجُ بِهَا كَذّابٌ يَتَنَبّأُ، يُقْتَلُ بَعْدِي".
فقال قائل: يا رسول الله، مَنْ يقتله؟ فقال له رسول الله صَلَّى الله عليه وسلم: "أَنْتَ
وَأَصْحَابُك"،
فكان كذلك.
وذكر الواقدي أن أُرْكُونَ دمشقَ؛ عظيمٌ من عظماءِ النصارى، كان عند هوذة، فسأله عن
النبي صَلَّى الله عليه وسلم، فقال: جاءني كتابه يدعوني إلى الإسلام، فلم أجبه. قال
الأُرْكُونُ: لم لا تجيبه؟ قال: ضَنِنْت بديني، وأنا ملك قومي، وإن تبعته لم أملك.
قال: بلى، والله لئن تَبِعْتَهُ لَيُمَلّكَنك، فإنّ الخِيرَةَ لك في اتباعه، وإنه
للنبي العربي؛ الذي بشَّر به عيسى ابن مريم، وإنه لمكتوب عندنا في الإنجيل:
مُحَمّدٌ رَسُولُ اللّهِ.
وقد أرسل النبي صَلَّى الله عليه وسلم بعد هذه الكتب الستة، كُتبًا
أخرى، منها:
كتاب النبي صَلَّى الله عليه وسلم إلى جَيْفَر، ملك عمان:
قال ابن سعد: بعث رسول الله صَلَّى الله عليه وسلم عمرو بن العاص، في ذي القعدة سنة
ثمان، إلى جَيْفَرَ وعبدٍ ابْنَيِ الجُلنْدَى، وهما من الأزد، والمََلِكُ منهما
جَيْفَر، يدعوهما إلى الإسلام، وكتب معه إليهما كتابًا.
وقال ابن القيم: "كتب إلى ملك عمان كتابًا، وبعثه مع عمرو بن العاص: "بِسْمِ
اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيم، من
محمد بن عبد الله إلى جيفر وعبد ابني الجلندى؛ سلام على من اتبع الهدى، أما بعد:
فإني أدعوكما بدعاية الإسلام، أسلما تسلما، فإني رسول الله إلى الناس كافة؛
لِأُنذِرَ مَنْ كانَ حيًّا، ويَحِقَّ القولُ على الكافرين. فإنكما إن أقررتما
بالإسلام، وليتكما، وإن أبيتما أن تقرّا بالإسلام، فإن ملككما زائل عنكما، وخيلي
تحل بساحتكما، وتظهر نبوتي على ملككما".
وكتب أبي بن كعب، وختم الكتاب.
قال عمرو: فخرجت حتى انتهيت إلى عمان، فلما قدمتها عمدت إلى عبد، وكان أحلم
الرجلين، وأسهلهما خلقًا، فقلت: إني رسول رسول الله صَلَّى الله عليه وسلم إليك،
وإلى أخيك. فقال: أخي المُقدَّم عليّ بالسن والمُلك، وأنا أوصلك إليه حتى يقرأ
كتابك، ثم قال: وما تدعو إليه؟ قلت: أدعوك إلى الله وحده لا شريك له، وتخلع ما
عُبِدَ من دونه، وتشهد أن محمدًا عبده ورسوله. قال: يا عمرو؛ إنك ابن سيّد قومك،
فكيف صنع أبوك، فإن لنا فيه قدوة؟ قلت: مات ولم يؤمن، ووددت أنه كان أسلم، وصدق به،
وقد كنتُ أنا على مثل رأيه، حتى هداني الله للإسلام. قال: فمتى تبعتَه؟ قلتُ:
قريبًا. فسألني: أين كان إسلامك؟ قلتُ: عند النجاشي، وأخبرته أن النجاشي قد أسلم.
قال: فكيف صنع قومه بملكه؟ فقلتُ: أقروه واتبعوه. قال: والأساقفة والرهبان تبعوه؟!
قلت: نعم. قال: انظر يا عمرو، ما تقول؛ إنه ليس من خصلة في رجل أفضح له من الكذب.
قلتُ له: ما كذبتُ، وما نستحلّه في ديننا. ثم قال: ما أرى هرقل علم بإسلام النجاشي،
قلت: بلى. قال: بأيّ شيء علمت ذلك؟ قلتُ: كان النجاشي يخرج له خرجًا، فلما أسلم
وصدق بمحمد صَلَّى الله عليه وسلم، قال: لا، والله لو سألني درهمًا واحدًا، ما
أعطيته. فبلغ هرقل قوله، فقال له يناق أخوه: أتدع عبدك لا يخرج لك خرجًا، ويدين
دينًا محدثًا؟! قال هرقل: رجل رغب في دين فاختاره لنفسه، ما أصنع به؟! والله لولا
الضنّ بملكي، لصنعت كما صنع.
قال: انظر ما تقول يا عمرو، قلت: والله صدقتك. قال عبد: فأخبرني، ما الذي يأمر به،
وينهي عنه؟ قلتُ: يأمر بطاعة الله عز وجل، وينهى عن معصيته، ويأمر بالبر، وصلة
الرحم، وينهى عن الظلم والعدوان، وعن الزنا، وعن الخمر، وعن عبادة الحجر، والوثن،
والصليب. قال: ما أحسن هذا الذي يدعو إليه، لو كان أخي يتابعني عليه، لركبنا حتى
نؤمن بمحمد، ونصدق به، ولكن أخي أضنّ بملكه من أن يدعه، ويصير ذَنَبًا. قلتُ: إنه
إن أسلم، ملَّكه رسول الله صَلَّى الله عليه وسلم على قومه، فأخذ الصدقة من
غنيِّهم، فردها على فقيرهم. قال: إن هذا لخلق حسن، وما الصدقة؟ فأخبرته بما فرض
رسول الله صَلَّى الله عليه وسلم من الصدقات في الأموال حتى انتهيت إلى الإبل. قال:
يا عمرو، وتؤخذ من سوائم مواشينا، التي ترعى الشجر وترد المياه؟ فقلتُ: نعم. فقال:
والله ما أرى قومي في بعد دارهم، وكثرة عددهم، يطيعون بهذا.
قال: فمكثت ببابه أيامًا، وهو يصل إلى أخيه، فيخبره كل خبري، ثم إنه دعاني يومًا
فدخلت عليه، فأخذ أعوانه بضبعي، فقال: دعوه، فأُرسلت، فذهبت لأجلس فأبوا أن يدعوني
أجلس، فنظرت إليه، فقال: تكلم بحاجتك. فدفعت إليه الكتاب مختومًا، ففض خاتمه، وقرأ
حتى انتهى إلى أخيه، فقرأه مثل قراءته، إلا أني رأيت أخاه أرقَّ منه، قال: ألا
تخبرني عن قريش، كيف صنعت؟ فقلت: تبعوه، إما راغب في الدين، وإما مقهور بالسيف.
قال: ومن معه؟ قلت: الناس قد رغبوا في الإسلام، واختاروه على غيره، وعرفوا بعقولهم
مع هدى الله إياهم أنهم كانوا في ضلال، فما أعلم أحدًا بقي غيرك في هذه الحرجة،
وأنت إن لم تسلم اليوم وتتبعه، يوطئك الخيل، ويبيد خضراءك. فأسلم تسلم، ويستعملك
على قومك، ولا تدخل عليك الخيل، والرجال. قال: دعني يومي هذا، وارجع إليَّ غدًا.
فرجعتُ إلى أخيه، فقال: يا عمرو، إني لأرجو أن يسلم، إن لم يضن بملكه. حتى إذا كان
الغد، أتيت إليه، فأبى أن يأذن لي، فانصرفت إلى أخيه، فأخبرته أني لم أصل إليه،
فأوصلني إليه، فقال: إني فكرت فيما دعوتني إليه، فإذا أنا أضعف العرب، إن ملّكت
رجلًا ما في يدي، وهو لا تبلغ خيله ها هنا، وإن بلغت خيله، ألفت قتالًا، ليس كقتال
من لاقى. قلت: وأنا خارج غدًا، فلما أيقن بمخرجي، خلا به أخوه، فقال: ما نحن فيما
قد ظهر عليه، وكل من أرسل إليه قد أجابه؟ فأصبح فأرسل إليّ، فأجاب إلى الإسلام، هو
وأخوه جميعًا، وصدَّقا النبي صَلَّى الله عليه وسلم، وخلّيَا بيني وبين الصدقة،
وبين الحكم فيما بينهم، وكانا لي عونًا على من خالفني".
كما أرسل النبي صَلَّى الله عليه وسلم ــ أيضًا ــ إلى عدد كبير من
القبائل، ذكرها ابن سعد فقال:
بعث رسول الله صَلَّى الله عليه وسلم، مُنْصَرَفَه من الجعرانة، العلاء بن الحضرمي
إلى المنذر بن ساوَي العبدي، وهو بالبحرين، يدعوه إلى الإسلام، وكتب إليه كتابًا.
فكتب إلى رسول الله صَلَّى الله عليه وسلم بإسلامه، وتصديقه، وإني قد قرأت كتابك
على أهل هجر؛ فمنهم من أحب الإسلام، وأعجبه، ودخل فيه، ومنهم من كرهه. وبأرضي مجوس
ويهود، فأحدث إلي في ذلك أمرك. فكتب إليه رسول الله صَلَّى الله عليه وسلم: "إنّكَ
مَهْمَا تُصْلِحْ، فَلَنْ نَعْزِلَكَ عَنْ عَمَلِكَ، وَمَنْ أقامَ عَلَى
يَهُودِيّةٍ أوْ مَجُوسِيّةٍ، فَعَلَيْهِ الجِزْيَةُ".
وكتب رسول الله صَلَّى الله عليه وسلم إلى مجوس هجر، يعرض عليهم الإسلام، فإن أبوا
أخذت منهم الجزية، وبأن لا تنكح نساؤهم، ولا تؤكل ذبائحهم. وكان رسول الله صَلَّى
الله عليه وسلم بعث أبا هريرة مع العلاء بن الحضرمي، وأوصاه به خيرًا.
وكتب رسول الله صَلَّى الله عليه وسلم للعلاء: فرائض الإبل، والبقر، والغنم،
والثمار، والأموال. فقرأ كتابه على الناس، وأخذ صدقاتهم.
وكتب رسول الله صَلَّى الله عليه وسلم إلى أهل اليمن كتابًا؛ يخبرهم فيه بشرائع
الإسلام، وفرائض الصدقة في المواشي، والأموال، ويوصيهم بأصحابه ورسله خيرًا. وكان
رسوله إليهم معاذ بن جبل ومالك بن مرارة، ويخبرهم بوصول رسولهم إليه وما بلغ عنهم.
وكتب رسول الله صَلَّى الله عليه وسلم إلى عدّة من أهل اليمن، سماهم، منهم: الحارث
بن عبد كلال، وشريح بن عبد كلال، ونعيم بن عبد كلال، ونعمان قَيْل ذي يَزَن،
ومعافر، وهمدان، وزُرْعة ذي رُعَين، وكان قد أسلم من أوّل حِمْيَر، وأمرهم أن
يجمعوا الصدقة والجزية فيدفعوهما إلى معاذ بن جبل ومالك بن مُرارة، وأمرهم بهما
خيرًا. وكان مالك بن مرارة رسول أهل اليمن إلى النبي صَلَّى الله عليه وسلم
بإسلامهم وطاعتهم، فكتب إليهم رسول الله صَلَّى الله عليه وسلم أن مالك بن مرارة قد
بلغ الخبر، وحفظ الغيب.
وكتب رسول الله صَلَّى الله عليه وسلم إلى بني معاوية من كندة بمثل ذلك. وكتب رسول
الله صَلَّى الله عليه وسلم إلى بني عمرو من حِمْيَر يدعوهم إلى الإسلام، وفي
الكتاب: وكتب خالد بن سعيد بن العاص.
وكتب رسول الله صَلَّى الله عليه وسلم إلى جَبَلَة بن الأَيْهَم، ملك غسّان، يدعوه
إلى الإسلام، فأسلم. وكتب بإسلامه إلى رسول الله صَلَّى الله عليه وسلم، وأهدى له
هدية، ولم يزل مسلمًا حتى كان في زمان عمر بن الخطاب، فبينما هو في سوق دمشق، إذ
وطيء رجلًا من مزينة، فوثب المزني فلطمه، فأُخذ وانْطُلقَ به إلى أبي عبيدة بن
الجراح، فقالوا: هذا لطم جبلة، قال: فليلطِمه، قالوا: وما يُقتَل؟! قال: لا، قالوا:
فما تقطع يده؟! قال: لا، إنما أمر الله تبارك وتعإلى بالقَوَدِ. قال جبلة: أو ترون
أني جاعل وجهي نِدًّا لوجه جَدْيٍ جاء من عَمْق؟! بئس الدين هذا! ثم ارتد
نصرانيًّا، وترحل بقومه حتى دخل أرض الروم، فبلغ ذلك عمر فشقّ عليه، وقال لحسّان بن
ثابت: أبا الوليد؛ أما علمت أن صديقك جبلة بن الأيهم ارتد نصرانيًّا؟ قال: إنا لله
وإنا إليه راجعون، ولِمَ؟ قال: لطمه رجل من مزينة، قال: وحُقّ له، فقام إليه عمر
بالدّرة فضربه بها.
وبعث رسول الله صَلَّى الله عليه وسلم جرير بن عبد الله البجلي إلى ذي الكُلاع بن
ناكور بن حبيب بن مالك بن حسان بن تُبّع، وإلى ذي عمرو، يدعوهما إلى الإسلام،
فأسلما، وأسلمت ضريبة بنت أبرهة بن الصباح، امرأة ذي الكلاع. وتُوفِّي رسول الله
صَلَّى الله عليه وسلم وجرير عندهم، فأخبره ذو عمرو بوفاته صَلَّى الله عليه وسلم،
فخرج جرير إلى المدينة.
وكتب رسول الله صَلَّى الله عليه وسلم لمعديكرب بن أبرهة؛ أن له ما أسلم عليه من
أرض خَوْلان. وكتب رسول الله صَلَّى الله عليه وسلم لأسقف بني الحارث بن كعب،
وأساقفة نجران، وكهنتهم، ومن تبعهم، ورهبانهم: أن لهم على ما تحت أيديهم من قليل
وكثير؛ من بِيَعِهم، وصلواتهم، ورهبانيتهم، وجوار الله ورسوله، لا يغير أسقف عن
أسقفيته، ولا راهب عن رهبانيته، ولا كاهن عن كهانته، ولا يغير حق من حقوقهم، ولا
سلطانهم، ولا شيء مما كانوا عليه، ما نصحوا وأصلحوا فيما عليهم، غير مثقلين بظلم
ولا ظالمين، وكتب المغيرة.
وكتب رسول الله صَلَّى الله عليه وسلم لربيعة بن ذي مرحب الحضرمي، وإخوته، وأعمامه؛
أن لهم أموالهم، ونحلهم، ورقيقهم، وآبارهم، وشجرهم، ومياههم، وسواقيهم، ونبتهم،
وشراجهم [الشَّرْج: مَسِيلُ الماء من هضاب، ونحوها، إلى السهل، والجمع: شراج]،
بحضرموت، وكلّ مال لآل ذي مرحب، وأن كل رهن بأرضهم يُحسب ثمره وسِدْرُه وقَضْبُه من
رهنه الذي هو فيه، وأن كل ما كان في ثمارهم من خير فإنه لا يسأله أحد عنه، وأن الله
ورسوله براء منه، وأن نصر آل ذي مرحب على جماعة المسلمين، وأن أرضهم بريئة من
الجور، وأن أموالهم وأنفسهم وزافر حائط الملك الذي كان يسيل إلى آل قيس، وأن الله
ورسوله جارٌ على ذلك، وكتب معاوية.
وكتب رسول الله صَلَّى الله عليه وسلم لمن أسلم من حَدَس من لخم، وأقام الصلاة وآتى
الزكاة، وأعطى حظ الله وحظ رسوله، وفارق المشركين، فإنه آمنٌ بذمة الله وذمة رسوله
محمد. ومن رجع عن دينه، فإن ذمة الله وذمة محمد رسوله منه بريئة. ومن شهد له مسلم
بإسلامه، فإنه آمن بذمة محمد، وإنه من المسلمين، وكتب عبد الله بن زيد.
وكتب رسول الله صَلَّى الله عليه وسلم لخالد بن ضماد الأزدي؛ أن له ما أسلم عليه من
أرضه، على أن يؤمن بالله لا يشرك به شيئًا، ويشهد أن محمدًا عبده ورسوله، وعلى أن
يقيم الصلاة، ويؤتي الزكاة، ويصوم شهر رمضان، ويحج البيت، ولا يأوي مُحْدِثًا، ولا
يرتاب، وعلى أن ينصح لله ولرسوله، وعلى أن يحب أحباء الله، ويبغض أعداء الله. وعلى
محمد النبي أن يمنعه مما يمنع منه نفسه، وماله، وأهله، وأن لخالد الأزدي ذمة الله،
وذمة محمد النبي، إن وفى بهذا، وكتب أُبَيّ.
وكتب رسول الله صَلَّى الله عليه وسلم لعمرو بن حزم، حيث بعثه إلى اليمن، عهدًا؛
يعلمه فيه شرائع الإسلام، وفرائضه، وحدوده، وكتب أُبَيّ.
وكتب رسول الله صَلَّى الله عليه وسلم لنعيم بن أوس، أخي تميم الداري؛ أن له حِبري،
وعَيْنون بالشام، قريتها كلها: سهلها، وجبلها، وماءها، وحرثها، وأنباطها، وبقرها،
ولعقبه من بعده، لا يحاقّه فيها أحد، ولا يلجه عليهم بظلم. ومن ظلمهم، وأخذ منهم
شيئًا، فإن عليه لعنة الله، والملائكة، والناس أجمعين، وكتب عليّ.
وكتب رسول الله صَلَّى الله عليه وسلم للحصين بن أوس الأسلمي، أنه أعطاه
الفُرْغَين، وذات أعشاش، لا يحاقه فيها أحد، وكتب عليّ.
وكتب رسول الله صَلَّى الله عليه وسلم لبني قُرّة بن عبد الله بن أبي نُجَيْح
النَّبْهَانِيّين؛ أنه أعطاهم المظلة كلها: أرضها، وماءها، وسهلها، وجبلها، حمى
يرعون فيه مواشيهم، وكتب معاوية.
وكتب رسول الله صَلَّى الله عليه وسلم لبني الضباب من بني الحارث بن كعب؛ أن لهم
ساربة ورافعها، لا يحاقهم فيها أحد، ما أقاموا الصلاة، وآتوا الزكاة، وأطاعوا الله
ورسوله، وفارقوا المشركين، وكتب المغيرة.
وكتب رسول الله صَلَّى الله عليه وسلم ليزيد بن الطفيل الحارثي؛ أن له المضّة
كلّها، لا يحاقه فيها أحد، ما أقام الصلاة وآتى الزكاة، وحارب المشركين، وكتب جهيم
بن الصلت.
وكتب رسول الله صَلَّى الله عليه وسلم لبني قنان بن ثعلبة من بني الحارث؛ أن لهم
مجسًا، وأنهم آمنون على أموالهم، وأنفسهم، وكتب المغيرة.
وكتب رسول الله صَلَّى الله عليه وسلم لعبد يَغوث بن وَعْلة الحارثي؛ أن له ما أسلم
عليه: من أرضها، وأشيائها، يعني: نخلها، ما أقام الصلاة، وآتى الزكاة، وأعطى خُمس
المغانم في الغزو، ولا عُشْر ولا حشر، ومن تبعه من قومه، وكتب الأرقم بن أبي الأرقم
المخزومي.
وكتب رسول الله صَلَّى الله عليه وسلم لبني زياد بن الحارث الحارثيين؛ أن لهم
جَمّاء وأذْنِبَة، وانهم آمنون ما أقاموا الصلاة، وآتوا الزكاة، وحاربوا المشركين،
وكتب علي.
وكتب رسول الله صَلَّى الله عليه وسلم ليزيد بن المُحَجَّل الحارثي؛ أن لهم نمرة
ومساقيها، ووادي الرحمن من بين غابتها، وأنه على قومه من بني مالك وعقبة، لا
يُغْزَون ولا يُحشرون، وكتب المغيرة بن شعبة.
وكتب رسول الله صَلَّى الله عليه وسلم لقيس بن الحصين ذي الغُصّة أمانة لبني أبيه
بني الحارث ولبني نهد؛ أن لهم ذمة الله، وذمة رسوله، لا يحشرون ولا يعشرون، ما
أقاموا الصلاة، وآتوا الزكاة، وفارقوا المشركين، وأشهدوا على إسلامهم، وأن في
أموالهم حقًّا للمسلمين. قال: وكان بنو نهد حلفاء بني الحارث.
وكتب رسول الله صَلَّى الله عليه وسلم لبني قنان بن يزيد الحارثيين؛ أن لهم
مِذْودًا وسواقيَه، ما أقاموا الصلاة، وآتوا الزكاة، وفارقوا المشركين، وأمنوا
السبيل، وأشهدوا على إسلامهم.
وكتب رسول الله صَلَّى الله عليه وسلم لعاصم بن الحارث الحارثي؛ أن له نجمةً من
رَاكِس، لا يُحَاقُّه فيها أحد، وكتب الأرقم.
وكتب رسول الله صَلَّى الله عليه وسلم لبني معاوية بن جَرْوَل الطائيين؛ لمن أسلم
منهم وأقام الصلاة، وآتى الزكاة، وأطاع الله ورسوله، وأعطى من المغانم خُمس الله،
وسهم النبي صَلَّى الله عليه وسلم، وفارق المشركين، وأشهد على إسلامه، أنه آمنٌ
بأمان الله ورسوله، وأن لهم ما أسلموا عليه، والغنم مبيتة، وكتب الزبير بن العوام.
وكتب رسول الله صَلَّى الله عليه وسلم لعامر بن الأسود بن عامر بن جوين الطائي؛ أن
له ولقومه طَيِّئ، ما أسلموا عليه من بلادهم ومياههم، ما أقاموا الصلاة، وآتوا
الزكاة، وفارقوا المشركين، وكتب المغيرة.
وكتب رسول الله صَلَّى الله عليه وسلم لبني جُوين الطائيين؛ لمن آمن منهم بالله،
وأقام الصلاة، وآتى الزكاة، وفارق المشركين، وأطاع الله ورسوله، وأعطى من المغانم
خُمس الله، وسهم النبي، وأشهد على إسلامه، فإن له أمان الله ومحمد بن عبد الله، وأن
لهم أرضهم، ومياههم، وما أسلموا عليه، وغدوة الغنم من ورائها مبيتة، وكتب المغيرة،
قال: يعني بغدوة الغنم قال: تغدو الغنم بالغداة فتمشي إلى الليل، فما خلفت من الأرض
وراءها فهو لهم، وقوله مبيتة، يقول: حيث باتت.
وكتب رسول الله صَلَّى الله عليه وسلم لبني معن الطائي؛ أن لهم ما أسلموا عليه من
بلادهم، ومياههم، وغدوة الغنم من ورائها مبيتة، ما أقاموا الصلاة، وآتوا الزكاة،
وأطاعوا الله ورسوله، وفارقوا المشركين، وأشهدوا على إسلامهم، وأمنوا السبيل، وكتب
العلاء، وشهد.
وكتب رسول الله صَلَّى الله عليه وسلم: "بِسْمِ
اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ، من
محمد النبيّ إلى بني أسَد؛ سلام عليكم، فإني أحمد إليكم، الله الذي لا إله إلا هو،
أما بعد: فلا تَقْرَبُنّ مِيَاهَ طَيِّئ، وأَرْضَهُم؛ فإنّه لا تَحِلُّ لكُمْ
مِيَاهُهُمْ. ولا يَلِجَنّ أَرْضَهُمْ إلّا مَنْ أوْلَجُوا، وَذِمَّةُ مُحمَّدٍ
بَرِيئَةٌ مِمّنْ عَصَاهُ، وَلْيَقُمْ قُضَاعيّ بنُ عَمْرو".
وكتب خالد بن سعيد، قال: وقضاعي بن عمرو من بني عُذرة، وكان عاملًا عليهم.
وكتب رسول الله صَلَّى الله عليه وسلم كتابًا لجنادة الأزدي، وقومه، ومن تبعه؛ ما
أقاموا الصلاة، وآتوا الزكاة، وأطاعوا الله ورسوله، وأعطوا من المغانم خمس الله،
وسهم النبي صَلَّى الله عليه وسلم، وفارقوا المشركين، فإن لهم ذمة الله، وذمة محمد
بن عبد الله، وكتب أُبَيّ.
وكتب رسول الله صَلَّى الله عليه وسلم إلى سعد هُذيم من قضاعة، وإلى جُذام، كتابًا
واحدًا؛ يعلّمهم فيه فرائض الصدقة، وأمرهم أن يدفعوا الصدقة، والخمس إلى رسوليه:
أُبيّ، وعنبسة، أو مَنْ أرسلاه. قال: ولم ينسبا لنا.
وكتب رسول الله صَلَّى الله عليه وسلم لبني زُرعة، وبني الرّبْعة من جُهينة؛ أنهم
آمنون على أنفسهم، وأموالهم، وأن لهم النصر على من ظلمهم أو حاربهم، إلا في الدين
والأهل. ولأهل باديتهم، مَنْ برَّ منهم واتقى، ما لحاضرتهم، والله المستعان.
وكتب رسول الله صَلَّى الله عليه وسلم لبني جُعيل من بليّ؛ أنهم رهط من قريش ثم من
بني عبد مناف، لهم مثل الذي لهم، وعليهم مثل الذي عليهم، وأنهم لا يُحشرون ولا
يُعشرون، وأن لهم ما أسلموا عليه من أموالهم، وأن لهم سعاية نصر وسعد بن بكر
وثُمالة وهُذيل. وبايع رسول الله صَلَّى الله عليه وسلم على ذلك: عاصم بن أبي صيفي،
وعمرو بن أبي صيفي، والأعجم بن سفيان، وعلي بن سعد. وشهد على ذلك: العباس بن عبد
المطلب، وعلي بن أبي طالب، وعثمان بن عفان، وأبو سفيان بن حرب. قال: وإنما جعل
الشهود من بني عبد مناف لهذا الحديث؛ لأنهم حلفاء بني عبد مناف. ويعني "لا
يُحشرون": من ماء إلى ماء في الصدقة، و"لا يُعشرون": يقول في السنة إلا مرة، وقوله
"إن لهم سعاية" يعني: الصدقة.
وكتب رسول الله صَلَّى الله عليه وسلم لأسلم من خزاعة؛ لمن آمن منهم، وأقام الصلاة؛
وآتى الزكاة، وناصح في دين الله، أن لهم النصر على مَنْ دَهِمَهم بظلم، وعليهم نصر
النبي صَلَّى الله عليه وسلم إذا دعاهم، ولأهل باديتهم ما لأهل حاضرتهم، وانهم
مهاجرون حيث كانوا، وكتب العلاء بن الحضرمي، وشهد.
وكتب رسول الله صَلَّى الله عليه وسلم لعَوْسَجَةَ بن حَرْملة الجهني: "بِسْمِ
اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ، هذا
ما أعطى الرّسولُ عَوْسَجَةَ بنَ حَرْمَلَةَ الجُهَني مِنْ ذي المَرْوَةِ، أعْطاهُ
ما بَينَ بَلْكَثَةَ إلى المَصْنَعَةِ إلى الجَفَلاتِ إلى الجَدّ جَبَلِ القِبْلَةِ
لا يُحَاقّهُ أحَدٌ، وَمَنْ حَاقّهُ فَلا حَقّ لَهُ وَحَقّهُ حَقّ".
وكتب عقبة، وشهد.
وكتب رسول الله صَلَّى الله عليه وسلم لبني شَنْخ من جهينة: "بِسْمِ
اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ، هذا
ما أعطى محمد النبي بَني شَنْخٍ مِنْ جُهَيْنَةَ؛ أعطاهم ما خَطّوا مِنْ
صُفَيْنَةَ، وما حَرَثوا. ومَنْ حَاقّهُمْ، فَلا حَقّ لَهُ، وحَقّهُمْ حَقٌّ".
كتب العلاء بن عقبة، وشهد.
وكتب رسول الله صَلَّى الله عليه وسلم لبني الجُرْمُز بن ربيعة، وهم من جهينة؛ أنهم
آمنون ببلادهم، ولهم ما أسلموا عليه، وكتب المغيرة.
وكتب رسول الله صَلَّى الله عليه وسلم لعمرو بن معبد الجهني، وبني الحُرَقَةَ من
جُهينة، وبني الجُرمز؛ مَنْ أسلم منهم، وأقام الصلاة، وآتى الزكاة، وأطاع الله
ورسوله، وأعطى من الغنائم الخُمس، وسهم النبيّ الصفيّ، ومن أشهد على إسلامه، وفارق
المشركين، فإنه آمنٌ بأمان الله، وأمان محمد. وما كان من الديْن مدونة لأحد من
المسلمين، قُضي عليه برأس المال، وبطل الربا في الرهن. وأن الصدقة في الثمار العشر،
ومن لحق بهم فإن له مثل ما لهم.
وكتب رسول الله صَلَّى الله عليه وسلم لبلال بن الحارث المزني؛ أن له النخل، وجزّعة
شَطْره ذا المزارع والنخل، وأن له ما أصلح به الزرع، من قَدَس. وأن له: المَضّة،
والجزع، والغَيلة، إن كان صادقًا، وكتب معاوية. فأما قوله "جزّعة" فإنه يعني: قرية.
وأما "شطره" فإنه يعني: تجاهه؛ وهو في كتاب الله عزّ وجلّ: {فَوَلِّ
وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ} [البقرة:
144] يعني: تجاه المسجد الحرام، وأما قوله "من قَدَس" فالقَدَس: الخُرْج، وما
أَشبهه من آلة السفر. وأما "المَضّة": فاسم الأرض.
وكتب رسول الله صَلَّى الله عليه وسلم إلى بُديل وبُسر وسَرَوات بني عمرو: "أما
بعدُ؛ فإني لم آثمْ بِإِلِّكُم، ولم أَضَعْ في جَنْبِكُمْ، وإنّ أكرمَ أهْلِ
تِهَامَةَ عَلَيّ، وأقرَبَهم رَحِمًا مني، أنتم، ومن تبعكم من المُطَيّبينَ. أما
بعدُ؛ فإني قد أخذتُ لمن هاجرَ منكم مِثْلَ ما أخذتُ لنفسي، ولو هاجرَ بأرضه، إلّا
سَاكِنَ مكّةَ، إلّا مُعْتَمِرًا أو حَاجًّا، فإني لم أَضَعْ فيكم مُنْذُ
سَالَمْتُ، وأنكم غيرُ خائفين مِنْ قِبَلِي، ولا مُحْصَرِينَ. أما بعدُ؛ فإنه قد
أسلمَ علقمةُ بنُ عُلاثَةَ، وابنا هَوْذَةَ، وهاجَرَا، وبايعا على مَنْ تَبِعَهُمْ
مِنْ عِكْرِمَةَ، وأن بعضَنَا مِنْ بَعْضٍ، في الحلالِ والحرامِ. وأني والله، ما
كَذَبْتُكُمْ، وَلَيُحِبّنّكُمْ رَبّكُمْ".
وقوله "بِإِلِّكُم"، الإل: العهد، والمعنى: لم أخن عهدكم، فآثم. قال ولم يكتب فيها،
السلام؛ لأنه كتب بها إليهم قبل أن ينزل عليه السلام، وأما علقمة بن علاثة فهو
علقمة بن علاثة بن عوف بن الأحوص بن جعفر بن كلاب، وابنا هوذة العداء وعمرو ابنا
خالد بن هوذة من بني عمرو بن ربيعة بن عامر بن صعصعة، ومَن تبعهم من عكرمة، فإنه
عكرمة بن خصفة بن قيس بن عيلان، ومن تبعكم من المطيبين فهم: بنو هاشم، وبنو زُهرة،
وبنو الحارث بن فهر، وتَيم بن مُرّة، وأَسد بن عبد العزى.
وكتب رسول الله صَلَّى الله عليه وسلم للعَدّاء بن خالد بن هوذة، ومن تبعه من عامر
بن عكرمة؛ أنه أعطاهم ما بين المصباعة إلى الزّحّ ولوابة، يعني: لوابة الخرّار،
وكتب خالد بن سعيد.
وكتب رسول الله صَلَّى الله عليه وسلم إلى مُسَيْلِمَةَ الكذاب، لعنه الله؛ يدعوه
إلى الإسلام، وبعث به مع عمرو بن أمية الضمري. فكتب إليه مسيلمة جواب كتابه؛ ويذكر
فيه: أنه نبي مثله، ويسأله أن يقاسمه الأرض، ويذكر أن قريشًا قوم لا يَعْدِلون.
فكتب إليه رسول الله صَلَّى الله عليه وسلم، وقال: "الْعَنوهُ،
لَعَنهُ الله"،
وكتب إليه: "بلغني
كتابُكَ، الكذبُ والافتراءُ على اللهِ، وان الأرضَ للهِ يُورِثُها مَن يَشاءُ من
عبادهِ والعاقبةُ للمتقينَ والسلامَ على مَنْ اتَّبعَ الهدى".
قال: وبعث به مع السائب بن العوام، أخي الزبير بن العوام.
وكتب رسول الله صَلَّى الله عليه وسلم لسلمة بن مالك بن أبي عامر السلمي من بني
حارثة؛ أنه أعطاه مَدْفوّا، لا يحاقّه فيه أحد، ومن حاقّه فلا حقّ له، وحقّه حقّ.
وكتب رسول الله صَلَّى الله عليه وسلم للعباس بن مرداس السلمي؛ أنه أعطاه مَدْفوّا،
فمن حاقّه فلا حقّ له، وكتب العلاء بن عقبة، وشهد.
وكتب رسول الله صَلَّى الله عليه وسلم لهوذة بن نُبيشة السلمي ثم من بني عُصيّة؛
أنه أعطاه ما حوى الجفر كلّه.
وكتب رسول الله صَلَّى الله عليه وسلم للأجَبّ، رجل من بني سليم، أنه أعطاه فالسًا،
وكتب الأرقم.
وكتب رسول الله صَلَّى الله عليه وسلم لراشد بن عبد السلمي؛ أنه أعطاه غَلْوَتَيْن
بسهم، وغلوةً بِحَجَرٍ برُهَاطٍ، لا يحاقّه فيها أحد، ومن حاقّه فلا حقّ له، وحقّه
حقّ، وكتب خالد بن سعيد.
وكتب رسول الله صَلَّى الله عليه وسلم لحرام بن عبد عوف من بني سليم؛ أنه أعطاه
إذامًا، وما كان له من شَواق، لا يحلّ لأحد أن يظلمهم، ولا يظلمون أحدًا، وكتب خالد
بن سعيد.
وكتب رسول الله صَلَّى الله عليه وسلم: "بِسْمِ
اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ، هذا
ما حالف عليه نُعَيْم بنُ مسعودِ بن رُخَيْلَةَ الأشجَعيّ حالفه على النصرِ
والنصيحةِ ما كانَ أحدٌ مكانَهُ ما بَلّ بَحْرٌ صوفَةً".
وكتب علي.
وكتب رسول الله صَلَّى الله عليه وسلم: "بِسْمِ
اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ، هذا
كتابٌ من محمدٍ رسولِ اللهِ للزبيرِ بن العوامِ؛ أني أعطيتُهُ شَوَاقَ، أعْلاهُ
وأسفلَهُ، لا يحُاقّه فيه أحد".
وكتب علي.
وكتب رسول الله صَلَّى الله عليه وسلم لجميل بن رِزام العدوي؛ أنه أعطاه الرّمداء،
لا يحاقه فيها أحد، وكتب علي.
وكتب رسول الله صَلَّى الله عليه وسلم لحصين بن نضلة الأسدي؛ أن له أرامًا، وكسّة،
لا يحاقّه فيها أحد، وكتب المغيرة بن شعبة.
وكتب رسول الله صَلَّى الله عليه وسلم لِبني غِفار؛ أنهم من المسلمين، لهم ما
للمسلمين، وعليهم ما على المسلمين، وأن النبي عقد لهم ذمة الله ذمة رسوله، على
أموالهم، وأنفسهم، ولهم النصر على من بدأهم بالظلم. وأن النبي إذا دعاهم لينصروه،
أجابوه، وعليهم نصره إلا من حارب في الدين، ما بَلَّ بحرٌ صوفةً، وأن هذا الكتاب لا
يحول دون إثم.
وكتب رسول الله صَلَّى الله عليه وسلم لبني ضمرة بن بكر بن عبد مناة بن كنانة؛ أنهم
آمنون على أموالهم، وأنفسهم، وأن لهم النصر على من دَهِمَهم بظلم، وعليهم نصر النبي
صَلَّى الله عليه وسلم، ما بَلَّ بحرٌ صوفةً، إلا أن يحاربوا في دين الله، وأن
النبي إذا دعاهم أجابوه، عليهم بذلك ذمة الله ورسوله، ولهم النصر على من بَرّ منهم
واتَّقَى.
وكتب رسول الله صَلَّى الله عليه وسلم إلى الهلال، صاحب البحرين: "سِلْمٌ
أنتَ، فإني أحمدُ إليكَ اللهَ، الذي لا إلَهَ إلّا هُوَ، لا شَريكَ لَهُ، وأدعوكَ
إلى اللهِ وحدهُ، تُؤمنُ باللهِ، وتُطيعُ، وَتَدخلُ في الجماعةِ، فإنهُ خيرٌ لكَ،
والسلامُ على مَنِ اتّبَعَ الهُدَى".
وكتب رسول الله صَلَّى الله عليه وسلم إلى أُسَيْخِت بن عبد الله، صاحب هجر: "إنه
قد جاءني الأقرعُ بكتابِكَ، وشفاعَتِكَ لقومِكَ، واني قد شَفَّعْتُكَ، وصَدّقْتُ
رسولَكَ الأقرعَ في قومِكَ، فأبشرْ فيما سألتَنِي، وطلبتَنِي، بالذي تحبّ، ولكني
نَظَرتُ أن أُعلِّمَهُ وتلقاني. فإن تجئْنَا، أُكرِمْكَ، وإنْ تقعدْ، أُكرِمْكَ.
أمّا بعدُ؛ فإني لا أَسْتهدِي أحدًا، وإنْ تُهْدِ إليّ، أَقْبَلْ هديّتَكَ، وقد
حَمِدَ عمّالي مكانَكَ. وأُوصِيكَ بأَحسَنِ الذي أنتَ عليهِ: من الصلاةِ، والزكاةِ،
وقَرَابةِ المؤمنينَ، وإني قد سمّيْتُ قومَكَ: بني عَبْدِ اللهِ، فَمُرْهُمْ
بالصلاةِ، وبأحْسَنِ العَمَلِ، وأبْشِرْ. والسلامُ عليكَ، وعلى قومِكَ المؤمنين".
وكتب رسول الله صَلَّى الله عليه وسلم إلى أهل هجر: "أما
بعد؛ فإني أُوصيكم باللهِ وبأنفسكم، ألا تضلوا بعد أن هُدِيتُم، ولا تَغْوُوا بعد
أن رُشِدتم. أما بعد؛ فإنه قد جاؤني وفدكم، فلم آت إليهم إلا ما سرهم، ولو أني
اجتهدت فيكم جهدي كله، أخرجتكم من هجر، فشفعت غائبكم، وأفضلت على شاهدكم، فاذكروا
نعمة الله عليكم. أما بعد؛ فإنه قد أتاني الذي صنعتم، وانه من يحسن منكم لا أحمل
عليه ذنب المسيء. فإذا جاءكم أمرائي فأطيعوهم، وانصروهم على أمر الله، وفي سبيله،
وانه من يعمل منكم صالحة، فلن تضل عند الله، ولا عندي".
وكتب رسول الله صَلَّى الله عليه وسلم إلى المنذر بن ساوى: "أما
بعد؛ فإن رسلي قد حمدوك، وانك مهما تصلح، أصلح إليك، وأثبك على عملك، وتنصح لله
ولرسوله، والسلام عليك".
وبعث بها مع العلاء بن الحضرمي.
وكتب رسول الله صَلَّى الله عليه وسلم إلى المنذر بن ساوى كتابًا آخر: "أما
بعد؛ فإني قد بعثت إليك قدامة، وأبا هريرة، فادفع إليهما ما اجتمع عندك من جزية
أرضك، والسلام".
وكتب أبي.
وكتب رسول الله صَلَّى الله عليه وسلم إلى العلاء بن الحضرمي: "أما
بعد؛ فإني قد بعثت إلى المنذر بن ساوى من يقبض منه ما اجتمع عنده من الجزية،
فَعَجِّلْهُ بها، وابعث معها ما اجتمع عندك من الصدقة، والعشور، والسلام".
وكتب أُبَيّ.
وكتب رسول الله صَلَّى الله عليه وسلم إلى ضغاطر الأسقف: "سلام
على من آمن، أما على أَثَرِ ذلك، فإن عيسى بن مريم روح الله، وكلمته ألقاها إلى
مريم الزكية. وإني أومن بالله، وَمَا
أُنزِلَ إِلَيْنَا وَمَا أُنزِلَ إلى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإسحاق
وَيَعْقُوبَ وَالْأَسْبَاطِ وَمَا أُوتِيَ مُوسَى وَعِيسَى وَمَا أُوتِيَ
النَّبِيُّونَ مِن رَّبِّهِمْ لَا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْهُمْ وَنَحْنُ لَهُ
مُسْلِمُونَ [البقرة:
136]، والسلام
على من اتبع الهدى".
قال: وبعث به مع دحية بن خليفة الكلبي.
وكتب رسول الله صَلَّى الله عليه وسلم إلى بني جَنْبَة، وهم يهود بمَقْنا، وإلى أهل
مقنا، ومقنا قريب من أيلة: "أما
بعد؛ فقد نَزلَ عليَّ أيّتُكُم راجعين إلى قريتكم، فإذا جاءكم كتابي هذا، فإنكم
آمنون، لكم ذمة الله وذمة رسوله، وان رسول الله غافر لكم سيئاتكم، وكل ذنوبكم، وان
لكم ذمة الله وذمة رسوله، لا ظلم عليكم، ولا عِدًى، وان رسول الله جاركم مما منع
منه نفسه، فإن لِرَسولِ اللهِ: بَزّكُمْ، وكلُ رقيق فيكم، والكُراع، والحلقة، إلا
ما عفا عنه رسول الله، أو رسول رسول الله، وإن عليكم بعد ذلك ربع ما أخرجت نخلكم،
وربع ما صَادَتْ عُرُوكُكم، وربع ما اغْتَزَلَ نساؤُكم، وانكم برئتم بَعْدُ من كل
جزية أو سخرة، فإن سمعتم وأطعتم، فإن على رسول الله أن يكرم كريمكم، ويعفو عن
مسيئكم. أما بعد؛ فإلى المؤمنين والمسلمين مَن أطْلعَ أهلَ مقنا بخير، فهو خير له،
ومن أطلعهم بشر، فهو شر له. وأن ليس عليكم أمير إلا من أنفسكم، أو من أهل رسول
الله، والسلام".
أما قوله: "أيّتكم" يعني:
رسلهم. و"لرسول
الله بزّكم" يعني:
بزهم الذي يصالحون عليه في صلحهم، ورقيقهم. و"الحلقة":
ما جمعت الدار من سلاح، أو مال. وأما "عروككم":
فالعروك، خشب تلقى في البحر يركبون عليها، فيلقون شباكهم يصيدون السمك.
وكتب رسول الله صَلَّى الله عليه وسلم إلى يُحنّة بن رُؤبة، وسَرَوَات أهل أيلة: "سِلْمٌ
أنتم، فإني أحمد إليكم الله، الذي لا إله إلا هو، فإني لم أكن لأقاتلكم حتى أكتب
إليكم، فأسلم أو أعط الجزية، وأطع الله ورسوله، ورسل رسوله، وأكرمهم، واكسهم كسوة
حسنة، غير كسوة الغُزّاءِ، واكْس زيدًا كسوة حسنة، فمهما رَضِيَتْ رسلي، فإني قد
رضيتُ. وقد عُلِمَ الجزية، فإن أردتم أن يأمن البر والبحر، فأطع الله ورسوله، ويمنع
عنكم كل حق كان للعرب والعجم، إلا حق الله وحق رسوله. وإنك إن رددتهم ولم ترضهم، لا
آخذ منكم شيئًا حتى أقاتلكم؛ فأسبي الصغير، وأقتل الكبير.
فإني رسول الله بالحق؛ أومن بالله، وكتبه، ورسله، وبالمسيح ابن مريم أنه كلمة الله،
وإني أومن به أنه رسول الله، وأتٍ قبل أن يمسكم الشر. فإني قد أوصيت رسلي بكم، وأعط
حرملة ثلاثة أوسق شعيرًا، وان حرملة شفع لكم. واني لولا الله وذلك لم أراسلكم شيئا
حتى ترى الجيش، وإنكم إن أطعتم رسلي، فإن الله لكم جار ومحمد، ومن يكون منه، وإن
رسلي: شرحبيل، وأبي، وحرملة، وحريث بن زيد الطائي، فإنهم مهما قاضوك عليه، فقد
رضيته. وإن لكم ذمة الله، وذمة محمد رسول الله، والسلام عليكم إن أطعتم، وجهزوا أهل
مقنا إلى أرضهم.
وكتب رسول الله صَلَّى الله عليه وسلم لجُمّاعٍ، كانوا في جبل تهامة، قد غصبوا
المارة من كنانة، ومزينة، والحكم، والقارة، ومن اتبعهم من العبيد، فلما ظهر رسول
الله صَلَّى الله عليه وسلم، وفد منهم وفد على النبي صَلَّى الله عليه وسلم، فكتب
لهم رسول الله صَلَّى الله عليه وسلم: "بِسْمِ
اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ، هذا
كتاب من محمد النبي رسول الله لعباد الله العتقاء؛ إنهم إن آمنوا وأقاموا الصلاة
وآتوا الزكاة، فعبدهم حُرّ، ومولاهم محمد، ومن كان منهم من قبيلة لم يُرَدّ إليها،
وما كان فيهم من دم أصابوه، أو مال أخذوه، فهو لهم. وما كان لهم من دَيْنٍ في
الناس، رُدَّ إليهم، ولا ظلم عليهم، ولا عدوان، وإن لهم على ذلك ذمة الله وذمة
محمد، والسلام عليكم".
وكتب أبي بن كعب.
وكتب رسول الله صَلَّى الله عليه وسلم: "بِسْمِ
اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ، هذا
كتاب من محمد رسول الله لبني غادِيّا؛ أن لهم الذمة، وعليهم الجزية، ولا عداءَ ولا
جلاءَ. الليل مدّ، والنهار شدّ"،
وكتب خالد بن سعيد. قالوا: وهم قوم من يهود، وقوله "مد"،
يقول: يمده الليل، ويشده النهار، لا ينقضه شيء.
وكتب رسول الله صَلَّى الله عليه وسلم: "بِسْمِ
اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ، هذا
كتاب من محمد رسول الله لبني عريض؛ طُعمةٌ من رسول الله عشرة أوسق قمحًا، وعشرة
أوسق شعيرًا، في كل حصاد، وخمسين وسقًا تمرًا، يوفون في كل عام لحينه، لا يظلمون
شيئًا".
وكتب خالد بن سعيد. قال: وبني عريض: قوم من يهود.
أخبرنا إسماعيل بن إبراهيم الأسدي بن علية عن الجريري عن أبي العلاء قال: كنت مع
مطرف في سوق الإبل، فجاء أعرابي بقطعة أديم أو جراب، فقال: من يقرأ؟ أو قال: أفيكم
من يقرأ؟ فقلت: نعم، أنا أقرأ. فقال دونك هذا، فإن رسول الله صَلَّى الله عليه وسلم
كتبه لي، فإذا فيه: "بِسْمِ
اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ، من
محمد النبي لبني زهير بن أُقَيْشٍ، حيّ من عُكْلٍ؛ أنهم إن شهدوا أن لا إله إلا
الله، وأن محمدًا رسول الله، وفارقوا المشركين، وأقروا بالخمس في غنائمهم، وسهم
النبي وصفيه، فإنهم آمنون بأمان الله ورسوله".
فقال له القوم، أو بعضهم: أسمعت من رسول الله شيئًا تحدثناه؟ قال: نعم، قالوا:
فحدثنا، رحمك الله. قال: سمعته يقول: "من
سره أن يذهب كثير من وَحَرِ الصدرِ، فليصم شهر الصبر، وثلاثة أيام من كل شهر".
فقال له القوم، أو بعضهم: أسمعت هذا من رسول الله؟ قال: أراكم تخافون أن أكذب على
رسول الله صَلَّى الله عليه وسلم، والله لا أحدّثكم حديثًا اليوم.
أخبرنا هشام بن محمد بن السائب الكلبي، أخبرنا لوط بن يحيى الأزدي، قال: كتب النبي
صَلَّى الله عليه وسلم إلى أبي ظبيان الأزدي، من غامد؛ يدعوه، ويدعو قومه إلى
الإسلام، فأجابه في نفر من قومه بمكة، منهم: مخنف، وعبد الله، وزهير بنو سليم، وعبد
شمس بن عفيف بن زهير، هؤلاء بمكة. وقدم عليه بالمدينة: الجحن بن المرقع، وجندب بن
زهير، وجندب بن كعب. ثم قدم بعد مع الأربعين: الحكم من مغفل، فأتاه بمكة أربعون
رجلًا، وكتب النبي صَلَّى الله عليه وسلم لأبي ظبيان كتابًا، وكانت له صحبة، وأدرك
عمر بن الخطاب.
أخبرنا هشام بن محمد بن السائب، قال: حدثني جميل بن مرثد، قال: وفد رجل من
الأجئيّين يُقال له: حبيب بن عمرو على النبي صَلَّى الله عليه وسلم، فكتب له
كتابًا: "هذا
كتاب من محمد رسول الله لحبيب بن عمرو، أخي بني أجإ، ولمن أسلم من قومه، وأقام
الصلاة، وآتى الزكاة؛ أن له ماله، وماءه، ما عليه حاضره وباديه، على ذلك عهد الله
وذمة رسوله".
أخبرنا هشام بن محمد، قال: حدثني رجل من بني بُحْتُر من طيئ، قال: وفد على رسول
الله صَلَّى الله عليه وسلم الوليد بن جابر بن ظالم بن حارثة بن عتاب بن أبي حارثة
بن جُديّ بن تدول بن بحتر، فأسلم، وكتب له كتابًا، هو عند أهله بالجبلين.
أخبرنا علي بن محمد القرشي، عن أبي معشر، عن يزيد بن رومان ومحمد بن كعب وعن يزيد
بن عياض بن جعدبة الليثي، عن الزهري وعن غيرهم، قالوا: كتب رسول الله صَلَّى الله
عليه وسلم إلى سمعان بن عمرو بن قريط بن عبيد بن بي بكر بن كلاب مع عبد الله بن
عوسجة العرني، فرقع بكتابه دلوه، فقيل لهم: بنو الراقع، ثم أسلم سمعان وقدم على
رسول الله صَلَّى الله عليه وسلم، وقال:
أقلني كما أمَّنْتَ وَرْدًا ولم أكن
بأسوأ ذنبًا إذ أتيتك من ورد
أخبرنا علي بن محمد، عن حماد بن سلمة، عن الحجاج بن أرطأة، عن أبي إسحاق الهمداني،
أن العُرَني أتاه كتاب رسول الله صَلَّى الله عليه وسلم، فرقع به دلوه، فقالت له
ابنته: ماأراك إلا ستصيبك قارعة، أتاك كتاب سيد العرب فرقعت به دلوك! فمرّ به جيش
لرسول الله صَلَّى الله عليه وسلم فاستباحوا كل شيء له، فأسلم وأتى النبي صَلَّى
الله عليه وسلم، فأخبره، فقال له رسول الله صَلَّى الله عليه وسلم: "ما
أصبتَ من مال قبل أن يقسمه المسلمون، فأنت أحقُّ به".
أخبرنا علي بن محمد، عن عمرو بن عبد الرحمن الزهري، عن زامل بن عمرو الجذامي، قال:
كان فروة بن عمرو الجذامي عاملًا للروم على عَمّانَ من أرض البَلْقَاءِ، أو على
معان، فأسلم وكتب إلى رسول الله صَلَّى الله عليه وسلم بإسلامه، وبعث به مع رجل من
قومه، يقال له: مسعود بن سعد، وبعث إليه: ببغلة بيضاء، وفرس، وحمار، وأثواب لين،
وقباء سُندس مُخَوَّص بالذهب. فكتب إليه رسول الله صَلَّى الله عليه وسلم: "من
محمد رسول الله إلى فروة بن عمرو؛ أما بعد، فقد قدم علينا رسولك، وبلغ ما أرسلت به،
وخَبَّرَ عما قبلكم. وأتانا بإسلامك، وأن الله هداك بهداه، إن أصلحت، وأطعت الله
ورسوله، وأقمت الصلاة، وآتيت الزكاة".
وأمر بلالًا فأعطى رسوله مسعود بن سعد أثنتي عشرة أوقية ونَشًّا.
وبلغ ملك الروم إسلام فروة، فدعاه فقال له: ارجع عن دينك، نملكك. قال: لا أفارق دين
محمد، وإنك تعلم أن عيسى قد بشَّر به، ولكنك تضنّ بملكك، فحبسه، ثم أخرجه فقتله
وصلبه.
أخبرنا علي بن محمد، عن سعيد بن أبي عروبة، عن قتادة، عن رجل من بني سدوس، قال: كتب
رسول الله صَلَّى الله عليه وسلم إلى بكر بن وائل: "أما
بعد؛ فأسلموا تسلموا".
قال قتادة: فما وجدوا رجلًا يقرؤه، حتى جاءهم رجل من بني ضبيعة بن ربيعة، فقرأه،
فهم يُسّمَون: بني الكاتب. وكان الذي أتاهم بكتاب رسول الله صَلَّى الله عليه وسلم،
ظبيان بن مرئد السدوسي.
أخبرنا علي بن محمد، عن معتمر، عن رجل من أصحابه، يقال له: عطاء، عن عبد الله بن
يحيى بن سلمان، قال: أراني ابنٌ لسعير بن عداء كتابًا من رسول الله صَلَّى الله
عليه وسلم: "من
محمد رسول الله إلى السعير بن عداء؛ أني قد أخفرتك الرّحيحَ، وجعلت لك فَضْل بني
السبيل".
أخبرنا علي بن محمد، عن يزيد بن عياض، عن الزهري، قال: كتب رسول الله صَلَّى الله
عليه وسلم إلى الحارث، ومسروح، ونعيم بن عبد كلال، من حمير: "سِلْمٌ
أنتم، ما آمنتم بالله ورسوله، وأن الله وحده لا شريك له، بعث موسى بآياته، وخلق
عيسى بكلماته، قالت إليهود: عزير ابن الله، وقالت النصارى: الله ثالث ثلاثة، عيسى
ابن الله".
قال: وبعث بالكتاب مع عياش بن أبي ربيعة المخزومي، وقال: "إذا
جئت أرضهم، فلا تدخلن ليلًا حتى تصبح، ثم تطهر فأحسن طهورك، وصل ركعتين، وسل الله
النجاح والقبول، واستعذ بالله، وخذ كتابي بيمينك، وادفعه بيمينك في أيمانهم، فإنهم
قابلون. واقرأ عليهم: لَمْ
يَكُنِ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ وَالْمُشْرِكِينَ مُنفَكِّينَ [البينة:1]، فإذا
فرغت منها فقل: آمن محمد، وأنا أول المؤمنين، فلن تأتيك حجةٌ إلا دَحِضَتْ، ولا
كتابٌ زُخْرِفَ إلا ذهب نوره، وهم قارئون عليك، فإذا رطنوا فقل: ترجموا، وقل: حسبي
الله ءَامَنتُ
بِمَا أَنزَلَ اللَّهُ مِن كِتَابٍ وَأُمِرْتُ لِأَعْدِلَ بَيْنَكُمُ اللَّهُ
رَبُّنَا وَرَبُّكُمْ لَنَا أَعْمَالُنَا وَلَكُمْ أَعْمَالُكُمْ لَا حُجَّةَ
بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمُ اللَّهُ يَجْمَعُ بَيْنَنَا وَإليه الْمَصِيرُ [الشورى:
15]، فإذا
أسلموا، فسلهم قُضُبَهُمُ الثلاثةَ، التي إذا حضروا بها سجدوا، وهي من الأثْلِ؛
قضيب مُلَمعٌ ببياضٍ وصُفرةٍ، وقضيب ذو عُجَرٍ كأنه خَيزرانٌ، والأسود البهيم كأنه
من ساسِمَ. ثم أخرجْها فحرقْها بسوقهم".
قال عياش: فخرجت أفعل ما أمرني رسول الله صَلَّى الله عليه وسلم، حتى إذا دخلت إذا
الناس قد لبسوا زينتهم، قال: فمررت لأنظر إليهم، حتى انتهيت إلى ستور عظام على
أبواب دور ثلاثة، فكشفت الستر، ودخلت الباب الأوسط فانتهيت إلى قوم في قاعة الدار،
فقلت: أنا رسولُ رسولِ الله، وفعلت ما أمرني، فقبلوا، وكان كما قال صَلَّى الله
عليه وسلم.
قالوا بالإسناد الأول: وكتب رسول الله صَلَّى الله عليه وسلم إلى عبد القيس: "من
محمد رسول الله إلى الأكبر بن عبد القيس؛ أنهم آمنون بأمان الله، وأمان رسوله، على
ما أحدثوا في الجاهلية من القُحَم، وعليهم الوفاء بما عاهدوا، ولهم أن لا يحبسوا عن
طريق الميرَةِ، ولا يُمنَعوا صوب القَطْر، ولا يُحرموا جَريمَ الثمار عند بلوغه،
والعلاءُ بنُ الحضرمي أمينُ رسولِ الله؛ على برها، وبحرها، وحاضرها، وسراياها، وما
خرج منها. وأهلُ البحرين خفراؤه من الضَّيْم، وأعوانه على الظالم، وأنصاره في
الملاحم، عليهم بذلك عهد الله وميثاقه، لا يبدلوا قولًا، ولا يريدوا فرقة، ولهم على
جند المسلمين الشركة في الفيء، والعدل في الحكم، والقصد في السيرة، حكم لا تبديل له
في الفريقين كليهما، والله ورسوله يشهد عليهم".
وكتب رسول الله صَلَّى الله عليه وسلم إلى أقيال حَضْرمَوت وعظمائه، كتب إلى: زرعة،
وقهد، والبَسّي، والبحيري، وعبد كلال، وربيعة، وحجر. وقد مدح الشاعر بعض أقيالهم
فقال:
ألا ان خير الناس كلهم قهدُ وعبد كلال خير سائرهم بعدُ وقال آخر، يمدح زرعة:
ألا ان خير الناس بعد محمد لَزُرْعَةُ إن كان البُحَيري أسلما
وكتب رسول الله صَلَّى الله عليه وسلم إلى نفاثة بن فروة الدئلي، ملك السَّمَاوة.
وكتب إلى عُذرة في عَسِيب، وبعث به مع رجل من بني عذرة، فعدا عليه ورد بن مرداس،
أحد بني سعد هذيم، فكسر العسيب، وأسلم واسْتُشِهد مع زيد بن حارثة في غزوة وادي
القرى، أو غزوة القردة.
وكتب رسول الله صَلَّى الله عليه وسلم لمطرف بن الكاهن الباهلي: "هذا
كتاب من محمد رسول الله لمطرف بن الكاهن، ولمن سكن بِيشَةَ من باهلة؛ أن من أحيا
أرضًا مواتًا بيضاء، فيها مُناخ الأنعام، ومُراحٌ، فهي له، وعليهم في كل ثلاثين من
البقر، فارضٌ، وفي كل أربعين من الغنم، عَتُودٌ، وفي كل خمسين من الإبل، ثاغِيَةٌ
مُسِنّةٌ، وليس للمُصَدّقِ أنْ يُصَدّقَها إلا في مَرَاعِيها، وهم آمنون بأمان
الله".
وكتب رسول الله صَلَّى الله عليه وسلم لنَهْشَل بن مالك الوائلي، من باهلة: "باسمك
اللهم، هذا كتاب من محمد رسول الله لنهشل بن مالك، ومن معه من بني وائل؛ لمن أسلم
وأقام الصلاة، وآتى الزكاة، وأطاع الله ورسوله، وأعطى من المغنم خمس الله، وسهم
النبي، وأشهد على إسلامه، وفارق المشركين، فإنه آمن بأمان الله، وبريء إليه محمد من
الظلم كله، وأن لهم أن لا يُحْشَروا، ولا يُعْشَروا، وعامِلُهم من أنفسِهِم. وكتب
عثمان بن عفان".
وكتب رسول الله صَلَّى الله عليه وسلم لثقيف كتابًا أن لهم ذمة الله، وذمة محمد بن
عبد الله، على ما كتب لهم. وكتب خالد بن سعيد، وشهد الحسن والحسين، ودفع النبي
صَلَّى الله عليه وسلم الكتاب إلى نمير بن خرشة. وسأل وفد ثقيف رسول الله صَلَّى
الله عليه وسلم أن يحرّم لهم وَجًّا، فكتب لهم: "هذا
كتاب من محمد رسول الله إلى المؤمنين؛ إن عِضَاهَ وَجٍّ، وصيْدَه، لا يُعْضَدُ، فمن
وُجد يفعل ذلك، فإنه يُؤخَذ، فيبلغُ النبي، وهذا أمر النبي محمد بن عبد الله رسول
الله".
وكتب خالد بن سعيد: "بأمر
النبي محمد بن عبد الله، فلا يتعَدّينّه أحد، فيظلم نفسه فيما أمر به محمد رسول
الله".
وكتب رسول الله صَلَّى الله عليه وسلم لسعيد بن سفيان الرِّعلي: "هذا
ما أعطى رسول الله صَلَّى الله عليه وسلم سعيد بن سفيان الرِّعلي أعطاه نخل
السُّوَارِقيّةِ وقَصْرَها، لا يحاقه فيها أحد، ومن حاقه فلا حق، له وحقه حق".
وكتب خالد بن سعيد.
وكتب رسول الله صَلَّى الله عليه وسلم لعُتبة بن فرقد: "هذا
ما أعطى النبي صَلَّى الله عليه وسلم عتبة بن فرقد؛ أعطاه موضع دار بمكة، يبنيها
مما يلي المروة، فلا يحاقه فيها أحد، ومن حاقه فإنه لا حق له، وحقه حق".
وكتب معاوية.
وكتب رسول الله صَلَّى الله عليه وسلم لبني جَناب من كلب: "هذا
كتاب من محمد النبي رسول الله لبني جناب، وأحلافهم، ومن ظاهرهم؛ على إقام الصلاة،
وإيتاء الزكاة، والتمسك بالإيمان، والوفاء بالعهد. وعليهم في الهَاملَةِ الرّاعيةِ،
في كل خمسٍ، شاةٌ، غيرُ ذاتِ عَوارٍ، والحمولةُ المائِرَةُ، لهم لاغِيةٌ،
والسُّقْيُ الرّواءُ والعِذْيُ من الأرض، يقيمه الأمينُ وظيفةً، لايُزادُ عليهم".
شهد: سعد بن عبادة، وعبد الله بن أنيس، ودحية بن خليفة الكلبي.
وكتب رسول الله صَلَّى الله عليه وسلم: "هذا
كتاب من محمد رسول الله لِمَهْريّ بن الأبيض؛ على من آمن من مَهْرَة، أنهم لا
يؤكلون، ولا يغار عليهم، ولا يعركون. وعليهم إقامة شرائع الإسلام، فمن بدل، فقد
حارب الله، ومن آمن به، فله ذمة الله وذمة رسوله. اللُّقطةُ مؤدّاةُ، والسارحةُ
مُنَدّاةُ، والتَّفث: السيئةُ، والرَّفثُ: الفسوقُ".
وكتب محمد بن مسلمة الأنصاري.
وكتب رسول الله صَلَّى الله عليه وسلم لخثْعم: "هذا
كتاب من محمد رسول الله لخثعم، مِنْ حاضِرٍ ببيشةَ وباديتها؛ أن كل دَمٍ أصبتموه في
الجاهلية، فهو عنكم موضوع، ومن أسلم منكم طوعًا، أو كرها، في يده حرث من خبار أو
عزاز، تسقيه السماء أو يرويه اللَّثى، فزكا عمارة في غير أزمة ولا حطمة، فله نشره
وأكله. وعليهم في كل سَيْحٍ العشرُ، وفي كل غَرْبٍ نصفُ العشر".
شهد جرير بن عبد الله، ومن حضر.
وكتب رسول الله صَلَّى الله عليه وسلم لوفد ثُمالة والحُدّان: "هذا
كتاب من محمد رسول الله لبادية الأسياف ونازلة الأجواف مما حازت صحار؛ ليس عليهم في
النخل خراص، ولا مكيال مطبق، حتى يُوضع في الفَدَاء. وعليهم في كل عشرة أوْساق،
وَسْقٌ".
وكاتب الصحيفة: ثابت بن قيس بن شماس، شهد: سعد بن عبادة، ومحمد بن مسلمة.
وكتب رسول الله صَلَّى الله عليه وسلم لبارق من الأزد: "هذا
كتاب من محمد رسول الله لبارق؛ أن لا تُجَذّ ثمارُهُم، وأن لا تُرعى بلادهم في مربع
ولا مصيف، إلا بمسألة من بارق. ومن مَرَّ بهم من المسلمين في عرك أو جدب، فله ضيافة
ثلاثة أيام، فإذا أيْنَعتْ ثمارُهُم فَلابنِ السبيل اللّقاطُ، يوسعُ بطنُه من غير
أن يَقْتَثِمَ".
شهد: أبو عبيدة بن الجراح، وحذيفة بن اليمان، وكتب أبي بن كعب. ومعنى الجدب: أن لا
يكون مرعى، والعرك: أن تخلّي إبلك في الحمض خاصة، فتأكل منه حاجتها، ويقتثم: يحمل
معه.
وكتب رسول الله صَلَّى الله عليه وسلم لوائل بن حُجر، لما أراد الشخوص إلى بلاده،
قال: يا رسول الله أكتب لي إلى قومي كتابًا، فقال رسول الله صَلَّى الله عليه
وسلم: "اكتب
له يا معاوية، إلى الأقْيالِ العباهلة؛ ليقيموا الصلاة، ويؤتوا الزكاة، والصدقة على
التّيعَةِ السائمة لصاحبها، التيمة لا خِلاطَ، ولا وِراطَ، ولا شِغارَ، ولا جَلَبَ،
ولا جَنَبَ، ولا شِناقَ. وعليهم العونُ لسرايا المسلمينَ، وعلى كل عشرةٍ ما تحملُ
العِرَابُ. مَنْ أجْبَأ، فقد أَرْبَى".
وقال وائل: يا رسول الله؛ أكتب لي بأرضي التي كانت في الجاهلية، وشهد له أقيال
حمير، وأقيال حضرموت، فكتب له: "هذا
كتاب من محمد النبي لوائل بن حُجْرٍ قَيْلِ حَضْرَمَوْتَ وذلِكَ: إنك أسلمتَ،
وجعلتُ لك ما في يديك، من الأرضين والحصون، وأنه يُؤخذ منك من كل عَشَرَةٍ، واحِدٌ،
يَنظرُ في ذلك ذوَا عدل. وجعلتُ لك أن لا تُظلمَ فيها، ما قام الدين، والنبي
والمؤمنون عليه أنصار".
وكان الأشعث وغيره من كندة، نازعوا وائل بن حجر في واد حضرموت، فادّعوه عند رسول
الله صَلَّى الله عليه وسلم، فكتب به رسول الله صَلَّى الله عليه وسلم لوائل بن
حجر.
وكتب رسول الله صَلَّى الله عليه وسلم لأهل نجران: "هذا
كتاب من محمد النبي رسول الله لأهل نجران؛ أنه كان له عليهم، حكمه في كل ثمرة:
صفراء، أو بيضاء، أو سوداء، أو رقيق، فأفضل عليهم، وترك ذلك كله على ألفي حلة، حلل
الأواقي. في كل رجب ألف حلة، وفي كل صفر ألف حلة، كل حلة أوقية. فما زادت حلل
الخراج أو نقصت على الأواقي، فبالحساب، وما قبضوا من دروع، أو خيل، أو ركاب، أو
عرض، أخذ منهم فبالحساب. وعلى نجران مثواة رسلي عشرين يومًا، فدون ذلك، ولا تحبس
رسلي فوق شهر، وعليهم عارية ثلاثين درعًا، وثلاثين فرسًا، وثلاثين بعيرًا، إذا كان
باليمن كَيْدٌ، وما هلك مما أعاروا رسلي؛ من دروع، أو خيل، أو ركاب، فهو ضمان على
رسلي، حتى يؤدوه إليهم. ولنجران وحاشيتهم، جوار الله، وذمة محمد النبي رسول الله؛
على أنفسهم، وملتهم، وأرضهم، وأموالهم، وغائبهم، وشاهدهم، وبيعهم، وصلواتهم، لا
يغيروا أسقفا عن أسقفيته، ولا راهبًا عن رهبانيته، ولا واقفًا عن وقفانيته. وكل ما
تحت أيديهم، من قليل أو كثير، وليس ربًا ولا دم جاهلية، ومن سأل منهم حقًّا فبينهم
النصف، غير ظالمين ولا مظلومين لنجران. ومن أكل ربًا من ذي قبل فذمتي منه بريئة،
ولا يؤاخذ أحد منهم بظلم آخر، وعلى ما في هذه الصحيفة جوار الله وذمة النبي أبدًا،
حتى يأتي الله بأمره، إن نصحوا وأصلحوا فيما عليهم، غير مثقلين بظلم".
شهد: أبو سفيان بن حرب، وغيلان بن عمرو، ومالك بن عوف النصري، والأقرع بن حابس،
والمستورد بن عمرو أخو بلي، والمغيرة بن شعبة، وعامر مولى أبي بكر.
أخبرنا محمد بن عمر الأسلمي قال: حدثني شيخ من أهل دومة أن رسول الله صَلَّى الله
عليه وسلم كتب لأكيدر هذا الكتاب، جاءني بالكتاب فقرأته، وأخذت منه نسخته: "بِسْمِ
اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ، هذا
كتاب من محمد رسول الله لأكيدر، حين أجاب إلى الإسلام، وخلع الأنداد والأصنام، مع
خالد بن الوليد سيف الله، في دومة الجندل وأكنافها؛ أن له الضاحية من الضّحْلِ،
والبورَ، والمعاميَ، وأغفالَ الأرضِ، والحلقةَ، والسلاحَ، والحافرَ، والحصنَ. ولكم
الضامنةُ من النخلِ، والمَعِينُ من المعمورِ، وبعد الخمس لا تُعْدَلُ سارحتُكم، ولا
تُعَدّ فارِدَتُكم، ولا يُحظر عليكم النبات، ولا يؤخذ منكم إلا عشر الثبات، تقيمون
الصلاة لوقتها، وتؤتون الزكاة بحقها، عليكم بذاك العهد والميثاق، ولكم بذلك الصدق
والوفاء، شهد الله، ومن حضر من المسلمين".
قال محمد بن عمر: الضحل: الماء القليل، والمعامي: الأعلام من الأرض، ما لا حد له،
والضامنة: ما حمل من النخل. وقوله: "لا
تعدل سارحتكم"،
يقول: لا تُنَحّى عن الرعي، والفاردة: ما لاتجب فيه الصدقة، والأغفال: ما لا يقال
على حَدّهِ من الأرض، والمعين: الماء الجاري، والثبات: النخل القديم، الذي قد ضرب
عروقه في الأرض وثبت. وكانت دومة وأيلة وتيماء قد خافوا النبي، لما رأوا العرب قد
أسلمت.
وقدم يحنّةُ بن رُؤْبَة على النبي صَلَّى الله عليه وسلم، وكان ملك أيلة، وأشفق أن
يبعث إليه رسول الله صَلَّى الله عليه وسلم كما بعث إلى أكيدر، وأقبل ومعه أهل
الشام، وأهل اليمن، وأهل البحر، ومن جربا وأذرح، فأتوه فصالحهم، وقطع عليهم جزية
معلومة، وكتب لهم كتابًا: "بِسْمِ
اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ، هذا
أمنة من الله ومحمد النبي رسول الله ليحنة بن روبة، وأهل أيلة؛ لسفنهم، وسيارتهم في
البر والبحر، لهم ذمة الله، وذمة محمد رسول الله، ولمن كان معهم من أهل الشام، وأهل
اليمن، وأهل البحر. ومن أحدث حدثًا، فإنه لا يحول ماله دون نفسه، وأنه طيبة لمن
أخذه من الناس، وأنه لا يحل أن يمنعوا ماء يردونه، ولا طريقًا يريدونه من بر وبحر،
هذا كتاب جهيم بن الصلت وشرحبيل بن حسنة بإذن رسول الله".
أخبرنا محمد بن عمر، قال: حدثني يعقوب بن محمد الظفري، عن عاصم بن عمر بن قتادة، عن
عبد الرحمن بن جابر، عن أبيه، قال: رأيت على يحنة بن روبة، يوم أتى النبي صَلَّى
الله عليه وسلم، صليبًا من ذهب، وهو معقود الناصية، فلما رأى رسول الله صَلَّى الله
عليه وسلم كفّر وأومأ برأسه، فأومأ إليه رسول الله صَلَّى الله عليه وسلم أن ارفع
رأسك، وصالحه يومئذ، وكساه رسول الله صَلَّى الله عليه وسلم بُرد يمنة، وأمر
بإنزاله عند بلال، قال: ورأيت أكيدر حين قدم به خالد، وعليه صليب من ذهب، وعليه
الديباج ظاهرًا.
ثم رجع الحديث إلى الأول، قال محمد بن عمر: ونسخت كتاب أهل أذرح، فإذا فيه: "بِسْمِ
اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ، هذا
كتاب من محمد النبي لأهل أذرح؛ أنهم آمنون بأمان الله ومحمد، وأن عليهم مائةُ
دينارٍ في كل رجبٍ وافيةً طيبةً، والله كفيل عليهم بالنصح، والإحسان للمسلمين، ومن
لجأ إليهم من المسلمين، من المخافة والتعزيز، إذا خشوا على المسلمين وهم آمنون، حتى
يُحَدّثَ إليهم محمد قبل خروجه"،
يعني: إذا أراد الخروج، قال: ووضع رسول الله صَلَّى الله عليه وسلم الجزية على أهل
أيلة ثلاثمائة دينار كل سنة، وكانوا ثلاثمائة رجل.
وكتب رسول الله صَلَّى الله عليه وسلم لأهل جَرْبَاء، وأذرح: "هذا
كتاب من محمد النبي لأهل جربا، وأذرُحَ؛ أنهم آمنون بأمان الله، وأمان محمد، وأن
عليهم مائة دينار في كل رجبٍ وافيةً طيبةً، والله كفيل عليهم".
وكتب رسول الله صَلَّى الله عليه وسلم لأهل مقنا؛ أنهم آمنون بأمان الله، وأمان
محمد، وأن عليهم ربعُ غُزُولهم، وربعُ ثمارهم.
أخبرنا محمد بن عمر، قال: أخبرنا ابن أبي ذئب، قال: أخبرنا صالح، مولى التؤمة أن
رسول الله صَلَّى الله عليه وسلم صالح أهل مقنا على أخذ رُبع ثمارهم، وربع غزولهم.
قال محمد بن عمر: وأهل مقنا: يهود على ساحل البحر، وأهل جربا وأذرح، يهود أيضًا،
وقوله: "طيبة"،
يعني: من الخلاص، أي: ذهب خالص. وقوله: "خروجه"، يعني: إذا أراد الخروج.
ثانيًا: وُفُودُ العرب على النبي صَلَّى الله عليه وسلم:
قال ابن كثير في "البداية والنهاية": قال محمد بن إسحاق: لما افتتح رسول الله
صَلَّى الله عليه وسلم مكة، وفرغ من تبوك، وأسلمت ثقيف، وبايعت، ضربت إليه وفود
العرب من كل وجه. قال ابن هشام: حدثني أبو عبيدة، أن ذلك في سنة تسع، وأنها كانت
تُسَمَّى: سنة الوفود. قال ابن إسحاق: وإنما كانت العرب تربص بإسلامها أمر هذا الحي
من قريش؛ لأن قريشًا كانوا إمام الناس، وهاديتهم، وأهل البيت والحرم، وصريح ولد
اسماعيل بن ابراهيم، وقادة العرب، لا ينكرون ذلك.
وكانت قريش هي التي نصبت الحرب لرسول الله صَلَّى الله عليه وسلم وخلافه، فلما
افتُتِحَتْ مكة، ودانت له قريش، ودوخها الاسلام، عرفت العرب أنهم لا طاقة لهم بحرب
رسول الله صَلَّى الله عليه وسلم، ولا عداوته، فدخلوا في دين الله كما قال عز وجل
أفواجًا، يضربون إليه من كل وجه.
يقول الله تعالى لنبيه صَلَّى الله عليه وسلم: {إِذَا
جَاءَ نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ. وَرَأَيْتَ النَّاسَ يَدْخُلُونَ فِي دِينِ
اللَّهِ أَفْوَاجًا. فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَاسْتَغْفِرْهُ إِنَّهُ كَانَ
تَوَّابًا} [النصر:
1 ــ 3] أي: فاحمد الله على ما ظهر من دينك، واستغفره إنه كان توابًا، وقد قدمنا
حديث عمرو بن مسلمة، قال: كانت العرب تلوم باسلامهم الفتح، فيقولون: اتركوه وقومه،
فانه إن ظهر عليهم، فهو نبي صادق، فلما كانت وقعة أهل الفتح، بادر كل قوم باسلامهم،
وبدر ــ أي: قومي ــ باسلامهم، فلما قدم قال: جئتكم والله من عند النبي حقًّا، قال:
صلوا صلاة كذا في حين كذا، وصلاة كذا في حين كذا، فاذا حضرت الصلاة فليؤذن لكم
أحدكم، وليؤمكم أكثركم قرآنا، وذكر تمام الحديث وهو في "صحيح البخاري".
قلت: وقد ذكر محمد بن إسحاق، ثم الواقدي والبخاري، ثم البيهقي بعدهم، من الوفود ما
هو متقدم تاريخ قدومهم على سنة تسع، بل وعلى فتح مكة، وقد قال الله تعالى: {لَا
يَسْتَوِي مِنكُمْ مَّنْ أَنفَقَ مِن قَبْلِ الْفَتْحِ وَقَاتَلَ أُولَئِكَ
أَعْظَمُ دَرَجَةً مِّنَ الَّذِينَ أَنفَقُوا مِن بَعْدُ وَقَاتَلُوا وَكُلًّا
وَعَدَ اللَّهُ الْحُسْنَى} [الحديد:
10]، وتقدم قوله صَلَّى الله عليه وسلم يوم الفتح: "لا
هجرة ولكن جهاد ونية" فيجب
التمييز بين السابق من هؤلاء، الوافدين على زمن الفتح، ممن يُعَدّ وفوده هجرة، وبين
الملاحق لهم بعد الفتح، ممن وعد الله خيرًا وحسنى، ولكن ليس في ذلك كالسابق في
الزمان والفضيلة، والله أعلم.
على أن هؤلاء الأئمة الذين اعتنوا بإيراد الوفود، قد تركوا فيما أوردوه أشياء لم
يذكروها، ونحن نورد بحمد الله ومنِّه ما ذكروه، وننبه على ما ينبغي التنبيه عليه من
ذلك، ونذكر ما وقع لنا مما أهملوه إن شاء الله وبه الثقة وعليه التكلان.
وفدُ مُزَيْنَة:
قال محمد بن عمر الواقدي: حدثنا كثير بن عبد الله المزني عن أبيه عن جده، قال: كان
أول من وفد على رسول الله صَلَّى الله عليه وسلم من مُضَر، أربعمائة من مُزَينة،
وذاك في رجب سنة خمس، فجعل لهم رسول الله صَلَّى الله عليه وسلم الهجرة في دارهم،
وقال: "أنتم
مُهَاجِرونَ حيْثُ كنتم، فَارْجِعُوا إلى أَمْوالِكُم"،
فرجعوا إلى بلادهم.
ثم ذكر الواقدي عن هشام بن الكلبي باسناده، أن أول من قدم من مزينة خزاعي بن عبد
نهم، ومعه عشرة من قومه، فبايع رسول الله صَلَّى الله عليه وسلم على إسلام قومه،
فلما رجع إليهم، لم يجدهم كما ظن فيهم، فتأخروا عنه، فأمر رسول الله صَلَّى الله
عليه وسلم حسان بن ثابت أن يعرض بخزاعي من غير أن يهجوه، فذكر أبياتًا، فلما بلغت
خزاعيًا، شكى ذلك إلى قومه، فجمعوا له وأسلموا معه، وقدم بهم إلى رسول الله صَلَّى
الله عليه وسلم، فلما كان يوم الفتح، دفع رسول الله صَلَّى الله عليه وسلم لواء
مزينة، وكان يومئذ ألفًا، إلى خزاعي هذا، وهو أخو عبد الله ذو البجادين.
وفد بني تميم:
روى البخاريُ عن عمران بن حصين، قال: أتى نفر من بني تميم إلى النبي صَلَّى الله
عليه وسلم، فقال: "اقبلوا
البشرى، يا بني تميم".
قالوا: يا رسول الله، قد بشرتنا فأعطنا، فرؤى ذلك في وجهه، ثم جاء نفر من اليمن،
فقال: "اقبلوا
البشرى، إذا لم يقبلها بنو تميم"،
قالوا: قبلنا يا رسول الله.
وقال البخاري: عن ابن أبي مليكة، أن عبد الله بن الزبير أخبرهم، أنه قدم ركب من بني
تميم على النبي صَلَّى الله عليه وسلم، فقال أبو بكر: أمّر القعقاع بن معبد بن
زرارة، فقال عمر: بل أمّر الأقرع بن حابس، فقال أبو بكر: ما أردت إلا خلافي، فقال
عمر: ما أردت خلافك، فتماريا حتى ارتفعت أصواتهما، فنزلت: {يَا
أَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُوا لَا تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ} [الحجرات:
1]، حتى انقضت.
وقال محمد بن إسحاق: ولما قدمت على رسول الله صَلَّى الله عليه وسلم وفود العرب،
قدم عليه عطارد بن حاجب بن زرارة التميمي، في أشراف بني تميم: منهم الأقرع بن حابس،
والزبرقان بن بدر التميمي، أحد بني سعد، وعمرو بن الأهتم، والحتحات بن يزيد، ونعيم
بن يزيد، وقيس بن الحارث، وقيس بن عاصم أخو بني سعد، في وفد عظيم من بني تميم،
ومعهم عيينة بن حصن بن حذيفة بن بدر الفزاري، وقد كان الأقرع بن حابس وعيينة شهدا
مع رسول الله صَلَّى الله عليه وسلم: فتح مكة، وحنين، والطائف، فلما قدم وفد بني
تميم كانا معهم، ولما دخلوا المسجد نادوا رسول الله صَلَّى الله عليه وسلم من وراء
حجراته: أن اخرج إلينا يا محمد، فآذى ذلك رسول الله صَلَّى الله عليه وسلم من
صياحهم، فخرج إليهم، فقالوا: يا محمد جئناك نفاخرك، فأذن لشاعرنا وخطيبنا، قال: "قد
أذنت لخطيبكم، فليقل"،
فقام عطارد بن حاجب، فقال: "الحمد لله، الذي له علينا الفضل والمنّ، وهو أهله الذي
جعلنا ملوكًا، ووهب لنا أموالًا عظامًا، نفعل فيها المعروف، وجعلنا أعزة أهل
المشرق، وأكثره عددًا، وأيسره عدة، فمن مثلنا في الناس؟! ألسنا برؤس الناس، وأولي
فضلهم، فمن فاخرنا فليعدد مثل ما عددنا، وإنا لو نشاء لاكثرنا الكلام، ولكن نخشى من
الاكثار فيما أعطانا، وإنا نعرف بذلك، أقول هذا لأن تأتوا بمثل قولنا، وأمر أفضل من
أمرنا"، ثم جلس، فقال رسول الله صَلَّى الله عليه وسلم لثابت بن قيس بن شماس، أخي
بني الحارث بن الخزرج: "قم،
فأجب الرجل في خطبته".
فقام ثابت، فقال: "الحمد لله، الذي السموات والأرض خلقه، قضى فيهن أمره، ووسع كرسيه
علمه، ولم يك شيء قط إلا من فضله، ثم كان من قدرته أن جعلنا ملوكًا، واصطفى من
خيرته رسولًا؛ أكرمه نسبًا، وأصدقه حديثًا، وأفضله حسبًا، فأنزل عليه كتابه،
وائتمنه على خلقه، فكان خيرة الله من العالمين، ثم دعا الناس إلى الايمان به، فآمن
برسول الله المهاجرون من قومه، وذوي رحمه؛ أكرم الناس أحسابًا، وأحسن الناس وجوهًا،
وخير الناس فعالًا، ثم كان أول الخلق إجابة، واستجاب لله حين دعاه رسول الله صَلَّى
الله عليه وسلم: نحن؛ فنحن أنصار الله، وزراء رسوله، نقاتل الناس حتى يؤمنوا، فمن
آمن بالله ورسوله منع ماله ودمه، ومن كفر جاهدناه في الله أبدًا، وكان قتله علينا
يسيرًا، أقول قولي هذا، واستغفر الله لي ولكم وللمؤمنين والمؤمنات، والسلام عليكم"،
فقام الزبرقان بن بدر، فقال:
نحن الكرام فلا حي يعادلنا منا الملوك وفينا تنصب البيع
وكم قسرنا من الأحياء كلهم عند النهاب وفضل العز يتبع
ونحن يطعم عند القحط مطعمنا من الشواء إذا لم يؤنس الفزع
بما ترى الناس تأتينا سراتهم من كل أرض هويا ثم تصطنع
فننحر الكوم غبطا في أرومتنا للنازلين إذا ما أنزلوا شبعوا
فما ترانا إلى حي نفاخرهم إلا استفادوا وكانوا الرأس تقتطع
فمن يفاخرنا في ذاك نعرفه فيرجع القوم والأخبار تستمع
إنا أبينا ولم يأبى لنا أحد إنا كذلك عند الفخر نرتفع
قال ابن إسحاق: وكان حسان بن ثابت غائبًا، فبعث إليه رسول الله صَلَّى الله عليه
وسلم، قال حسان: فلما انتهيت إلى رسول الله صَلَّى الله عليه وسلم، وقام شاعر
القوم، فقال ما قال، أعرضت في قوله، وقلت على نحو ما قال، فلما فرغ الزبرقان، قال
رسول الله صَلَّى الله عليه وسلم لحسان بن ثابت: "قم
يا حسان، فأجب الرجل فيما قال"،
فقال حسان:
إن الذوائب من فهر وأخوتهم قد بينوا سنة للناس تتبع يرضى بها كل من كانت سريرته
تقوى الإله وكل الخير يصطنع قوم إذا حاربوا ضروا عدوهم أو حاولوا النفع في أشياعهم
نفعوا سجية تلك منهم غير محدثه إن الخلائق فأعلم شرها البدع إن كان في الناس
سبّاقون بعدهم فكل سبق لأدنى سبقهم تبع لا يرفع الناس ما أوهت أكفهم عند الدفاع ولا
يوهون ما رفعوا إن سابقوا الناس يومًا فاز سبقهم أو وازنوا أهل مجد بالندى منعوا
أعفة ذكرت في الوحي عفتهم لا يطمعون ولا يرديهم طمع لا يبخلون على جار بفضلهم ولا
يمسهم من مطمع طبع غذا نصبنا لحي لم ندبّ لهم كما يدبّ إلى الوحشية الذرع نسموا إذا
الحرب نالتنا مخالبها إذا الزعانف من أظفارها خشعوا لا يفخرون إذا نالوا عدوهم وإن
أصيبوا فلا خور ولا هلع كأنهم في الوغى والموت مكتنع أسد بحلية في أرساعها فدع خذ
منهم ما أتوا عفوا إذا غضبوا ولا يكن همك الأمر الذي منعوا فإن في حريتهم فاترك
عداوتهم شرًا يخاض عليه السم والسلع أكرم
بقوم رسول الله شيعتهم إذا تفاوتت الأهواء والشيع أهدى لهم مذ حتى قلب يؤازره فيما
أحب لسان حائك صنع فإنهم أفضل الاحياء كلهم إن جد في الناس جد القول أو شمعوا
وقال ابن هشام: أخبرني بعض أهل العلم بالشعر، من بني تميم، أن الزبرقان لما قدم على
رسول الله صَلَّى الله عليه وسلم في وفد بني تميم، قام فقال:
أتيناك كيما يعلم الناس فضلنا إذا اختلفوا عند احتضار المواسم بأنا فروع الناس في
كل موطن وأن ليس في أرض الحجاز كدارم وأنا نذود المعلمين إذا انتخوا ونضرب رأس
الأصيد المتفاقم
وإن لنا المرباع في كل غارة تغير بنجد أو بأرض الأعاجم
فقام حسان، فأجابه فقال:
هل المجد إلا السؤدد العود والندى وجاه الملوك واحتمال العظائم نصرنا ىوآوينا النبي
محمدًا على أنف راض من معد وراغم بحي ىحريد ىأصله ىوثراؤه بجابية الجولان وسط
الأعاجم نصرناه لما حل بين بيوتنا بأسيافنا من كل باغ وظالم جعلنا بنينا دونه
وبناتنا وطبنا له نفسًا بفيء المغانم ونحن ضربنا الناس حتى تتابعوا على دينه
بالمرهفات الصوارم ونحن ولدنا من قريش عظيمها ولدنا نبي الخير من آل هاشم بني دارم
لا تفخروا إن فخركم يعود وبالًا عند ذكر المكارم هبلتم علينا تفخرون وأنتم لنا خول
من بين ظئر وخادم فإن كنتم جئتم لحقن دمائكم وأموالكم أن تقسموا في المقاسم فلا
تجعلوا لله ندًّا وأسلموا ولا تلبسوا زيًّا كزيّ الأعاجم قال ابن إسحاق: فلما فرغ
حسان بن ثابت من قوله، قال الأقرع بن حابس: وأبي، إن هذا لمؤتى له؛ لخطيبه أخطب من
خطيبنا، ولشاعره أشعر من شاعرنا، ولأصواتهم أعلى من أصواتنا، فلما فرغ القوم
أسلموا، وجوزهم رسول الله صَلَّى الله عليه وسلم، فأحسن جوائزهم، وكان عمرو بن
الأهتم قد خلَّفه القوم في رحالهم، وكان أصغرهم سنًّا، فقال قيس بن عاصم، وكان يبغض
عمرو بن الأهتم: يا رسول الله، إنه كان رجل منّا في رحالنا، وهو غلام حدث، وأزرى
به، فأعطاه رسول الله صَلَّى الله عليه وسلم مثل ما أعطى القوم، فقال عمرو بن
الأهتم، حين بلغه أن قيسًا قال ذلك يهجوه: ظللت مفترش الهلباء تشتمني عند الرسول
فلم تصدق ولم تصب سدناكم سؤددًا رهوًا وسؤددكم باد نواجذه مقع على الذنب
وقد روى الحافظ البيهقي بسنده عن محمد بن الزبير الحنظلي، قال: قدم على رسول الله
صَلَّى الله عليه وسلم الزبرقان بن بدر، وقيس بن عاصم، وعمرو بن الأهتم، فقال لعمرو
بن الأهتم: "أخبرني
عن الزبرقان، فأما هذا فلست أسألك عنه"،
وأراه كأن قد عرف قيسًا، فقال: مطاع في أدنيه، شديد العارضة، مانع لما وراء ظهره،
فقال الزبرقان: قد قال ما قال، وهو يعلم أني أفضل مما قال، فقال عمرو: والله، ما
علمتك إلا زبر المروءة، ضيِّق العطن، أحمق الأب، لئيم الخال، ثم قال: يا رسول الله،
قد صدقت فيها جميعًا؛ أرضاني، فقلت بأحسن ما أعلم فيه، وأسخطني، فقلت بأسوء ما
أعلم، فقال رسول الله صَلَّى الله عليه وسلم: "إنَ
مِن البيانِ سِحْرًا"،
وهذا مرسل من هذا الوجه.
قال البيهقي:
وقد رُوي من وجه آخر موصولًا، عن ابن عباس، قال: جلس إلى رسول الله صَلَّى الله
عليه وسلم قيس بن عاصم، والزبرقان بن بدر، وعمرو بن الأهتم التميميون، ففخر
الزبرقان، فقال: يا رسول الله، أنا سيد تميم، والمطاع فيهم، والمجاب، أمنعهم من
الظلم، وآخذ لهم بحقوقهم، وهذا يعلم ذلك ــ يعني: عمرو بن الأهتم ــ فقال عمرو بن
الاهتم: إنه لشديد العارضة، مانع لجانبه، مطاع في أدنيه، فقال الزبرقان: والله يا
رسول الله، لقد علم مني غير ما قال، وما منعه أن يتكلم إلا الحسد، فقال عمرو بن
الأهتم: أنا أحسدك! فوالله، إنك للئيم الخال، حديث المال، أحمق الوالد، مضيع في
العشيرة، والله يا رسول الله، لقد صدقت فيما قلت أولًا، وما كذبت فيما قلت آخرًا؛
ولكني رجل إذا رضيت، قلت أحسن ما علمت، وإذا غضبت، قلت أقبح ما وجدت، ولقد صدقت في
الأولى والأخرى جميعًا، فقال رسول الله صَلَّى الله عليه وسلم: "إنّ
مِن البيانِ لسحرًا".
قال البيهقي: وإسناده غريب جدًا.
وقد ذكر الواقدي سبب قدومهم:
وهو أنهم كانوا قد جهزوا السلاح على خزاعة، فبعث إليهم رسول الله صَلَّى الله عليه
وسلم عيينة بن بدر في خمسين، ليس فيهم أنصاري ولا مهاجري، فأسر منهم: أحد عشر
رجلًا، وإحدى عشرة امرأة، وثلاثين صبيًّا، فقدم رؤساهم بسبب أسراهم. ويقال: قدم
منهم تسعون أو ثمانون رجلًا في ذلك، منهم: عطارد، والزبرقان، وقيس بن عاصم، وقيس بن
الحارث، ونعيم بن سعد، والأقرع بن حابس، ورباح بن الحارث، وعمرو بن الأهتم، فدخلوا
المسجد، وقد أذن بلال الظهر، والناس ينتظرون رسول الله صَلَّى الله عليه وسلم ليخرج
إليهم، فجعل هؤلاء فنادوه من وراء الحجرات، فنزل فيهم ما نزل، ثم ذكر الواقدي
خطيبهم وشاعرهم، وأنه عليه الصلاة والسلام أجازهم على كل رجل اثنى عشر أوقية ونشّا،
إلا عمرو بن الأهتم، فانما أعطي خمس أواق، لحداثة سنه، والله أعلم.
قال ابن إسحاق:
ونزل فيهم من القرآن قوله تعإلى: {إِنَّ
الَّذِينَ يُنَادُونَكَ مِن وَرَاءِ الْحُجُرَاتِ أَكْثَرُهُمْ لَا يَعْقِلُونَ.
وَلَوْ أَنَّهُمْ صَبَرُوا حَتَّى تَخْرُجَ إليهمْ لَكَانَ خَيْرًا لَّهُمْ
وَاللَّهُ غَفُورٌ رَّحِيمٌ} [الحجرات:
4 ــ 5]، وروى الامام أحمد عن الأقرع بن حابس أنه نادى رسول الله صَلَّى الله عليه
وسلم، فقال: يا محمد، يا محمد، وفي رواية: يا رسول الله، فلم يجبه، فقال: يا رسول
الله؛ إن حمدي لزين، وأن ذمي لشين، فقال: "ذاك
الله عز وجل".
حديث في فضل بني تميم:
قال البخاري: حدثنا زهير بن حرب، حدثنا جرير، عن عمارة بن القعقاع، عن أبي زرعة، عن
أبي هريرة، قال: لا أزال أحب بني تميم بعد ثلاث سمعتهن من رسول الله صَلَّى الله
عليه وسلم يقولها فيهم: "هم
أشد أمتي على الدجال"،
وكانت فيهم سبية عند عائشة، فقال: "أعتقيها؛
فإنها من ولد إسماعيل".
وجاءت صدقاتهم، فقال: "هذه
صدقات قوم" أو "قومي".
وهكذا رواه مسلم عن زهير بن حرب.
وفد عبد القيس:
قال البخاري: حدثنا أبو إسحاق، حدثنا أبو عامر العقدي، حدثنا قرة، عن أبي حمزة،
قال: قلت لابن عباس: إن لي جرة ينتبذ لي فيها، فأشربه حلوًا في حي، إن أكثرت منه
فجالست القوم فأطلت الجلوس، خشيت أن أفتضح. فقال: قدم وفد عبد القيس على رسول الله
صَلَّى الله عليه وسلم، فقال: "مرحبا
بالقوم، غير خزايا ولا الندامي".
فقال: يا رسول الله، إن بيننا وبينك المشركين من مضر، وإنا لا نصل إليك إلا في
الشهر الحرام، فحدثنا بجميل من الأمر، إن عملنا به دخلنا الجنة، وندعوا به من
وراءنا، قال: "آمركم
بأربع، وأنهاكم عن أربع. الإيمان بالله، هل تدرون ما الإيمان بالله؟ شهادة أن لا
إله إلا الله، وإقام الصلاة، وإيتاء الزكاة، وصوم رمضان، وأن تعطوا من المغانم
الخمس. وأنهاكم عن أربع: ما ينتبذ في الدباء، والنقير، والحنتم، والمزفت".
وهكذا رواه مسلم من حديث قرة بن خالد، عن أبي حمزة، وله طرق في الصحيحين عن أبي
حمزة، وقال أبو داود الطيالسي في مسنده: حدثنا شعبة عن أبي حمزة، سمعت ابن عباس
يقول: إن وفد عبد القيس لما قدم على رسول الله صَلَّى الله عليه وسلم، قال: "ممن
القوم؟" قالوا:
من ربيعة، قال: "مرحبا
بالوفد، غير الخزايا ولا الندامى".
فقالوا: يا رسول الله؛ إنا حي من ربيعة، وإنا نأتيك شقة بعيدة، وإنه يحول بيننا
وبينك هذا الحي من كفار مضر، وإنا لا نصل إليك إلا في شهر الحرام، فمرنا بأمر فصل،
ندعوا إليه من وراءنا، وندخل به الجنة. فقال رسول الله صَلَّى الله عليه وسلم: "آمركم
بأربع، وأنهاكم عن أربع. آمركم بالإيمان بالله وحده، أتدرون ما الإيمان بالله؟
شهادة أن لا إله إلا الله، وأن محمدًا رسول الله، وإقام الصلاة، وإيتاء الزكاة،
وصوم رمضان، وأن تعطوا من المغانم الخمس. وأنهاكم عن أربع: عن الدباء، والحنتم،
والنقير، والمزفت"،
وربما قال: "والمقير،
فاحفظوهن، وادعوا إليهن من وراءكم".
وقد أخرجاه صاحبا الصحيحين من حديث شعبة بنحوه، وقد رواه مسلم من حديث سعيد بن أبي
عروبة، عن قتادة، عن أبي نضرة، عن أبي سعيد، بحديث قصتهم بمثل هذا السياق، وعنده أن
رسول الله صَلَّى الله عليه وسلم قال لأشج عبد القيس: "إن
فيك لخلتين، يحبهما الله عز وجل: الحلم، والاناة"،
وفي رواية: "يحبهما
الله ورسوله".
فقال: يا رسول الله، تخلقتهما أم جبلني الله عليهما؟ فقال: "جبلك
الله عليهما"،
فقال الحمد لله، الذي جبلني على خلقين، يحبهما الله ورسوله.
وقال الامام أحمد:
حدثنا أبو سعيد مولى بني هاشم، حدثنا مطر بن عبد الرحمن، سمعت هند بنت الوزاع، أنها
سمعت الوزاع يقول: أتيت رسول الله صَلَّى الله عليه وسلم والأشج المنذر بن عامر أو
عامر بن المنذر، ومعهم رجل مصاب، فانتهوا إلى رسول الله صَلَّى الله عليه وسلم،
فلما رأوا رسول الله صَلَّى الله عليه وسلم وثبوا من رواحلهم، فأتوا رسول الله
صَلَّى الله عليه وسلم فقبلوا يده، ثم نزل الاشج؛ فعقل راحلته، وأخرج عيبته ففتحها،
فأخرج ثوبين أبيضين من ثيابه، فلبسهما، ثم أتى رواحلهم فعقلها، فأتى رسول الله
صَلَّى الله عليه وسلم، فقال: "يا
أشج؛ إن فيك خصلتين، يحبهما الله عز وجل ورسوله: الحلم، والأناة".
فقال: يا رسول الله؛ أنا تخلقتهما أو جبلني الله عليهما؟ فقال: "بل
جبلك الله عليهما"،
قال: الحمد لله، الذي جبلني على خلقين، يحبهما الله عز وجل ورسوله.
فقال الوازع:
يا رسول الله، إن معي خالًا لي مصابًا، فادع الله له، فقال: "أين
هو؟ آتيني به".
قال: فصنعت مثل ما صنع الأشج؛ ألبسته ثوبيه، وأتيته، فأخذ من ورائه يرفعها حتى
رأينا بياض إبطه، ثم ضرب بظهره، فقال: "اخرج
عدو الله"،
فولى وجهه، وهو ينظر بنظر رجل صحيح.
وروى الحافظ البيهقي من طريق هود بن عبد الله بن سعد، أنه سمع جده مزيدة العبدي،
قال:
بينما رسول الله صَلَّى الله عليه وسلم يحدِّث أصحابه، إذ قال لهم: "سيطلع
من هاهنا ركب، هم خير أهل المشرق".
فقام عمر، فتوجه نحوهم، فتلقى ثلاثة عشر راكبًا، فقال: مَن القوم؟ فقالوا: مِن بني
عبد القيس، قال: فما أقدمكم هذه البلاد، التجارة؟ قالوا: لا، قال: أما أن النبي
صَلَّى الله عليه وسلم قد ذكركم آنفًا، فقال خيرًا، ثم مشوا معه حتى أتوا النبي
صَلَّى الله عليه وسلم، فقال عمر للقوم: وهذا صاحبكم الذي تريدون. فرمى القوم
بأنفسهم عن ركائبهم؛ فمنهم من مشى، ومنهم من هرول، ومنهم من سعى، حتى أتوا رسول
الله صَلَّى الله عليه وسلم، فأخذوا بيده فقبلوها، وتخلَّف الأشج في الركاب حتى
أناخها، وجمع متاع القوم، ثم جاء يمشي حتى أخذ بيد رسول الله صَلَّى الله عليه وسلم
فقبلها، فقال النبي صَلَّى الله عليه وسلم: "إن
فيك خلتين، يحبهما الله ورسوله".
قال: جبل جبلت أم تخلقًا مني؟ قال:
"بل جبل"،
فقال: الحمد لله، الذي جبلني على ما يحب الله ورسوله.
وقال ابن إسحاق:
وقدم على رسول الله صَلَّى الله عليه وسلم الجارود بن عمرو بن حنش، أخو عبد القيس،
قال ابن هشام: وهو الجارود بن بشر بن المعلى، في وفد عبد القيس، وكان نصرانيًّا،
قال ابن إسحاق: وحدثني من لا أتهم، عن الحسن، قال: فلما انتهى إلى رسول الله صَلَّى
الله عليه وسلم كلَّمه، فعرض عليه الإسلام، ودعاه إليه ورغبه فيه، فقال: يا محمد؛
إني كنت على دين، وإني تارك ديني لدينك، أفتضمن لي ديني؟ فقال رسول الله صَلَّى
الله عليه وسلم: "نعم،
أنا ضامن؛ أن قد هداك الله إلى ما هو خير منه" قال:
فأسلم، وأسلم أصحابه، ثم سأل رسول الله صَلَّى الله عليه وسلم الحملان، فقال: "والله،
ما عندي ما أحملكم عليه".
قال: يا رسول الله؛ إن بيننا وبين بلادنا ضوالًا من ضوال الناس، أفنتبلغ عليها إلى
بلادنا؟ قال: "لا،
إياك وإياها؛ فإنما تلك حرق النار".
قال: فخرج الجارود راجعًا إلى قومه، وكان حسن الإسلام، صلبًا على دينه حتى هلك. وقد
أدرك الردّة، فلما رجع من قومه من كان أسلم منهم، إلى دينهم الأول مع الغرور بن
المنذر بن النعمان بن المنذر، قام الجارود فتشهد شهادة الحق، ودعا إلى الاسلام،
فقال: أيها الناس؛ إني أشهد أن لا إله إلا الله، وأن محمدًا عبده ورسوله، وأكفر من
لم يشهد.
وقد كان رسول الله صَلَّى الله عليه وسلم بعث العلاء بن الحضرمي، قبل فتح مكة، إلى
المنذر بن ساوى العبدي، فأسلم فحسن إسلامه، ثم هلك بعد رسول الله صَّلى الله عليه
وسلم، قبل ردة أهل البحرين، والعلاء عنده أميرًا لرسول الله صَلَّى الله عليه وسلم
على البحرين. ولهذا روى البخاري، من حديث إبراهيم بن طهمان، عن أبي حمزة، عن ابن
عباس، قال: أول جمعة جُمعت في مسجد رسول الله صَلَّى الله عليه وسلم، في مسجد عبد
القيس، بحونا من البحرين.
وروى البخاري عن أم سلمة، أن رسول الله صَلَّى الله عليه وسلم أخّر الركعتين بعد
الظهر بسبب وفد عبد القيس، حتى صلاهما بعد العصر في بيتها. قلت: لكن في سياق ابن
عباس ما يدل على أن قدوم وفد عبد القيس كان قبل فتح مكة؛ لقولهم: وبيننا وبينك هذا
الحي من مضر، لا نصل اليك إلا في شهر حرام، والله أعلم.
وفد بني حنيفة، ومعهم مسيلمة الكذاب:
قال البخاري:
باب وفد بني حنيفة، وقصة ثمامة بن أثال، حدثنا عبد الله بن يوسف، حدثنا الليث بن
سعد، حدثني سعيد بن أبي سعيد، سمع أبا هريرة قال: بعث النبي صَلَّى الله عليه وسلم
خيلًا قبل نجد، فجاءت برجل من بني حنيفة، يُقال له: ثمامة بن أثال، فربطوه بسارية
من سواري المسجد، فخرج إليه النبي صَلَّى الله عليه وسلم، فقال: "ما
عندك يا ثمامة؟" قال:
عندي خير يا محمد؛ إن تقتلني تقتل ذا دم، وإن تنعم تنعم على شاكر، وإن كنت تريد
المال فسل منه ما شئت. فتركه حتى كان الغد، ثم قال له: "ما
عندك يا ثمامة؟" فقال:
عندي ما قلت لك، فقال: "أطلقوا
ثمامة".
فانطلق إلى نخلٍ قريب من المسجد، فاغتسل، ثم دخل المسجد، فقال: أشهد أن لا إله إلا
الله، وأن محمدًا رسول الله، يا محمد؛ والله، ما كان على وجه الارض وجه أبغض إليَّ
من وجهك، فقد أصبح وجهك أحب الوجوه إلي، والله، ما كان دين أبغض إلي من دينك، فأصبح
دينك أحب الدين إلي، والله، ما كان من بلد أبغض إلي من بلدك، فأصبح بلدك أحب البلاد
إلي، وإن خيلك أخذتني وأنا أريد العمرة، فماذا ترى؟ فبشّره رسول الله صَلَّى الله
عليه وسلم، وأمره أن يعتمر.
فلما قدم مكة، قال له قائل: أصبوت؟! قال: لا، ولكن أسلمت مع محمد صَلَّى الله عليه
وسلم، ولا والله، لا تأتيكم من اليمامة حبة حنطة، حتى يأذن فيها النبي صَلَّى الله
عليه وسلم. وقد رواه البخاري في موضع آخر، ومسلم، وأبو داود، والنسائي، كلهم عن
قتيبة عن الليث به.
وفي ذكر البخاري هذه القصة في الوفود، نظر؛ وذلك أن ثمامة لم يفد بنفسه، وإنما
أُسِرَ وقُدم به في الوثاق، فرُبط بسارية من سواري المسجد. ثم في ذكره مع الوفود
سنة تسع، نظر آخر؛ وذلك أن الظاهر من سياق قصته أنها قُبيل الفتح؛ لأن أهل مكة
عيَّروه بالاسلام، وقالوا: أصبوت، فتوعدهم بأنه لا يفد إليهم من اليمامة حبة حنطة
ميرة، حتى يأذن فيها رسول الله صَلَّى الله عليه وسلم، فدَّل على أن مكة كانت إذ
ذاك دار حرب، لم يسلم أهلها بعدُ، والله أعلم. ولهذا ذكر الحافظ البيهقي قصة ثمامة
بن أثال قبل فتح مكة، وهو أشبه، ولكن ذكرناه ها هنا؛ إتباعًا للبخاري رحمه الله.
وقال البخاري:
حدثنا أبو اليمان، حدثنا شعيب، عن عبد الله بن أبي الحسين، حدثنا نافع بن جبير، عن
ابن عباس، قال: قدم مسيلمة الكذَّاب على عهد رسول الله صَلَّى الله عليه وسلم، فجعل
يقول: إن جعل لي محمد الأمر من بعده، اتبعته. وقدم في بشر كثير من قومه، فأقبل إليه
رسول الله صَلَّى الله عليه وسلم، ومعه ثابت بن قيس بن شماس، وفي يد رسول الله
صَلَّى الله عليه وسلم قطعة جريد، حتى وقف على مسيلمة في أصحابه، فقال له: "لو
سألتني هذه القطعة، ما أعطيتها، ولن تعدو أمر الله فيك، ولئن أدبرت ليعقرنك الله،
وإني لأراك الذي رأيتُ فيه ما أُريت، وهذا ثابت يجيبك عني".
ثم انصرف عنه.
قال ابن عباس:
فسألت عن قول رسول الله صَلَّى الله عليه وسلم: "إنك
الذي رأيتُ فيه ما أُريت"،
فأخبرني أبو هريرة أن رسول الله صَلَّى الله عليه وسلم قال: "بينا
أنا نائم، رأيت في يدي سوارين من ذهب، فأهمّني شأنهما، فأُوحي إليّ في المنام، أن
أنفخهما، فنفختهما، فطارا، فأولتهما: كذابين يخرجان بعدي، أحدهما: الأسود العنسي،
والآخر: مسيلمة".
ثم قال البخاري:
حدثنا إسحاق بن منصور، حدثنا عبد الرزاق، أخبرني معمر، عن هشام بن أمية، أنه سمع
أبا هريرة يقول: قال رسول الله صَلَّى الله عليه وسلم: "بينا
أنا نائم، أُتِيتُ بخزائنِ الأرضِ، فَوُضع في كفي سِوارَان من ذهب، فَكَبُرَا عليّ،
فأُوحي إلي أن أنفخهما، فنفختهما، فذهبا، فأولتهما: الكذابين؛ اللذين أنا بينهما،
صاحب صنعاء، وصاحب اليمامة".
ثم قال البخاري،
حدثنا سعيد بن محمد الجرمي، حدثنا يعقوب بن ابراهيم، حدثنا أبي عن صالح، عن ابن
عبيدة، عن نشيط، وكان في موضع آخر اسمه: عبد الله، أن عبيد الله بن عبد الله بن
عتبة، قال: بلغنا أن مسيلمة الكذاب قدم المدينة، فنزل في دار بنت الحارث، وكانت تحت
الحارث بن كريز، وهي أم عبد الله بن الحارث بن كريز، فأتاه رسول الله صَلَّى الله
عليه وسلم، ومعه ثابت بن قيس بن شماس، وهو الذي يُقال له: خطيب رسول الله صَلَّى
الله عليه وسلم، وفي يد رسول الله صَلَّى الله عليه وسلم قضيب، فوقف عليه فكلمه،
فقال له مسيلمة: إن شئت خليت بينك وبين الأمر، ثم جعلته لنا بعدك. فقال رسول الله
صَلَّى الله عليه وسلم: "لو
سألتني هذا القضيب، ما أعطيتكه، وإني لأراك الذي رأيت فيه ما رأيت، وهذا ثابت بن
قيس وسيجيبك عني"،
فانصرف رسول الله صَلَّى الله عليه وسلم.
قال عبد الله:
سألت ابن عباس عن رؤيا رسول الله صَلَّى الله عليه وسلم الذي ذكر، فقال ابن عباس:
ذُكِر لي أن رسول الله صَلَّى الله عليه وسلم قال: "بينا
أنا نائم، رأيت أنه وُضع في يدي سِواران من ذهب، فقطعتهما وكرهتهما، فأذن لي
فنفختهما، فطارا، فأولتهما: كذابين يخرجان"،
فقال عبيد الله: أحدهما: العنسي، الذي قتله فيروز باليمن، والآخر: مسيلمة الكذاب.
وقال محمد بن إسحاق:
قدم على رسول الله صَلَّى الله عليه وسلم وفد بني حنيفة، فيهم مسيلمة بن ثمامة بن
كثير بن حبيب بن الحارث بن عبد الحارث بن هماز بن ذهل بن الزول بن حنيفة، ويكنى:
أبا ثمامة، وقيل: أبا هارون، وكان قد تسمَّى بالرحمان، فكان يُقال له: رحمان
اليمامة، وكان عمره يوم قتل مائة وخمسين سنة. وكان يعرف أبوابًا من النيرجات؛ فكان
يدخل البيضة إلى القارورة، وهو أول من فعل ذلك، وكان يقص جناح الطير ثم يصله، ويدعي
أن ظبية تأتيه من الجبل فيحلب منها.
قال ابن إسحاق:
وكان منزلهم في دار بنت الحارث، امرأة من الأنصار ثم من بني النجار، فحدثني بعض
علمائنا من أهل المدينة، أن بني حنيفة أتت به رسول الله صَلَّى الله عليه وسلم
تستره بالثياب، ورسول الله صَلَّى الله عليه وسلم جالس في أصحابه، معه عسيب من سعف
النخل في رأسه خوصات، فلما انتهى إلى رسول الله صَلَّى الله عليه وسلم، وهم يسترونه
بالثياب، كلمه وسأله، فقال له رسول الله صَلَّى الله عليه وسلم: "لو
سألتني هذا العسيب، ما أعطيتكه".
قال ابن إسحاق:
وحدثني شيخ من بني حنيفة من أهل اليمامة، أن حديثه كان على غير هذا، وزعم أن وفد
بني حنيفة أتوا رسول الله صَلَّى الله عليه وسلم، وخلَّفوا مسيلمة في رحالهم، فلما
أسلموا ذكروا مكانه، فقالوا: يا رسول الله، إنا قد خلَّفنا صاحبًا لنا في رحالنا،
وفي ركابنا يحفظها لنا، قال: فأمر له رسول الله صَلَّى الله عليه وسلم، بمثل ما أمر
به للقوم، وقال: "أما
أنه ليس بشرِّكم مكانًا"،
أي: لحفظه ضيعة أصحابه، ذلك الذي يريد رسول الله صَلَّى الله عليه وسلم.
قال: ثم انصرفوا عن رسول الله صَلَّى الله عليه وسلم، وجاؤا مسيلمة بما أعطاه رسول
الله صَلَّى الله عليه وسلم، فلما انتهوا إلى اليمامة ارتد عدو الله، وتنبأ وتكذب
لهم، وقال: إني قد أُشركت في الأمر معه. وقال لوفده الذين كانوا معه: ألم يقل لكم،
حين ذكرتموني له: "أما
إنه ليس بشركم مكانًا"،
ما ذاك إلا لما كان يعلم أني قد أشركت في الأمر معه. ثم جعل يسجع لهم السجعات،
ويقول لهم فيما يقول، مضاهاة للقرآن: لقد أنعم الله على الحبلى، أخرج منها نسمة
تسعى، من بين صفاق وحشا، وأحل لهم الخمر، والزنا، ووضع عنهم الصلاة، وهو مع هذا
يشهد لرسول الله صَلَّى الله عليه وسلم بأنه نبي! فأصفقت معه بنو حنيفة على ذلك،
قال ابن إسحاق: فالله أعلم أي ذلك كان.
وذكر السهيلي وغيره أن الرحال بن عنفوة؛ واسمه:
نهار بن عنفوة، وكان قد أسلم، وتعلّم شيئًا من القرآن، وصحب رسول الله صَلَّى الله
عليه وسلم مدة، وقد مرَّ عليه رسول الله صَلَّى الله عليه وسلم وهو جالس مع أبي
هريرة وفرات بن حيان، فقال لهم: "أحدكم
ضرسه في النار، مثل أحد"،
فلم يزالا خائفين، حتى ارتد الرحال مع مسيلمة، وشهد له زورًا أن رسول الله صَلَّى
الله عليه وسلم أشركه في الأمر معه، وألقى إليه شيئا مما كان يحفظه يوم اليمامة من
القرآن، فادّعاه مسيلمة لنفسه، فحصل بذلك فتنة عظيمة لبني حنيفة، وقد قتله زيد بن
الخطاب يوم اليمامة.
قال السهيلي:
وكان مؤذن مسيلمة يُقال له: حجير، وكان مدبر الحرب بين يديه محكم بن الطفيل، وأُضيف
إليهم سجاح؛ وكانت تكنى: أم صادر، تزوجها مسيلمة، وله معها أخبار فاحشة، واسم
مؤذنها: زهير بن عمرو، وقيل: جنبة بن طارق، ويقال: إن شبث بن ربعي أذن لها أيضًا ثم
أسلم، وقد أسلمت هي أيضًا أيام عمر بن الخطاب، فحسن إسلامها.
وقال يونس بن بكير، عن ابن إسحاق:
وقد كان مسيلمة بن حبيب كتب إلى رسول الله صَلَّى الله عليه وسلم: من مسيلمة رسول
الله إلى محمد رسول الله؛ سلام عليك، أما بعد: فإني قد أشركت في الأمر معك، فإنّ
لنا نصف الأمر، ولقريش نصف الأمر، ولكن قريشًا قوم لا يعتدون. فقدم عليه رسولان
بهذا الكتاب، فكتب إليه رسول الله صَلَّى الله عليه وسلم: "بِسْمِ
اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ، من
محمد رسول الله إلى مسيلمة الكذاب؛ سلام على من اتبع الهدى، أما بعد: فإن الأرضَ
لله يُورثها من يشاء من عباده، والعاقبة للمتقين".
قال: وكان ذلك في آخر سنة عشر، يعني: ورود هذا الكتاب.
قال يونس بن بكير، عن ابن إسحاق:
فحدثني سعد بن طارق، عن سلمة بن نعيم بن مسعود، عن أبيه، قال: سمعت رسول الله
صَلَّى الله عليه وسلم، حين جاءه رسولا مسيلمة الكذاب بكتابه، يقول لهما: "وأنتما
تقولان مثل ما يقول".
قالا: نعم، فقال: "أما
والله، لولا أن الرسل لا تقتل، لضربت أعناقكما".
وقال أبو داود الطيالسي: حدثنا المسعودي، عن عاصم، عن أبي وائل، عن عبد الله بن
مسعود، قال: جاء ابن النواحة وابن أثال، رسولين لمسيلمة الكذاب، إلى رسول الله
صَلَّى الله عليه وسلم، فقال لهما: "أتشهدان
أني رسول الله؟"،
فقالا: نشهد أن مسيلمة رسول الله، فقال رسول الله صَلَّى الله عليه وسلم: "آمنت
بالله ورسله! ولو كنتُ قاتلًا رسولًا، لقتلتكما".
قال عبد الله بن مسعود: فمضت السنّة بأن الرسل لا تُقتل، قال عبد الله: فأما ابن
أثال، فقد كفاه الله، وأما ابن النواحة، فلم يزل في نفسي منه حتى أمكن الله منه.
قال الحافظ البيهقي:
أما أسامة بن أثال، فإنه أسلم، وقد مضى الحديث في إسلامه، وأما ابن النواحة،
فأخبرنا أبو زكريا بن أبي إسحاق المزني، أنبأنا أبو عبد الله محمد بن يعقوب، حدثنا
محمد بن عبد الوهاب، حدثنا جعفر بن عون، أنبأنا اسماعيل بن أبي خالد، عن قيس بن أبي
حازم، قال: جاء رجل إلى عبد الله بن مسعود، فقال: إني مررت ببعض مساجد بني حنيفة،
وهم يقرؤن قراءة ما أنزلها الله على محمد صَلَّى الله عليه وسلم: والطاحنات طحنًا،
والعاجنات عجنًا، والخابزات خبزًا، والثاردات ثردًا، واللاقمات لقمًا. قال: فأرسل
إليهم عبد الله، فأتي بهم، وهم سبعون رجلًا ورأسهم عبد الله بن النواحة، قال: فأمر
به عبد الله فقُتل، ثم قال: ما كنا بمحرزين الشيطان من هؤلاء، ولكن نحوزهم إلى
الشام؛ لعل الله أن يكفيناهم.
وقال الواقدي:
كان وفد بني حنيفة بضعة عشر رجلًا، عليهم سلمى بن حنظلة، وفيهم: الرحال بن عنفوة،
وطلق بن علي، وعلي بن سنان، ومسيلمة بن حبيب الكذاب، فأنزلوا في دار مسلمة بنت
الحارث، وأجريت على الضيافة، فكانوا يؤتون بغداء وعشاء؛ مرة خبزًا ولحمًا، ومرة
خبزًا ولبنًا، ومرة خبزًا، ومرة خبزًا وسمنًا، ومرة تمرًا، بنزلهم. فلما قدموا
المسجد أسلموا، وقد خلفوا مسيلمة في رحالهم، ولما أرادوا الانصراف أعطاهم جوائزهم،
خمس أواق من فضة، وأمر لمسيلمة بمثل ما أعطاهم، لما ذكروا أنه في رحالهم، فقال: "أما
إنه ليس بشركم مكانًا".
فلما رجعوا إليه أخبروه بما قال عنه، فقال: إنما قال ذلك؛ لأنه عرف أن الأمر لي من
بعده. وبهذه الكلمة تشبث قبحه الله حتى ادَّعى النبوة.
قال الواقدي:
وقد كان رسول الله بعث معهم بأدواة، فيها فضل طهوره، وأمرهم أن يهدموا بيعتهم،
وينضحوا هذا الماء مكانه، ويتخذوه مسجدًا، ففعلوا.
وفد أهل نجران:
قال البخاري:
حدثنا عباس بن الحسين، حدثنا يحيى بن آدم، عن إسرائيل، عن أبي إسحاق، عن صلة بن
زفر، عن حذيفة، قال: جاء العاقب والسيد صاحبا نجران إلى رسول الله صَلَّى الله عليه
وسلم، يريدان أن يلاعناه، قال: فقال أحدهما لصاحبه: لا تفعل؛ فوالله لئن كان نبيًّا
فلاعناه، لا نفلح نحن ولا عقبنا من بعدنا، قالا: إنا نعطيك ما سألتنا، وابعث معنا
رجلًا أمينًا، ولا تبعث معنا إلا رجلًا أمينًا، فقال: "لأ
بعثن معكم رجلًا أمينًا، حقّ أمين".
فاستشرف لها أصحاب رسول الله صَلَّى الله عليه وسلم، وقال: "قم
يا أبا عبيدة بن الجراح"،
فلما قام، قال رسول الله صَلَّى الله عليه وسلم: "هذا
أمين هذه الأمة".
وقد رواه البخاري أيضًا ومسلم من حديث شعبة عن أبي إسحاق به.
وقال الحافظ أبو بكر البيهقي:
أنبأنا أبو عبد الله الحافظ، وأبو سعيد محمد بن موسى بن الفضل، قالا حدثنا أبو
العباس محمد بن يعقوب، حدثنا أحمد بن عبد الجبار، حدثنا يونس بن بكير، عن سلمة بن
يسوع، عن أبيه عن جده، قال يونس، وكان نصرانيًّا فأسلم، أن رسول الله صَلَّى الله
عليه وسلم كتب إلى نجران قبل أن ينزل عليه {طس} [النمل:
1] سليمان "باسم
إله إبراهيم وإسحاق ويعقوب، من محمد النبي رسول الله إلى أسقف نجران؛ سِلْمٌ أنتم،
فإني أحمد إليكم إله إبراهيم وإسحاق ويعقوب، أما بعد؛ فاني أدعوكم إلى عبادة الله
من عبادة العباد، وأدعوكم إلى ولاية الله من ولاية العباد، فإن أبيتم فالجزية، فإن
أبيتم آذنتكم بحرب، والسلام".
فلما أتى الأسقف الكتاب فقرأه، قطع به، وذعر به ذعرًا شديدًا، وبعث إلى رجل من أهل
نجران يقال له: شرحبيل بن وداعة؛ وكان من همدان، ولم يكن أحد يدعى إذا نزلت معضلة
قبله، لا الأتهم ولا السيد ولا العاقب، فدفع الأسقف كتاب رسول الله صَلَّى الله
عليه وسلم إلى شرحبيل، فقرأه، فقال الأسقف: يا أبا مريم، ما رأيك؟ فقال شرحبيل: قد
علمت ما وعد الله إبراهيم في ذرية إسماعيل من النبوة، فما تؤمن أن يكون هو ذاك
الرجل، ليس لى في النبوة رأي، ولو كان أمر من أمور الدنيا لأشرت عليك فيه برأي،
وجهدت لك. فقال له الأسقف: تنح فاجلس. فتنحى شرحبيل فجلس ناحيته.
فبعث الأسقف إلى رجل من أهل نجران، يقال له: عبد الله بن شرحبيل، وهو من ذي أصبح من
حمير، فأقرأه الكتاب وسأله عن الرأي، فقال له مثل قول شرحبيل، فقال له الأسقف: تنح
فاجلس. فتنحى فجلس ناحيته، وبعث الأسقف إلى رجل من أهل نجران، يقال له: جبار بن
فيض، من بني الحارث بن كعب أحد بني الحماس، فأقرأه الكتاب وسأله عن الرأي فيه، فقال
له مثل قول شرحبيل وعبد الله، فأمره الأسقف، فتنحى فجلس ناحيته، فلما اجتمع الرأي
منهم على تلك المقالة جميعًا، أمر الأسقف بالناقوس فضرب به، ورفعت النيران المسموح
في الصوامع، وكذلك كانوا يفعلوا إذا فزعوا بالنهار، وإذا كان فزعهم ليلًا، ضربوا
بالناقوس ورفعت النيران في الصوامع.
فاجتمع حين ضرب بالناقوس ورفعت المسوح، أهل الوادي، أعلاه وأسفله، وطول الوادي
مسيرة يوم للراكب السريع، وفيه ثلاث وسبعون قرية وعشرون ومائة ألف مقاتل، فقرأ
عليهم كتاب رسول الله صَلَّى الله عليه وسلم، وسألهم عن الرأي فيه، فاجتمع رأي أهل
الرأي منهم على أن يبعثوا: شرحبيل بن وداعة الهمداني، وعبد الله بن شرحبيل الأصبحي،
وجبار بن فيض الحارثي، فيأتوهم بخبر رسول الله صَلَّى الله عليه وسلم، قال: فانطلق
الوفد حتى إذا كانوا بالمدينة، وضعوا ثياب السفر عنهم، ولبسوا حللًا لهم يجرونها من
حبرة، وخواتيم الذهب، ثم انطلقوا حتى أتوا رسول الله صَلَّى الله عليه وسلم،
فسلّموا، فلم يرد عليهم السلام، وتصدوا لكلامه نهارًا طويلًا فلم يكلمهم، وعليهم
تلك الحلل والخواتيم الذهب، فانطلقوا يتبعون عثمان بن عفان وعبد الرحمن بن عوف،
وكانوا يعرفونهما، فوجدوهما في ناس من المهاجرين والأنصار في مجلس، فقالوا: يا
عثمان ويا عبد الرحمن؛ إن نبيكم كتب إلينا بكتاب، فأقبلنا مجيبين له، فأتيناه
فسلمنا عليه، فلم يرد سلامنا، وتصدّينا لكلامه نهارًا طويلًا، فأعيانا أن يكلمنا،
فما الرأي منكما؟ أترون أن نرجع. فقالا لعلي بن أبي طالب، وهو في القوم: ما ترى يا
أبا الحسن في هؤلاء القوم؟
فقال علي لعثمان ولعبد الرحمن: أرى أن يضعوا حللهم هذه وخواتيمهم، ويلبسوا ثياب
سفرهم، ثم يعودوا إليه، ففعلوا، فسلّموا فردّ سلامهم، ثم قال: "والذي
بعثني بالحق، لقد أتوني المرة الأولى، وإن إبليس لمعهم"،
ثم ساءلهم وسائلوه، فلم تزل به وبهم المسألة حتى قالوا: ما تقول في عيسى؟ فإنا نرجع
إلى قومنا، ونحن نصارى ليسرنا إن كنت نبيًّا أن نسمع ما تقول فيه، فقال رسول الله
صَلَّى الله عليه وسلم: "ما
عندي فيه شيء يومي هذا، فأقيموا حتى أخبركم بما يقول الله في عيسى".
فأصبح الغد وقد أنزل الله عز وجل هذه الآية {إِنَّ
مَثَلَ عِيسَى عِندَ اللَّهِ كَمَثَلِ ءَادَمَ خَلَقَهُ مِن تُرَابٍ ثُمَّ قَالَ
لَهُ كُن فَيَكُونُ. الْحَقُّ مِن رَّبِّكَ فَلَا تَكُن مِّنَ الْمُمْتَرِينَ.
فَمَنْ حَاجَّكَ فِيهِ مِن بَعْدِ مَا جَاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ فَقُلْ تَعَالَوْا
نَدْعُ أَبْنَاءَنَا وَأَبْنَاءَكُمْ وَنِسَاءَنَا وَنِسَاءَكُمْ وَأَنفُسَنَا
وَأَنفُسَكُمْ ثُمَّ نَبْتَهِلْ فَنَجْعَل لَّعْنَتَ اللَّهِ عَلَى الْكَاذِبِينَ} [آل
عمران: 59 ــ 61]، فأبوا أن يقرّوا بذلك، فلما أصبح رسول الله صَلَّى الله عليه
وسلم الغد، بعد ما أخبرهم الخبر، أقبل مشتملًا على الحسن والحسين في خميل له،
وفاطمة تمشي عند ظهره للملاعنة، وله يومئذ عدة نسوة، فقال شرحبيل لصاحبيه: قد
علمتما أن الوادي إذا اجتمع أعلاه وأسفله، لم يردوا ولم يصدروا إلا عن رأيي، وإني
والله أرى أمرًا ثقيلًا، والله لئن كان هذا الرجل ملكًا متقويا، فكنا أول العرب طعن
في عيبته وردّ عليه أمره، لا يذهب لنا من صدره ولا من صدور أصحابه حتى يصيبونا
بحائجة، وإنا أدنى العرب منهم جوارًا، ولئن كان هذا الرجل نبيًّا مُرسلًا فلاعنّاه،
لا يبقى على وجه الارض منّا شعر ولا ظفر إلا هلك، فقال له صاحباه، فما الرأي يا أبا
مريم؟ فقال: رأيي أن أحكمه، فإني أرى رجلًا لا يحكم شططًا أبدًا، فقالا له: أنت
وذاك.
قال: فتلقى شرحبيل رسول الله صَلَّى الله عليه وسلم، فقال: إني قد رأيت خيرًا من
ملاعنتك، فقال: "وما
هو؟" فقال:
حكمك اليوم إلى الليل، وليلتك إلى الصباح، فما حكمك فينا فهو جائز، فقال رسول الله
صَلَّى الله عليه وسلم: "لعلّ
وراءك أحد يثرب عليك"،
فقال شرحبيل: سل صاحبي، فقالا: ما يرد الوادي ولا يصدر إلا عن رأي شرحبيل.
فرجع رسول الله صَلَّى الله عليه وسلم فلم يلاعنهم، حتى إذا كان الغد أتوه، فكتب
لهم هذا الكتاب: "بِسْمِ
اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ، هذا
ما كتب محمد النبيّ الأميّ رسول الله لنجران؛ أن كان عليهم حكمه في كل ثمرة وكل
صفراء وبيضاء ورقيق فأفضل عليهم، وترك ذلك كله على ألفي حلة، في كل رجب ألف حلة،
وفي كل صفر ألف حلة"،
وذكر تمام الشروط إلى أن شهد: أبو سفيان بن حرب، وغيلان بن عمرو، ومالك بن عوف من
بني نصر، والأقرع بن حابس الحنظلي، والمغيرة، وكتب. حتى إذا قبضوا كتابهم، انصرفوا
إلى نجران، ومع الأسقف أخ له من أمه، وهو ابن عمه من النسب، يقال له: بشر بن
معاوية، وكنيته: أبو علقمة.
فدفع الوفد كتاب رسول الله صَلَّى الله عليه وسلم إلى الأسقف، فبينما هو يقرأه،
وأبو علقمه معه وهما يسيران، إذ كبت ببشر ناقته، فتعس بشر، غير أنه لا يكنى عن رسول
الله صَلَّى الله عليه وسلم، فقال له الأسقف عند ذلك: قد والله تعست نبيًّا مرسلًا،
فقال له بشر: لا جرم والله، لا أحل عنها عقدًا حتى آتي رسول الله صَلَّى الله عليه
وسلم، فصرف وجه ناقته نحو المدينة، وثنى الأسقف ناقته عليه، فقال له: إفهم عني،
إنما قلت هذا؛ ليبلغ عني العرب، مخافة أن يروا أنا أخذنا حقه أو رضينا بصوته، أو
نجعنا لهذا الرجل بما لم تنجع به العرب، ونحن أعزهم وأجمعهم دارًا، فقال له بشر: لا
والله، لا أقبل ما خرج من رأسك أبدًا، فضرب بشر ناقته، وهو مولي الأسقف ظهره،
وارتجز يقول:
إليك تغدو قلقا وضينها معترضا في بطنها جنينها مخالفا دين النصارى دينها حتى أتى
رسول الله صَلَّى الله عليه وسلم فأسلم، ولم يزل معه حتى قُتل بعد ذلك، قال: ودخل
الوفد نجران، فأتي الراهب بن أبي شمر الزبيدي، وهو في رأس صومعته، فقال له إن
نبيًّا بُعث بتهامة، فذكر ما كان من وفد نجران إلى رسول الله صَلَّى الله عليه
وسلم، وأنه عرض عليهم الملاعنة فأبوا، وإن بشر بن معاوية دفع إليه فأسلم، فقال
الراهب: أنزلوني، وإلا ألقيت نفسي من هذه الصومعة، قال: فأنزلوه، فأخذ معه هدية
وذهب إلى رسول الله صَلَّى الله عليه وسلم، منها هذا البرد، الذي يلبسه الخلفاء،
وقعب وقعي وعصا. فأقام مدة عند رسول الله صَلَّى الله عليه وسلم يسمع الوحي، ثم رجع
إلى قومه ولم يقدر له الإسلام، ووعد أنه سيعود، فلم يقدر له حتى توفي رسول الله
صَلَّى الله عليه وسلم.
وأن الاسقف أبا الحارث أتى رسول الله صَلَّى الله عليه وسلم، ومعه السيد والعاقب
ووجوه قومه، فأقاموا عنده يسمعون ما ينزل الله عليه، وكتب للأسقف هذا الكتاب،
ولأساقفة نجران بعده: "بِسْمِ
اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ، من
محمد النبي للأسقف أبي الحارث، وأساقفة نجران، وكهنتهم، ورهبانهم؛ وكل ما تحت
أيديهم من قليل وكثير، جوار الله ورسوله، لا يغير أسقف من أسقفته، ولا راهب من
رهبانيته، ولا كاهن من كهانته، ولا يغير حق من حقوقهم، ولا سلطانهم، ولا ما كانوا
عليه من ذلك جوار الله ورسوله أبدًا، ما أصلحوا ونصحوا عليهم، غير مبتلين بظلم، ولا
ظالمين"،
وكتب المغيرة بن شعبة.
وذكر محمد بن إسحاق أن وفد نصارى نجران كانوا ستين راكبًا، يرجع أمرهم إلى أربعة
عشر منهم؛ وهم: العاقب واسمه عبد المسيح، والسيد وهو الأتهم، وأبو حارثة بن علقمة،
وأوس بن الحارث، وزيد، وقيس، ويزيد، ونبيه، وخويلد، وعمرو، وخالد، وعبد الله،
ويحنس. وأمر هؤلاء الأربعة عشر يؤل إلى ثلاثة منهم؛ وهم: العاقب؛ وكان أمير القوم،
وذا رأيهم، وصاحب مشورتهم، والذي لا يصدرون إلا عن رأيه، والسيد؛ وكان ثمالهم
[الثمال: الملجأ والمغيث]، وصاحب رحلهم، وأبو حارثة بن علقمة؛ وكان أسقفهم، وخيرهم،
وكان رجل من العرب من بكر بن وائل ولكن دخل في دين النصرانية، فعظمته الروم
وشرّفوه، وبنوا له الكنائس، ومولوه وخدموه، لما يعرفون من صلابته في دينهم، وكان مع
ذلك يعرف أمر رسول الله صَلَّى الله عليه وسلم، ولكن صدَّه الشرف والجاه من اتباع
الحق.
وقال يونس بن بكير عن ابن إسحاق: حدثني بريدة بن سفيان، عن ابن البيلماني، عن كرز
بن علقمة، قال: قدم وفد نصارى نجران، ستون راكبًا، منهم أربعة وعشرون رجلًا من
أشرافهم، والأربعة والعشرون منهم ثلاثة نفر، إليهم يؤول أمرهم: العاقب، والسيد،
وأبو حارثة، أحد بني بكر بن وائل، أسقفهم وصاحب مدارستهم؛ وكانوا قد شرفوه فيهم،
ومولوه، وأكرموه، وبسطوا عليه الكرامات، وبنوا له الكنائس؛ لما بلغهم عنه من علمه
واجتهاده في دينهم.
فلما توجهوا من نجران، جلس أبو حارثة على بغلة له، وإلى جنبه أخ له، يقال له: كرز
بن علقمة، يسايره، إذ عثرت بغلة أبي حارثة، فقال كرز: تعس الأبعد، يريد رسول الله
صَلَّى الله عليه وسلم، فقال له أبو حارثة: بل أنت تعست، فقال له كرز: ولم يا أخي؟
فقال: والله إنه للنبي الذي كنا ننتظره، فقال له كرز: وما يمنعك، وأنت تعلم هذا؟!
فقال له: ما صنع بنا هؤلاء القوم؛ شرفونا، ومولونا، وأخدمونا، وقد أبوا إلا خلافه،
ولو فعلت نزعوا منّا كل ما ترى، قال: فأضمر عليها منه أخوه كرز حتى أسلم بعد ذلك.
وذكر ابن إسحاق أنهم لما دخلوا المسجد النبوي، دخلوا في تجمّل، وثياب حسان، وقد
حانت صلاة العصر، فقاموا يصلون إلى المشرق، فقال رسول الله صَلَّى الله عليه وسلم: "دعوهم"،
فكان المتكلم لهم: أبا حارثة بن علقمة، والسيد، والعاقب، حتى نزل فيهم صدر من سورة
آل عمران والمباهلة، فأبوا ذلك، وسألوا أن يرسل معهم أمينًا، فبعث معهم أبا عبيدة
بن الجراح كما تقدم في رواية البخاري.
وفد بني عامر، وقصة عامر بن الطفيل، وأربد بن مقيس:
قال ابن إسحاق: وقدم على رسول الله صَلَّى الله عليه وسلم: وفد بني عامر بن الطفيل،
وأربد بن مقيس بن جزء بن جعفر بن خالد، وجبار بن سلمى بن مالك بن جعفر، وكان هؤلاء
الثلاثة رؤساء القوم وشياطينهم. وقدم عامر بن الطفيل عدو الله على رسول الله صَلَّى
الله عليه وسلم، وهو يريد الغدر به، وقد قال له قومه: يا أبا عامر، إن الناس قد
أسلموا فأسلم، قال: والله، لقد كنت آليت ألا أنتهي حتى تتبع العرب عقبي، فأنا أتبع
عقب هذا الفتى من قريش! ثم قال لأربد: إن قدمنا على الرجل فإني سأشغل عنك وجهه،
فإذا فعلت ذلك فأعله بالسيف.
فلما قدموا على رسول الله صَلَّى الله عليه وسلم، قال عامر بن الطفيل: يا محمد،
خالني [أي: اتخذني خليلًا]، قال: "لا
والله، حتى تؤمن بالله وحده".
قال: يا محمد، خالني، قال: وجعل يكلمه وينتظر من أربد ما كان أمره به، فجعل أربد لا
يحير شيئًا، فلما رأى عامر ما يصنع أربد، قال: يا محمد، خالني، قال: "لا،
حتى تؤمن بالله وحده، لا شريك له".
فلما أبى عليه رسول الله صَلَّى الله عليه وسلم، قال: أما والله لأملأنها عليك
خيلًا ورجالًا، فلما ولّى قال رسول الله صَلَّى الله عليه وسلم: "اللهم
اكفني عامر بن الطفيل".
فلما خرجوا من عند رسول الله صَلَّى الله عليه وسلم، قال عامر بن الطفيل لأربد: أين
ما كنت أمرتك به؟ والله، ما كان على ظهر الارض رجل أخوف على نفسي منك، وأيم الله،
لا أخافك بعد اليوم أبدًا، قال: لا أبا لك، لا تعجل عليّ، والله ما هممت بالذي
أمرتني به إلا دخلت بيني وبين الرجل، حتى ما أرى غيرك، أفأضربك بالسيف؟! وخرجوا
راجعين إلى بلادهم، حتى إذا كانوا ببعض الطريق بعث الله عز وجل على عامر بن الطفيل
الطاعون في عنقه، فقتله الله في بيت امرأة من بني سلول، فجعل يقول: يا بني عامر،
أغدة كغدة البكر في بيت امرأة من بني سلول؟! قال ابن هشام: ويقال: أغدة كغدة الإبل،
وموت في بيت سلولية؟!
وروى الحافظ البيهقي من طريق الزبير بن بكار، حدثتني فاطمة بنت عبد العزيز بن
موءلة، عن أبيها، عن جدها موءلة بن جميل، قال: أتى عامر بن الطفيل رسول الله صَلَّى
الله عليه وسلم فقال له: "يا
عامر، أسلم"،
فقال: أُسْلِمُ على أن لي الوبر، ولك المدر. قال: "لا"،
ثم قال: "أسلم"،
فقال: أسلم على أن لي الوبر، ولك المدر، قال: "لا"،
فولى وهو يقول: والله يا محمد، لأملأنها عليك خيلًا جردًا، ورجالا مردًا، ولأربطن
بكل نخلة فرسًا، فقال رسول الله صَلَّى الله عليه وسلم: "اللهم
اكفني عامرًا، واهد قومه".
فخرج حتى إذا كان بظهر المدينة، صادف امرأة من قومه، يقال لها: سلولية، فنزل عن
فرسه ونام في بيتها، فأخذته غدة في حلقه، فوثب على فرسه، وأخذ رمحه، وأقبل يجول وهو
يقول: غدة كغدة البكر، وموت في بيت سلولية! فلم تزل تلك حاله حتى سقط عن فرسه
ميتًا.
وذكر الحافظ أبو عمر بن عبد البر في "الاستيعاب" في أسماء الصحابة موءلة هذا، فقال:
هو موءلة بن كثيف الضبابي الكلابي العامري من بني عامر بن صعصعة، أتى رسول الله
صَلَّى الله عليه وسلم وهو ابن عشرين سنة فأسلم، وعاش في الإسلام مائة سنة، وكان
يدعى: ذا اللسانين؛ من فصاحته. روى عنه ابنه عبد العزيز، وهو الذي روى قصة عامر بن
الطفيل: غدة كغدة البعير، وموت في بيت سلولية!
قال الزبير بن بكار:
حدثتني ظميا بنت عبد العزيز بن موءلة بن كثيف بن جميل بن خالد بن عمرو بن معاوية،
وهو الضباب بن كلاب بن ربيعة بن عامر بن صعصعة، قالت: حدثني أبي عن أبيه عن موءلة،
أنه أتى رسول الله صَلَّى الله عليه وسلم؛ فأسلم، وهو ابن عشرين سنة، وبايع رسول
الله صَلَّى الله عليه وسلم، ومسح يمينه، وساق إبله إلى رسول الله صَلَّى الله عليه
وسلم فصدقها بنت لبون، ثم صحب أبا هريرة بعد رسول الله صَلَّى الله عليه وسلم، وعاش
في الإسلام مائة سنة، وكان يسمى: ذا اللسانين؛ من فصاحته.
قلت: والظاهر أن قصة عامر بن الطفيل متقدمة على الفتح، وإن كان ابن إسحاق والبيهقي
قد ذكرها بعد الفتح؛ وذلك لما رواه الحافظ البيهقي عن الحاكم، عن الأصم، أنبأنا
محمد بن إسحاق، أنبأنا معاوية بن عمرو، حدثنا أبو إسحاق الفزاري، عن الاوزاعي، عن
إسحاق بن عبد الله بن أبي طلحة، عن أنس، في قصة بئر معونة، وقتل عامر بن الطفيل
حرام بن ملحان، خال أنس بن مالك، وغدره بأصحاب بئر معونة، حتى قُتلوا عن آخرهم سوى
عمرو بن أمية كما تقدم، قال الاوزاعي: قال يحيى: فمكث رسول الله صَلَّى الله عليه
وسلم يدعو على عامر بن الطفيل ثلاثين صباحًا: "اللهم
اكفني عامر بن الطفيل بما شئت، وابعث عليه ما يقتله"،
فبعث الله عليه الطاعون.
وروى عن همام عن إسحاق بن عبد الله عن أنس في قصة ابن ملحان، قال: وكان عامر بن
الطفيل قد أتى رسول الله صَلَّى الله عليه وسلم، فقال: أخيرك بين ثلاث خصال: يكون
لك أهل السهل، ويكون لي أهل الوبر، وأكون خليفتك من بعدك، أو أغزوك بغطفان بألف
أشقر وألف شقراء، قال: فطعن في بيت امرأة، فقال: غدة كغدة البعير، وموت في بيت
امرأة من بني فلان! ائتوني بفرسي، فركب فمات على ظهر فرسه.
قال ابن إسحاق: ثم خرج أصحابه حين رأوه، حتى قدموا أرض بني عامر شاتين، فلما قدموا
أتاهم قومهم، فقالوا: وما وراءك يا أربد؟ قال: لا شيء، والله لقد دعانا إلى عبادة
شيء، لوددت لو أنه عندي الآن، فأرميه بالنبل حتى أقتله الآن، فخرج بعد مقالته بيوم
أو يومين، معه جمل له يبيعه، فأرسل الله عليه وعلى جمله صاعقة فأحرقتهما. قال ابن
إسحاق: وكان أربد بن قيس أخا لبيد بن ربيعة لأمه، فقال لبيد يبكي أربد:
ما أن تُعرى المنون من أحد لا والد مشفق ولا ولد أخشى على أربد الحتوف ولا أرهب نوء
السماك والأسد فعين هلا بكيت أربد إذ قمنا وقام النساء في كبد إن يشغبوا لا يبال
شغبهم أو يقصدوا في الحكوم يقتصد حلو أريب وفي حلاوته مر لصيق الأحشاء والكبد وعين
هلا بكيت أربد إذ ألوت رياح الشتاء بالعضد وأصبحتْ لاقِحًا مُصَرَّمةً حتى تجلت
غوابر المدد أشجع من ليث غابة لحم ذو نهمة في العلا ومنتقد لا تبلغ العين كل نهمتها
ليلة تمسي الجياد كالفِدَدِ الباعث النوح في مآتمه مثل الظباء الأبكار بالجرد فجعني
البرق والصواعق بالفَا رس يوم الكريهة النجد والحاربُ الجابرُ الحريبُ إذا جاء
نكيبا وإن يَعُدْ يَعْدِ يعفو على الجهد والسؤال كما ينبت غيث الربيع ذو الرصد كل
بني حرة مصيرهم قَلَّ وإن كثروا من العدد إن يغبطوا يهبطوا وإن أمروا يومًا فهم
للهلاك والنفَدِ
قال ابن هشام: وذكر زيد بن أسلم، عن عطاء بن يسار، عن ابن عباس، قال: فأنزل الله عز
وجل في عامر وأربد: {اللَّهُ
يَعْلَمُ مَا تَحْمِلُ كُلُّ أُنثَى وَمَا تَغِيضُ الْأَرْحَامُ وَمَا تَزْدَادُ
وَكُلُّ شَيْءٍ عِندَهُ بِمِقْدَارٍ. عَالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ الْكَبِيرُ
الْمُتَعَالِ. سَوَاءٌ مِّنكُم مَّنْ أَسَرَّ الْقَوْلَ وَمَن جَهَرَ بِهِ وَمَنْ
هُوَ مُسْتَخْفٍ بِالَّيْلِ وَسَارِبٌ بِالنَّهَارِ. لَهُ مُعَقِّبَاتٌ مِّن بَيْنِ
يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ يَحْفَظُونَهُ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ}،
يعني: محمدًا صَلَّى الله عليه وسلم، ثم ذكر أربد وقتله فقال الله تعإلى: {وَإِذَا
أَرَادَ اللَّهُ بِقَوْمٍ سُوءًا فَلَا مَرَدَّ لَهُ وَمَالَهُم مِّن دُونِهِ مِن
وَالٍ. هُوَ الَّذِي يُرِيكُمُ الْبَرْقَ خَوْفًا وَطَمَعًا وَيُنشِئُ السَّحَابَ
الثَّقَالَ. وَيُسَبِّحُ الرَّعْدُ بِحَمْدِهِ وَالْمَلَائِكَةُ مِنْ خِيفَتِهِ
وَيُرْسِلُ الصَّوَاعِقَ فَيُصِيبُ بِهَا مَن يَشَاءُ وَهُمْ يُجَادِلُونَ فِي
اللَّهِ وَهُوَ شَدِيدُ الْمِحَالِ} [الرعد:
8 ــ 13]
روى ابن عباس أن أربد بن قيس بن جزء بن خالد بن جعفر بن كلاب وعامر بن الطفيل بن
مالك قدما المدينة على رسول الله صَلَّى الله عليه وسلم، فانتهيا إليه وهو جالس
فجلسا بين يديه، فقال عامر بن الطفيل: يا محمد، ما تجعل لي إن اسلمت؟ فقال رسول
الله صَلَّى الله عليه وسلم: "ما
لك ما للمسلمين، وعليك ما عليهم"،
قال عامر: أتجعل لي الأمر إن أسلمت، من بعدك؟ فقال رسول الله صَلَّى الله عليه
وسلم: "ليس
ذلك لك ولا لقومك، ولكن لك أعنة الخيل"،
قال: أنا الآن في أعنة خيل نجد، اجعل لي الوبر، ولك المدر، قال رسول الله صَلَّى
الله عليه وسلم: "لا"،
فلما قفا من عنده قال عامر: أما والله لأملأنها عليك خيلًا ورجالًا، فقال رسول الله
صَلَّى الله عليه وسلم: "يمنعك
الله".
فلما خرج أربد وعامر، قال عامر: يا أربد؛ أنا أشغل محمدًا بالحديث فاضربه بالسيف،
فإن الناس إذا قتلت محمدًا لم يزيدوا على أن يرضوا بالدية، ويكرهوا الحرب، فسنعطيهم
الدية، قال أربد: أفعل، فأقبلا راجعين إليه فقال عامر: يا محمد، قم معي أكلمك. فقام
معه رسول الله صَلَّى الله عليه وسلم، فخليا إلى الجدار، ووقف معه رسول الله يكلمه،
وسل أربد السيف، فلما وضع يده على السيف يبست يده على قائم السيف، فلم يستطع سل
السيف، فأبطأ أربد على عامر بالضرب، فالتفت رسول الله صَلَّى الله عليه وسلم فرأى
أربد وما يصنع، فانصرف عنهما.
فلما خرج أربد وعامر من عند رسول الله صَلَّى الله عليه وسلم، حتى إذا كانا بالحرة
ــ حرة واقم ــ نزلا فخرج إليهما سعد بن معاذ وأسيد بن الحضير، فقالا: اشخصا يا
عدوا الله، لعنكما الله. فقال عامر: مَن هذا يا سعد؟ قال: أسيد بن حضير الكتائب،
فخرجا حتى إذا كانا بالرقم، أرسل الله على أربد صاعقة فقتلته. وخرج عامر حتى إذا
كان بالحرة، أرسل الله قرحة فأخذته، فأدركه الليل في بيت امرأة من بني سلول، فجعل
يمس قرحته في حلقه ويقول: غدة كغدة الجمل في بيت سلولية! يرغب عن أن يموت في بيتها،
ثم ركب فرسه فأحضرها، حتى مات عليه راجعًا، فأنزل الله فيهما: {اللَّهُ
يَعْلَمُ مَا تَحْمِلُ كُلُّ أُنثَى وَمَا تَغِيضُ الْأَرْحَامُ وَمَا تَزْدَادُ}،
إلى قوله: {لَهُ
مُعَقِّبَاتٌ مِّن بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ يَحْفَظُونَهُ مِنْ أَمْرِ
اللَّه}،
يعني: محمدًا صَلَّى الله عليه وسلم، ثم ذكر أربد وما قتله به، فقال: {وَيُرْسِلُ
الصَّوَاعِقَ فَيُصِيبُ بِهَا مَن يَشَاءُ} [الرعد:
8 ــ 13].
قدوم ضمام بن ثعلبة، وافدًا على قومه:
قال ابن إسحاق:
حدثنى محمد بن الوليد بن نويفع، عن كريب، عن ابن عباس، قال: بعث بنو سعد بن بكر
ضمام بن ثعلبة وافدًا إلى رسول الله صَلَّى الله عليه وسلم، فقدم إليه وأناخ بعيره
على باب المسجد ثم علقه، ثم دخل المسجد ورسول الله صَلَّى الله عليه وسلم جالس في
أصحابه، وكان ضمام رجلًا جلدًا أشعر ذا غديرتين، فأقبل حتى وقف على رسول الله
صَلَّى الله عليه وسلم في أصحابه، فقال أيكم ابن عبد المطلب؟ فقال رسول الله صَلَّى
الله عليه وسلم: "أنا
ابن عبد المطلب"،
فقال: يا محمد، قال: "نعم"،
قال: يابن عبد المطلب؛ إني سائلك، ومغلظ عليك في المسألة، فلا تجدنّ في نفسك، قال: "لا
أجد في نفسي، فسلْ عمّا بدا لك".
فقال: أنشدك إلهك، وإله من كان قبلك، وإله من هو كائن بعدك: آلله بعثك الينا
رسولًا؟ قال: "اللهم
نعم"،
قال: فأنشدك الله إلهك، وإله من كان قبلك، وإله من هو كائن بعدك: آلله أمرك أن
تأمرنا أن نعبده وحده، ولا نشرك به شيئًا، وأن نخلع هذه الأنداد، التي كان آباؤنا
يعبدون؟ قال: "اللهم
نعم"،
قال: فأنشدك الله إلهك، وإله من كان قبلك، وإله من هو كائن بعدك: آلله أمرك أن نصلي
هذه الصلوات الخمس؟ قال: "نعم".
قال: ثم جعل يذكر فرائض الإسلام، فريضة فريضة: الزكاة، والصيام، والحج، وشرائع
الاسلام كلها، ينشده عند كل فريضة منها كما يشهده في التي قبلها، حتى إذا فرغ قال:
فإني أشهد أن لا إله إلا الله، وأشهد أن محمدًا رسول الله، وسأؤدي هذه الفرائض،
وأجتنب ما نهيتني عنه، ثم لا أزيد ولا أنقص، ثم انصرف إلى بعيره راجعًا. قال: فقال
رسول الله صَلَّى الله عليه وسلم: "إن
صدق ذو العقيصتين، دخل الجنة".
قال فأتى بعيره فأطلق عقاله، ثم خرج حتى قدم على قومه، فاجتمعوا إليه، فكان أول ما
تكلم أن قال: بئست اللات والعزى، فقالوا: مه يا ضمام! اتق البرص، اتق الجذام، اتق
الجنون، فقال: ويلكم! إنهما والله لا يضران ولا ينفعان، إن الله قد بعث رسولًا،
وأنزل عليه كتابًا، استنقذكم به مما كنتم فيه، وإني أشهد أن لا إله إلا الله، وحده
لا شريك له، وأن محمدًا عبده ورسوله، وقد جئتكم من عنده بما أمركم به، وما نهاكم
عنه، قال: فوالله ما أمسى من ذلك اليوم وفي حاضره رجل ولا امرأة إلا مسلمًا، قال:
يقول ابن عباس: فما سمعنا بوافد كان أفضل من ضمام بن ثعلبة، وهكذا رواه الإمام
أحمد، عن يعقوب بن إبراهيم الزهري، عن أبيه، عن ابن إسحاق، فذكره. وقد روى هذا
الحديث أبو داود من طريق سلمة بن الفضل، عن محمد بن إسحاق، عن سلمة بن كهيل، ومحمد
بن الوليد بن نويفع، عن كريب، عن ابن عباس بنحوه، وفي هذا السياق ما يدل على أنه
رجع إلى قومه قبل الفتح؛ لأن العزى خربها خالد بن الوليد أيام الفتح.
وقد قال الواقدي:
حدثني أبو بكر بن عبد الله بن أبي سبرة، عن شريك بن عبد الله بن أبي نمر، عن كريب،
عن ابن عباس، قال: بعثت بنو سعد بن بكر في رجب سنة خمس، ضمام بن ثعلبة؛ وكان جلدًا،
أشعر، ذا عذارتين، وافدًا إلى رسول الله صَلَّى الله عليه وسلم، فأقبل حتى وقف على
رسول الله صَلَّى الله عليه وسلم، فسأله فأغلظ في المسألة؛ سأله عمن أرسله، وبما
أرسله، وسأله عن شرائع الإسلام، فأجابه رسول الله صَلَّى الله عليه وسلم في ذلك
كله، فرجع إلى قومه مسلمًا، قد خلع الأنداد، فأخبرهم بما أمرهم به، ونهاهم عنه، فما
أمسى في ذلك اليوم في حاضره رجل ولا امرأة إلا مسلمًا، وبنوا المساجد، وأذنوا
بالصلاة.
وقال الإمام أحمد:
حدثنا هاشم بن القاسم، حدثنا سليمان، يعني: ابن المغيرة، عن ثابت، عن أنس بن مالك،
قال: كنا نُهينا أن نسأل رسول الله صَلَّى الله عليه وسلم عن شيء، فكان يعجبنا أن
يجيء الرجل من أهل البادية العاقل يسأله ونحن نسمع، فجاء رجل من أهل البادية، فقال:
يا محمد؛ أتانا رسولك فزعم لنا أنك تزعم أن الله أرسلك، قال: "صدق"،
قال: فمن خلق السموات؟ قال: "الله"،
قال: فمن خلق الأرض؟ قال: "الله"،
قال: فمن نصب هذه الجبال، وجعل فيها ما جعل؟ قال: "الله"،
قال: فبالذي خلق الأرض، ونصب هذه الجبال: آلله أرسلك؟ قال: "نعم"،
قال: وزعم رسولك أن علينا خمس صلوات في يومنا وليلتنا، قال: "صدق"،
قال: فبالذي أرسلك: آلله أمرك بهذا؟ قال: "نعم"،
قال: وزعم رسولك أن علينا زكاة أموالنا، قال: "صدق"،
قال: فبالذي أرسلك الله: آلله أمرك بهذا؟ قال: "نعم"،
قال: وزعم رسولك أن علينا صوم شهر في سنتنا، قال: "صدق"،
قال: فبالذي أرسلك: آلله أمرك بهذا؟ قال: "نعم"،
قال: وزعم رسولك أن علينا حج البيت من استطاع إليه سبيلًا، قال: "صدق"،
قال: ثم ولى فقال: والذي بعثك بالحق، لا أزيد عليهن شيئًا، ولا أنقص عليهن شيئًا،
فقال النبي صَلَّى الله عليه وسلم: "إن
صدق، ليدخلن الجنة".
وهذا الحديث مخرج في الصحيحين وغيرهما، بأسانيد وألفاظ كثيرة عن أنس بن مالك رضي
الله عنه، وقد رواه مسلم من حديث أبي النضر هاشم بن القاسم، عن سليمان بن المغيرة،
وعلقه البخاري من طريقه، وأخرجه من وجه آخر بنحوه.
فقال الإمام أحمد:
حدثنا حجاج، حدثنا ليث، حدثني سعيد بن أبي سعيد، عن شريك بن عبد الله بن أبي نمر،
أنه سمع أنس بن مالك يقول: بينا نحن عند رسول الله صَلَّى الله عليه وسلم جلوس في
المسجد، دخل رجل على جمل، فأناخه في المسجد ثم عقله، ثم قال: أيّكم محمد؟ ورسول
الله متكئ بين ظهرانيهم، قال: فقلنا: هذا الرجل الأبيض المتكئ، فقال الرجل: يا ابن
عبد المطلب، فقال رسول الله صَلَّى الله عليه وسلم: "قد
أجبتك"،
فقال الرجل: يا محمد؛ إني سائلك، فمشتد عليك المسألة، فلا تجد عليّ في نفسك، فقال: "سل
ما بدا لك"،
فقال الرجل: أسألك بربك، ورب من كان قبلك: آلله أرسلك إلى الناس كلهم؟ فقال رسول
الله صَلَّى الله عليه وسلم: "اللهم
نعم"،
قال: فأنشدك الله: آلله أمرك أن تصوم هذا الشهر من السنة؟ فقال رسول الله صَلَّى
الله عليه وسلم: "اللهم
نعم"،
قال الرجل: آمنت بما جئت به، وأنا رسول من ورائي من قومي، وأنا ضمام بن ثعلبة أخو
بني يعد بن بكر. وقد رواه البخاري عن عبد الله بن يوسف، عن الليث بن سعد، عن سعيد
المقبري به، وهكذا رواه أبو داود والنسائي وابن ماجه عن الليث به. والعجب أن
النسائي رواه من طريق آخر عن الليث، قال: حدثني ابن عجلان وغيره من أصحابنا، عن
سعيد المقبري، عن شريك، عن أنس بن مالك فذكره، وقد رواه النسائي أيضًا من حديث عبيد
الله العمري، عن سعيد المقبري، عن أبي هريرة، فلعله عن سعيد المقبري من الوجهين
جميعًا.
وفد طيء مع زيد الخيل رضي الله عنه:
قال ابن إسحاق: وقدم على رسول الله صَلَّى الله عليه وسلم وفد طيء، وفيهم زيد
الخيل، وهو سيّدهم، فلما انتهوا إليه كلّموه، وعرض عليهم رسول الله صَلَّى الله
عليه وسلم الإسلام، فأسلموا فحسن إسلامهم، وقال رسول الله صَلَّى الله عليه وسلم،
كما حدثني من لا أتهم من رجال طيء: "ما
ذُكر رجل من العرب بفضل، ثم جاءني إلا رأيته دون ما يقال فيه، إلا زيد الخيل، فانه
لم يبلغ الذي فيه"،
ثم سماه رسول الله صَلَّى الله عليه وسلم: زيد الخير، وقطع له فيد وأرضين معه، وكتب
له بذلك، فخرج من عند رسول الله صَلَّى الله عليه وسلم راجعًا إلى قومه، فقال رسول
الله صَلَّى الله عليه وسلم: "إن
ينج زيد من حُمَّى المدينة"،
فانه قال: وقد سماها رسول الله صَلَّى الله عليه وسلم باسم غير الحمى وغير أم ملدم،
لم يثبته، قال: فلما انتهى من بلد نجد إلى ماء من مياهه، يقال له: فردة، أصابته
الحمى فمات بها، ولما أحس بالموت قال:
أمرٌ تحل قومي المشارقَ غَدْوةً وأُتركُ في بيتٍ بِفَرْدَةِ مُنجِدِ
أَلا رُبَّ يومٍ لو مرضتُ لعادنيِ عوائِدُ منْ لم يبر منهن يَجْهَدِ
قال: ولما مات، عمدت امرأته، بجهلها وقلة عقلها ودينها، إلى ما كان معه من الكتب
فحرقتها بالنار. قلت: وقد ثبت في الصحيح عن أبي سعيد، أن علي بن أبي طالب بعث إلى
رسول الله صَلَّى الله عليه وسلم من اليمن بذهبية في تربتها، فقسمها رسول الله
صَلَّى الله عليه وسلم بين أربعة: زيد الخيل، وعلقمة بن علاثة، والأقرع بن حابس،
وعتبة بن بدر.
قصة عدي بن حاتم الطائي:
قال البخاري في "الصحيح"وفد طيء، وحديث عدي بن حاتم": حدثنا موسى بن اسماعيل، حدثنا
أبو عوانة، حدثنا عبد الملك بن عمير، عن عمرو بن حريث، عن عدي بن حاتم، قال: أتينا
عمر بن الخطاب في وفد، فجعل يدعو رجلًا رجلًا يسميهم، فقلت: أما تعرفني يا أمير
المؤمنين؟ قال: بلى، أسلمت إذ كفروا، وأقبلت إذ أدبروا، ووفيت إذ غدروا، وعرفت إذ
أنكروا، فقال عدي: لا أبالي إذًا.
وقال ابن إسحاق:
وأما عدي بن حاتم فكان يقول فيما بلغني: ما رجل من العرب كان أشد كراهة لرسول الله
صَلَّى الله عليه وسلم، حين سمع به مني، أما أنا فكنت امرءًا شريفًا، وكنت
نصرانيًّا، وكنت أسير في قومي بالمرباع [أي: آخذ ربع الغنيمة، وكذلك كان يفعل
الرؤساء في الجاهلية]، وكنت في نفسي على دين، وكنت ملكًا في قومي لما كان يصنع بي،
فلما سمعت برسول الله صَلَّى الله عليه وسلم كرهته، فقلت لغلام كان لي عربي، وكان
راعيًّا لإبلي: لا أبالك، أعدد لي من إبلي أجمالًا ذللًا سمانًا، فاحتبسها قريبًا
مني، فإذا سمعت بجيش لمحمد قد وطئ هذه البلاد فآذني، ففعل، ثم إنه أتاني ذات غداة،
فقال: يا عدي؛ ما كنت صانعًا إذا غشيتك خيل محمد فاصنعه الآن؛ فإني قد رأيت رايات
فسألت عنها، فقالوا: هذه جيوش محمد، قال: قلت: فقرّب إلي أجمالي، فقربها، فاحتملت
بأهلي وولدي ثم قلت: ألحق بأهل ديني من النصارى بالشام، فسلكت الحوشية وخلفت بنتًا
لحاتم في الحاضر، فلما قدمت الشام أقمت بها، وتخالفني خيل رسول الله صَلَّى الله
عليه وسلم فتصيبت ابنة حاتم فيمن أصابت، فَقُدِم بها على رسول الله صَلَّى الله
عليه وسلم في سبايا من طيء، وقد بلغ رسول الله صَلَّى الله عليه وسلم هربي إلى
الشام.
قال:
فجعلت ابنة حاتم في حظيرة بباب المسجد، كانت السبايا تحبس بها، فمرَّ بها رسول الله
صَلَّى الله عليه وسلم، فقامت إليه، وكانت امرأة جزلة، فقالت: يا رسول الله، هلك
الوالد، وغاب الوافد، فامنن عليّ، منَّ الله عليك، قال: "ومن
وافدك؟"،
قالت: عدي بن حاتم، قال: "الفارّ
من الله ورسوله".
قالت: ثم مضى وتركني، حتى إذا كان الغد، مرَّ بي فقلت له مثل ذلك، وقال لي مثل ما
قال بالأمس، قالت: حتى إذا كان بعد الغد، مرَّ بي وقد يئست، فأشار إليّ رجل خلفه أن
قومي فكلميه، قالت: فقمت إليه، فقلت: يا رسول الله، هلك الوالد، وغاب الوافد، فامنن
عليّ، منَّ الله عليك، فقال صَلَّى الله عليه وسلم: "قد
فعلت، فلا تعجلي بخروج، حتى تجدي من قومك مَنْ يكون لك ثقة، حتى يبلغك إلى بلادك،
ثم آذنيني".
فسألت عن الرجل الذي أشار إلي: أن كلميه، فقيل لي: علي بن أبي طالب.
قالت:
فقمت حتى قدم من بلي أو قضاعة، قالت: وإنما أريد أن آتي أخي بالشام، فجئت فقلت: يا
رسول الله، قد قدم رهط من قومي، لي فيهم ثقة وبلاغ، قالت: فكساني، وحملني، وأعطاني
نفقة، فخرجت معهم حتى قدمت الشام، قال عدي: فوالله، إني لقاعد في أهلي، فنظرت إلى
ظعينة تصوب إلى قومنا، قال: فقلت ابنة حاتم، قال: فإذا هي هي، فلما وقفت علي استحلت
تقول: القاطع الظالم، احتملت بأهلك وولدك، وتركت بقية والدك عورتك!
قال:
قلت: أي أخية، لا تقولي إلا خيرًا، فوالله مالي من عذر، لقد صنعت ما ذكرت، قال: ثم
نزلت فأقامت عندي، فقلت لها، وكانت امرأة حازمة: ماذا ترين في أمر هذا الرجل؟
قالت:
أرى والله أن تلحق به سريعًا، فإن يكن الرجل نبيًّا فللسابق إليه فضله، وإن يكن
ملكًا فلن تزل في عز اليمن، وأنت أنت. قال: قلت: والله إن هذا الرأي.
قال:
فخرجت حتى أقدم على رسول الله صَلَّى الله عليه وسلم المدينة، فدخلت عليه وهو في
مسجده، فسلمت عليه، فقال: "مَن
الرجل؟" فقلت:
عدي بن حاتم، فقام رسول الله صَلَّى الله عليه وسلم، وانطلق بي إلى بيته، فوالله
إنه لعامد بي إليه، إذ لقيته امرأة ضعيفة كبيرة، فاستوقفته فوقف لها طويلًا، تكلمه
في حاجتها، قال: قلت في نفسي: والله ما هذا بملك،
قال:
ثم مضى بي رسول الله صَلَّى الله عليه وسلم، حتى إذا دخل بيته تناول وسادة من أدم
محشوة ليفًا، فقذفها إليّ فقال: "اجلس
على هذه"،
قال: قلت: بل أنت، فاجلس عليها،
قال: "بل
أنت"،
فجلست وجلس رسول الله صَلَّى الله عليه وسلم بالأرض، قال: قلت في نفسي: والله ما
هذا بأمر ملك، ثم قال: "إيه
يا عدي بن حاتم، ألم تك ركوسيًّا؟" [الركوسية:
دين بين النصارى والصابئين]، قال: قلت بلى، قال: "أو
لم تكن تسير في قومك بالمرباع؟"،
قال: قلت: بلى، قال: "فان
ذلك لم يكن يحل لك في دينك"،
قال: قلت: أجل والله، قال: وعرفت أنه نبي مرسل يَعلم ما يُجْهَل، ثم قال: "لعلك
يا عدي، إنما يمنعك من دخول في هذا الدين، ما ترى من حاجتهم، فوالله ليوشكن المال
أن يفيض فيهم، حتى لا يوجد من يأخذه، ولعلك إنما يمنعك من دخول فيه، ما ترى من كثرة
عدوهم، وقلة عددهم، فوالله ليوشكن أن تسمع بالمرأة تخرج من القادسية على بعيرها حتى
تزور هذا البيت لا تخاف، ولعلك إنما يمنعك من دخول فيه، إنك ترى أن الملك والسلطان
في غيرهم، وأيم الله ليوشكن أن تسمع بالقصور البيض من أرض بابل قد فتحت عليهم"،
قال: فأسلمت.
قال: فكان عدي يقول: مضت اثنتان، وبقيت الثالثة، والله لتكونن؛ وقد رأيت القصور
البيض من أرض بابل قد فتحت، ورأيت المرأة تخرج من القادسية على بعيرها لا تخاف حتى
تحج هذا البيت، وأيم الله لتكونن الثالثة، ليفيض المال حتى لا يوجد من يأخذه. هكذا
أورد ابن إسحاق رحمه الله هذا السياق بلا إسناد، وله شواهد من وجوه أخر، فقال
الإمام أحمد: حدثنا محمد بن جعفر، حدثنا شعبة، سمعت سماك بن حرب، سمعت عباد بن حبيش
يحدث عن عدي بن حاتم، قال: جاءت خيل رسول الله صَلَّى الله عليه وسلم وأنا بعقرب،
فأخذوا عمتي وناسًا، فلما أتوا بهم رسول الله صَلَّى الله عليه وسلم قال: فصفوا له،
قالت: يا رسول الله؛ بان الوافد، وانقطع الولد، وأنا عجوز كبيرة، ما بي من خدمة،
فمنّ عليّ، منَّ الله عليك. فقال: "ومن
وافدك؟"،
قالت: عدي بن حاتم، قال: "الذي
فرَّ من الله ورسوله"،
قالت: فمَنَّ عليّ.
فلما رجع، ورجل إلى جنبه ــ نرى أنه عليّ ــ قال: سليه حملانًا، قال: فسألته فأمر
لها، قال عدي: فأتتني فقالت: لقد فعلت فعلة ما كان أبوك يفعلها، وقالت: إيته راغبًا
أو راهبًا، فقد أتاه فلان فأصاب منه، وأتاه فلان فأصاب منه، قال: فأتيته فإذا عنده
امرأة وصبيان أو صبي، فذكر قربهم منه، فعرفت أنه ليس ملك كسرى ولا قيصر، فقال له: "يا
عدي بن حاتم، ما أفرك؟ أفرك أن يقال: لا إله إلا الله، فهل من إله إلا الله؟ ما
أفرك؟ أفرك أن يقال: الله أكبر، فهل شيء هو أكبر من الله عز وجل؟" فأسلمت
فرأيت وجهه استبشر، وقال: "إن
المغضوب عليهم: إليهود، وإن الضالين: النصارى"،
قال: ثم سألوه، فحمد الله وأثنى عليه، ثم قال: "أما
بعد؛ فلكم أيها الناس أن ترضخوا من الفضل ارتضخ امرؤ بصاع ببعض صاع بقبضة ببعض
قبضة"،
[الرضْخُ: العطية القليلة] قال شعبة: وأكثر علمي أنه قال: "بتمرة
بشق تمرة وإن أحدكم لاقى الله فقاتل ما أقول ألم أجعلك سميعًا بصيرًا، ألم أجعل لك
مالًا وولدًا، فماذا قدمت؟ فينظر من بين يديه ومن خلفه، وعن يمينه وعن شماله، فلا
يجد شيئًا، فما يتقي النار إلا بوجهه، فاتقوا النار ولو بشق تمرة، فان لم تجدوه
فبكلمة لينة. إني لا أخشى عليكم الفاقة، لينصرنكم الله، وليعطينكم أو ليفتحن عليكم،
حتى تسير الظعينة بين الحيرة ويثرب، إن أكثر ما يخاف السرق على ظعينتها".
وقد رواه الترمذي من حديث شعبة وعمرو بن أبي قيس، كلاهما عن سماك ثم قال: حسن غريب
لا نعرفه إلا من حديث سماك.
وقال الإمام أحمد أيضًا حدثنا يزيد، أنبأنا هشام بن حسان، عن محمد بن سيرين، عن أبي
عبيدة هو ابن حذيفة، عن رجل قال: قلت لعدي بن حاتم: حديث بلغني عنك أحب أن أسمعه
منك، قال: نعم؛ لما بلغني خروج رسول الله صَلَّى الله عليه وسلم، كرهت خروجه كراهية
شديدة، فخرجت حتى وقعت ناحية الروم، وفي رواية: حتى قدمت على قيصر، قال: فكرهت
مكاني ذلك أشد من كراهيتي لخروجه، قال: قلت: والله لو أتيت هذا الرجل، فإن كان
كاذبًا لم يضرني، وإن كان صادقًا علمت، قال: فقدمت فأتيته، فلما قدمت قال الناس:
عدي بن حاتم، فدخلت على رسول الله صَلَّى الله عليه وسلم، فقال لي: "يا
عدي بن حاتم، أسلم تسلم"،
ثلاثًا، قال: قلت: إني علي دين، قال: "أنا
أعلم بدينك منك"،
فقلت: أنت تعلم بديني مني؟! قال: "نعم؛
ألست من الركوسية، وأنت تأكل مرباع قومك"،
قلت: بلى، قال: "هذا
لا يحل لك في دينك"،
قال: نعم، فلم يعد أن قالها، فتواضعت لها، قال: "أما
أني أعلم الذي يمنعك من الاسلام؛ تقول: إنما اتبعه ضعفة الناس، ومَنْ لا قوة لهم،
وقد رمتهم العرب، أتعرف الحيرة؟"،
قلت: لم أرها، وقد سمعت بها، قال: "فوالذي
نفسي بيده، ليتمنّ الله هذا الأمر، حتى تخرج الظعينة من الحيرة حتى تطوف بالبيت في
غير جوار أحد، وليفتحن كنوز كسرى بن هرمز"،
قال: قلت: كسرى بن هرمز! قال: "نعم،
كسرى بن هرمز، وليبذلنّ المال، حتى لا يقبله أحد"،
قال عدي بن حاتم: فهذه الظعينة تأتي من الحيرة، تطوف بالبيت في غير جوار، ولقد كنت
فيمن فتح كنوز كسرى، والذي نفسي بيده لتكونن الثالثة؛ لأن رسول الله قد قالها.
ثم قال أحمد:
حدثنا يونس بن محمد، حدثنا حماد بن زيد، عن أيوب، عن محمد بن سيرين، عن أبي عبيدة
بن حذيفة، عن رجل، وقال حماد وهشام: عن محمد بن أبي عبيدة ولم يذكر عن رجل، قال:
كنت أسأل الناس عن حديث عدي بن حاتم، وهو إلى جنبي ولا أسأله، قال: فأتيته فسألته،
فقال: نعم، فذكر الحديث.
وقال الحافظ أبو بكر البيهقي: أنبانا أبو عمرو الأديب، أنبانا أبو بكر الإسماعيلي،
أخبرني الحسن بن سفيان، حدثنا إسحاق بن ابراهيم، أنبأنا النضر بن شميل، أنبأنا
إسرائيل، أنبأنا سعد الطائي، أنبأنا محل بن خليفة، عن عدي بن حاتم، قال: بينا أنا
عند النبي صّلَّى الله عليه وسلم، إذ أتاه رجل فشكى إليه الفاقة، وأتاه آخر فشكى
إليه قطع السبيل، قال: "يا
عدي بن حاتم، هل رأيت الحيرة؟"،
قلت: لم أرها، وقد أنبئت عنها، قال: "فإن
طالت بك حياة، لترين الظعينة ترتحل من الحيرة حتى تطوف بالكعبة، لا تخاف أحدًا إلا
الله عز وجل"،
قال: قلت في نفسي: فأين ذعار طيء، الذين سعروا البلاد؟ "ولئن
طالت بك حياة، لتفتحن كنوز كسرى بن هرمز"،
قلت: كسرى بن هرمز! قال: "كسرى
بن هرمز، ولئن طالت بك حياة، لترين الرجل يخرج بملء كفه من ذهب أو فضة، يطلب من
يقبله منه، فلا يجد أحدًا يقبله منه، وليلقين الله أحدكم يوم يلقاه، ليس بيه وبينه
ترجمان، فينظر عن يمينه فلا يرى إلا جهنم، وينظر عن شماله فلا يرى إلا جهنم".
قال عدي: سمعت رسول الله صَلَّى الله عليه وسلم يقول: "اتقوا
النار ولو بشق تمرة، فان لم تجدوا شق تمرة، فبكلمة طيبة"،
قال عدي: فقد رأيت الظعينة ترتحل من الكوفة حتى تطوف بالبيت لا تخاف إلا الله عز
وجل، وكنت فيمن افتتح كنوز كسرى بن هرمز، ولئن طالت بكم حياة، سترون ما قال أبو
القاسم صَلَّى الله عليه وسلم، وقد رواه البخاري عن محمد بن الحكم، عن النضر بن
شميل به بطوله.
وقد رواه من وجه آخر عن سعدان بن بشر، عن سعد أبي مجاهد الطائي، عن محل بن خليفة،
عن عدى به، ورواه الإمام أحمد والنسائى من حديث شعبة، عن سعد أبى مجاهد الطائى به،
وممن روى هذه القصة عن عدي عامر بن شرحبيل الشعبي، فذكر نحوه وقال: "لا
تخاف إلا الله، والذئب على غنمها".
وثبت في صحيح البخاري من حديث شعبة، وعند مسلم من حديث زهير بن معاوية، كلاهما عن
أبي إسحاق، عن عبد الله بن معقل بن مقرن المزني، عن عدي بن حاتم، قال: قال رسول
الله صَلَّى الله عليه وسلم: "اتقوا
النار ولو بشق تمرة"،
ولفظ مسلم: "من
استطاع منكم أن يستتر من النار ولو بشق تمرة، فليفعل"،
طريق أخرى فيها شاهد لما تقدم.
وقد قال الحافظ البيهقي: أنبأنا أبو عبد الله الحافظ، حدثني أبو بكر بن محمد بن عبد
الله بن يوسف، حدثنا أبو سعيد عبيد بن كثير بن عبد الواحد الكوفي، حدثنا ضرار بن
صرد، حدثنا عاصم بن حميد، عن أبي حمزة الثمالي، عن عبد الرحمن بن جندب، عن كميل بن
زياد النخعي، قال: قال عليّ بن أبي طالب: يا سبحان الله، ما أزهد كثيرًا من الناس
في خير، عجبًا لرجل يجيئه أخوه المسلم في الحاجة فلا يرى نفسه للخير أهلًا، فلو كان
لا يرجو ثوابًا ولا يخشى عقابًا، لكان ينبغي له أن يسارع في مكارم الأخلاق؛ فإنها
تدل على سبيل النجاح.
فقام إليه رجل فقال: فداك أبي وأمي يا أمير المؤمنين، سمعته من رسول الله صَلَّى
الله عليه وسلم؟ قال: نعم، وما هو خير منه؛ لما أُتي بسبايا طيء، وقفت جارية؛
حمراء، لعساء، دلفاء، عيطاء، شماء الأنف، معتدلة القامة والهامة، درماء الكعبين،
خدلة الساقين، لفاء الفخذين، خميصة الخصرين، ضامرة الكشحين، مصقولة المتنين، قال:
فلما رأيتها أعجبت بها، وقلت: لأطلبن إلى رسول الله صَلَّى الله عليه وسلم يجعلها
في فيئي، فلما تكلمت أنسيت جمالها من فصاحتها، فقالت: يا محمد؛ إن رأيت أن تخلي
عنا، ولا تشمت بنا أحياء العرب، فإني ابنة سيّد قومي، وإن أبي كان يحمي الذمار،
ويفك العاني، ويشبع الجائع، ويكسو العاري، ويقري الضيف، ويطعم الطعام، ويفش السلام،
ولم يرد طالب حاجة قط، أنا انا ابنة حاتم طيء.
فقال رسول الله صَلَّى الله عليه وسلم: "يا
جارية، هذه صفة المؤمنين حقًّا، لو كان أبوك مسلما لترحمنا عليه، خلّوا عنها، فإن
أباها كان يحب مكارم الاخلاق، والله يحب مكارم الاخلاق".
فقام أبو بردة بن نيار، فقال: يا رسول الله تحب مكارم الاخلاق؟ فقال رسول الله
صَلَّى الله عليه وسلم: "والذي
نفسي بيده، لا يدخل أحد الجنة إلا بحسن الخلق".
هذا حديث حسن المتن، غريب الإسناد جدًا، عزيز المخرج.
قال البخاري رحمه الله: قصة دوس، والطفيل بن عمرو:
حدثنا أبو نعيم، حدثنا سفيان عن ابن ذكوان، هو عبد الله بن زياد، عن عبد الرحمن
الأعرج، عن أبي هريرة، قال: جاء الطفيل بن عمرو إلى رسول الله صَلَّى الله عليه
وسلم، فقال: إن دوسًا قد هلكت، وعصت، وأبت، فادع الله عليهم، فقال رسول الله صَلَّى
الله عليه وسلم: "اللهم
أهد دوسًا، وأت بهم".
انفرد به البخاري من هذا الوجه، ثم قال: حدثنا محمد بن العلاء، حدثنا أبو أسامة،
حدثنا إسماعيل، عن قيس، عن أبي هريرة، قال: لما قدمت على النبي صَلَّى الله عليه
وسلم، قلت في الطريق:
يا ليلة مِن طولِهَا وَعَنائِهَا... على أنها مِنْ دَارَةِ الكُفرِ نَجَّتِ وأبق لي
غلام في الطريق، فلما قدمت على النبي صَلَّى الله عليه وسلم وبايعته، فبينا أنا
عنده، إذ طلع الغلام، فقال لي النبي صَلَّى الله عليه وسلم: "يا
أبا هريرة، هذا غلامك" فقلت:
هو حر لوجه الله عز وجل، فأعتقته. انفرد به البخاري من حديث إسماعيل بن أبي خالد،
عن قيس بن أبي حازم، وهذا الذي ذكره البخاري من قدوم الطفيل بن عمرو فقد كان قبل
الهجرة، ثم إن قدر قدومه بعد الهجرة فقد كان قبل الفتح، لأن دوسًا قدموا ومعهم أبو
هريرة، وكان قدوم أبي هريرة ورسول الله صَلَّى الله عليه وسلم محاصر خيبر، ثم ارتحل
أبو هريرة حتى قدم على رسول الله صَلَّى الله عليه وسلم خيبر بعد الفتح، فرضخ لهم
شيئًا من الغنيمة.
قال البخاري رحمه الله: قدوم الأشعريين، وأهل اليمن:
ثم روى من حديث شعبة، عن سليمان بن مهران الأعمش، عن ذكوان أبي صالح السمان، عن أبي
هريرة، عن النبي صَلَّى الله عليه وسلم، قال: "أتاكم
أهل اليمن؛ هم أرق أفئدة، وألين قلوبًا، الإيمان يمان، والحكمة يمانية، والفخر
والخيلاء في أصحاب الإبل، والسكينة والوقار في أهل الغنم".
ورواه مسلم من حديث شعبة، ثم رواه البخاري عن أبي اليمان، عن شعيب، عن أبي الزناد،
عن الأعرج، عن أبي هريرة، عن النبي صَلَّى الله عليه وسلم، قال: "أتاكم
أهل اليمن؛ أضعف قلوبًا، وأرق أفئدة، الفقة يمان، والحكمة يمانية".
ثم روي عن اسماعيل، عن سليمان، عن ثور، عن أبي المغيث، عن أبي هريرة، أن رسول الله
صَلَّى الله عليه وسلم قال: "الإيمان
يمان، والفتنة هاهنا يطلع قرن الشيطان".
ورواه مسلم عن شعيب، عن الزهري، عن سعيد بن المسيّب، عن أبي هريرة، ثم روى البخاري
من حديث شعبة، عن إسماعيل، عن قيس، عن أبي مسعود، أن رسول الله صَلَّى الله عليه
وسلم قال: "الإيمان
هاهنا"،
وأشار بيده إلى اليمن، "والجفاء
وغلظ القلوب في الفدادين عند أصول أذناب الإبل، من حيث يطلع قرنا الشيطان ربيعة
ومضر".
وهكذا رواه البخاري أيضًا، ومسلم من حديث إسماعيل بن أبي خالد، عن قيس بن أبي حازم،
عن أبي مسعود عقبة بن عمرو.
ثم روى من حديث سفيان الثوري، عن أبي صخرة جامع بن شداد، حدثنا صفوان بن محرز، عن
عمران بن حصين، قال: جاءت بنو تميم إلى رسول الله صَلَّى الله عليه وسلم، فقال: "أبشروا
يا بني تميم"،
فقالوا: أما إذ بشرتنا فأعطنا، فتغير وجه رسول الله صَلَّى الله عليه وسلم، فجاء
ناس من أهل اليمن، فقال: "اقبلوا
البشرى إذ لم يقبلها بنو تميم"،
فقالوا: قبلنا يا رسول الله، وقد رواه الترمذي والنسائي من حديث الثوري به.
وهذا كله مما يدل على فضل وفود أهل اليمن، وليس فيه تعرض لوقت وفودهم، ووفد بني
تميم وإن كان متأخرًا قدومهم لا يلزم من هذا أن يكون مقارنًا لقدوم الأشعريين، بل
الأشعريين متقدم وفدهم على هذا، فإنهم قدموا صحبة أبي موسى الأشعري في صحبة جعفر بن
أبي طالب، وأصحابه من المهاجرين الذين كانوا بالحبشة، وذلك كله حين فتح رسول الله
صَلَّى الله عليه وسلم خيبر، وتقدم قوله صَلَّى الله عليه وسلم: "والله،
ما أدري بأيهما أسر: أبقدوم جعفر أو بفتح خيبر؟"،
والله سبحانه وتعإلى أعلم.
قال البخاري: قصة عُمان، والبحرين:
حدثنا قتيبة بن سعيد، حدثنا سفيان، سمع محمد بن المنكدر، سمع جابر بن عبد الله
يقول: قال لي رسول الله صَلَّى الله عليه وسلم: "لو
قد جاء مال البحرين، لقد أعطيتك هكذا وهكذا وهكذا" ثلاثًا،
فلم يقدم مال البحرين حتى قبض رسول الله صَلَّى الله عليه وسلم، فلما قدم على أبي
بكر أمر مناديًا فنادى: من كان له عند النبي صَلَّى الله عليه وسلم دين أو عدة
فليأتني. قال جابر: فجئت أبا بكر فأخبرته أن رسول الله صَلَّى الله عليه وسلم قال: "لو
قد جاء مال البحرين أعطيتك هكذا وهكذا" ثلاثًا،
قال: فأعرض عني، قال جابر: فلقيت أبا بكر بعد ذلك فسألته، فلم يعطني، ثم أتيته فلم
يعطني، ثم أتيته الثالثة فلم يعطني، فقلت له: قد أتيتك فلم تعطني، ثم أتيتك فلم
تعطني، فإما أن تعطني وإما أن تبخل عني، قال: قلت: تبخل عني، قال: وأي داء أدوأ من
البخل؟ قالها ثلاثًا، ما منعتك من مرة إلا وأنا أريد أن أعطيك. وهكذا رواه البخاري
هاهنا.
وقد رواه مسلم عن عمرو الناقد، عن سفيان بن عيينة به، ثم قال البخاري بعده: وعن
عمرو، عن محمد بن علي، سمعت جابر بن عبد لله يقول: جئته، فقال لي أبو بكر: عدّها
فعددتها، فوجدتها خمسمائة، فقال: خذ مثلها مرتين، وقد رواه البخاري أيضًا عن علي بن
المديني، عن سفيان هو ابن عيينة، عن عمرو بن دينار، عن محمد بن علي أبي جعفر
الباقر، عن جابر كروايته له، عن قتيبة، ورواه أيضًا هو ومسلم من طرق أخر عن سفيان
بن عيينة، عن عمرو، عن محمد بن علي، عن جابر بنحوه، وفي رواية أخرى له، أنه أمره،
فحثى بيديه من دراهم فعدّها، فإذا هي خمسمائة، فأضعفها له مرتين، يعني: فكان جملة
ما أعطاه ألفًا وخمسمائة درهم.
وفود فروة بن مسيك المرادي إلى رسول الله صَلَّى الله عليه وسلم:
قال ابن إسحاق: وقدم فروة بن مسيك المرادي، مفارقًا لملوك كندة ومباعدًا لهم، إلى
رسول الله صَلَّى الله عليه وسلم، وقد كان بين قومه مراد وبين همدان وقعة قبيل
الاسلام، أصابت همدان من قومه حتى أثخنوهم، وكان ذلك في يوم يقال له: الردم، وكان
الذي قاد همدان إليهم الأجدع بن مالك، قال ابن هشام: ويقال: مالك بن خريم الهمداني،
قال ابن إسحاق: فقال فروة بن مسيك في ذلك اليوم:
مررن على لفات وهن خَوْصَ ينازعن الأعنة ينتحينا فإن نغلب فغلابون قدمًا وإن نغلب
فغير مغلبينا وما إن طبنا جبن ولكن منايانا وطعمة آخرينا كذاك الدهر دولته سجال تكز
صروفه حينًا فحينَا فبينا ما نسر به ونرضى ولو لبست غضارته سنينا إذا انقلبت
به كرات دهر فألفى في الإلى غبطوا طحينا فمن يغبط بريب الدهر منهم يجد ريب الزمان
له خؤنا فلو خلد الملوك إذا خلدنا ولو بقي الكرامُ إذا بقينا فأفنى ذلكم سَرَواتِ
قومي كما أفنى القرونَ الأولينا
قال ابن إسحاق: ولما توجه فروة بن مسيك إلى رسول الله صَلَّى الله عليه وسلم،
مفارقًا ملوك كندة، قال:
لما رأيتُ ملوكَ كندةَ أعرضتْ كالرجلِ خانَ الرجلَ عِرْقُ نسائِها قربتُ راحلتي أؤم
محمدًا أرجو فواضِلَهَا وحسنَ ثرائِها
قال: فلما انتهى فروة إلى رسول الله صَلَّى الله عليه وسلم، قال له فيما بلغني: "يا
فروة، هل ساءك ما أصاب قومك يوم الردم؟"،
فقال: يا رسول الله؛ من ذا الذي يصيب قومه ما أصاب قومي يوم الردم لا يسوءه ذلك؟
فقال له رسول الله صَلَّى الله عليه وسلم: "أما
إن ذلك لم يزد قومك في الاسلام إلا خيرًا".
واستعمله على مراد وزبيد ومذحج كلها، وبعث معه خالد بن سعيد بن العاص على الصدقة،
فكان معه في بلاده حتى تُوفي رسول الله صَلَّى الله عليه وسلم.
قدوم عمرو بن معديكرب في أناس من زبيد:
قال ابن إسحاق: وقد كان عمرو بن معديكرب قال لقيس بن مكشوح المرادي، حين انتهى
إليهم أمر رسول الله صَلَّى الله عليه وسلم: يا قيس؛ إنك سيد قومك، وقد ذكر لنا أن
رجلًا من قريش، يقال له: محمد، قد خرج بالحجاز، يقال إنه نبي، فانطلق بنا إليه حتى
نعلم علمه، فإن كان نبيًّا كما تقول فإنه لن يخفى علينا، إذا لقيناه اتبعناه، وإن
كان غير ذلك علمنا علمه، فأبى عليه قيس ذلك، وسفّه رأيه.
فركب عمرو بن معديكرب حتى قدم على رسول الله صَلَّى الله عليه وسلم، فأسلم وصدقه
وآمن به، فلما بلغ ذلك قيس بن مكشوح أوعد عمرًا، وقال: خالفني وترك أمرئ ورائي.
فقال عمرو بن معديكرب في ذلك:
أمرتك يوم ذي صنعــ ــاء أمرا باديا رشده
امرتك باتقاء الله وا لمعروف تتعده
خرجت من المنى مثل الحمير
غره وتده تمناني على فرس عليه جالسا أسده علي مفاضة كالنهي أخلص ماءه جدده
ترد الرمح منثني الـــ سنان عوائرًا قصده فلو لاقيتني للقيــ ت ليثًا فوقه لبده
تلاقي شنبثًا شثن الـــ براثن ناشرًا كتده
يسامي القرن إن قرن تيممه فيعتضده فيأخذه فيرفعه فيخفضه فيقتصده فَيدفعه فيحطمه
فَيَخمِضُه فَيزدَرِدُه
ظلومُ الشركِ فيما أَحــ رزَتْ أنيابُه ويدُه
قال ابن إسحاق: فأقام عمرو بن معديكرب في قومه من بني زبيد، وعليهم فروة بن مسيك،
فلما تُوفي رسول الله صَلَّى الله عليه وسلم ارتد عمرو بن معديكرب فيمن ارتد، وهجا
فروة بن مسيك، فقال:
وجدنا مُلْكَ فَروةَ شَرَّ مُلك حِمار سَاف منخره بثغر وكنتَ إذا رأيت أبا عمير ترى
الحولاء من خُبث وغدر
قلت: ثم رجع إلى الإسلام وحسن إسلامه، وشهد فتوحات كثيرة في أيام الصديق وعمر
الفاروق رضي الله عنهما، وكان من الشجعان المذكورين، والأبطال المشهورين، والشعراء
المجيدين، توفي سنة إحدى وعشرين، بعد ما شهد فتح نهاوند، وقيل: بل شهد القادسية
وقتل يومئذ، قال أبو عمر بن عبد البر: وكان وفوده إلى رسول الله صَلَّى الله عليه
وسلم سنة تسع، وقيل: سنة عشر، فيما ذكره ابن إسحاق والواقدي، قلت: وفي كلام الشافعي
ما يدل عليه، فالله أعلم.
قال يونس عن ابن إسحاق، وقد قيل: إن عمرو بن معديكرب لم يأت النبي صَلَّى الله عليه
وسلم، وقد قال في ذلك:
إنني بالنبي موقنة نفسي وإن لم أر النبي عيانا سيدُ العالمين طُرًا وأدنا هم إلى
الله حين بان مكانا جاء بالناموس من لدن الله و كان الأمين فيه المُعَانَا
حكمة بعد حكمة وضياء فاهتدينا بنورها من عمانا وركبنا السبيل حين ركبنــ ــاه جديدا
بكرهنا ورضانا وعبدنا الإله حقًّاوكنا للجهالات نعبد الأوثانا
وائتلفنا به وكنا عدوًا فرجعنا به معا إخوانا فعليه السلام والسلام منا حيث كنا من
البلاد وكانا إن نكن لم نر النبي فإنا قد تبعنا سبيله إيمانا
قدوم الأشعث بن قيس في وفد كندة:
قال ابن إسحاق: وقدم على رسول الله صَلَّى الله عليه وسلم الأشعث بن قيس في وفد
كندة، فحدثني الزهري أنه قدم في ثمانين راكبًا من كندة، فدخلوا على رسول الله
صَلَّى الله عليه وسلم مسجده قد رجَّلوا جممهم [رجَّلوا، أي: مشطوا، الجمم: جمع
جمعة، وهي: مجتمع شعر مقدم الرأس]، وتكحلوا، عليهم جبب الحبرة قد كففوها بالحرير،
فلما دخلوا على رسول الله صَلَّى الله عليه وسلم، قال لهم: "ألم
تسلموا؟"،
قالوا: بلى، قال: "فما
بال هذا الحرير في أعناقكم؟!"،
قال: فشقوه منها فألقوه، ثم قال له الأشعث بن قيس: يا رسول الله، نحن بنو آكل
المرار، وأنت ابن آكل المرار، قال: فتبسم رسول الله صَلَّى الله عليه وسلم، وقال: "ناسبوا
بهذا النسب العباس بن عبد المطلب، وربيعة بن الحارث".
وكانا تاجرين إذ شاعا في العرب، فسئلا ممن أنتما؟ قالا: نحن بنوآ كل المرار، يعني:
ينسبان إلى كندة، ليعزا في تلك البلاد؛ لأن كندة كانوا ملوكًا، فاعتقدت كندة أن
قريشًا منهم، لقول عباس وربيعة: نحن بنو آكل المرار، وهو الحارث بن عمرو بن معاوية
بن الحارث بن معاوية بن ثور بن مرتع بن معاوية بن كندي، ويقال: ابن كندة، ثم قال
رسول الله صَلَّى الله عليه وسلم لهم: "لا،
نحن بنو النضر بن كنانة، لا نقفوا أمنا، ولا ننتفي من أبينا"،
فقال لهم الأشعث بن قيس: والله يا معشر كندة، لا أسمع رجلًا يقولها إلا ضربته
بثمانين.
وقد رُوى هذا الحديث متصلًا من وجه آخر، فقال الإمام أحمد: حدثنا بهز وعفان، قالا:
حدثنا حماد بن سلمة، حدثني عقيل بن طلحة، وقال عفان في حديثه: أنبأنا عقيل بن طلحة
السلمي، عن مسلم بن هيضم، عن الأشعث بن قيس، أنه قال: أتيت رسول الله صَلَّى الله
عليه وسلم في وفد كندة، قال عفان: لا يروني أفضلهم، قال: قلت: يا رسول الله، أنا
ابن عم إنكم منا، قال: فقال رسول الله صَلَّى الله عليه وسلم: "نحن
بنو النضر بن كنانة، لا نفقوا أمنا، ولا ننتفي من أبينا"،
قال: وقال الأشعث: فوالله لا أسمع أحدًا نفى قريشًا من النضر بن كنانة إلا جلدته
الحدّ، وقد رواه ابن ماجه عن أبي بكر بن أبي شيبة، عن يزيد بن هارون، وعن محمد بن
يحيى، عن سليمان بن حرب، وعن هارون بن حيان، عن عبد العزيز بن المغيرة، ثلاثتهم عن
حماد بن سلمة به نحوه.
وقال الإمام أحمد: حدثنا سريج بن النعمان، حدثنا هشيم، أنبأنا مجالد، عن الشعبي،
حدثنا الأشعث بن قيس، قال: قدمت على رسول الله صَلَّى الله عليه وسلم في وفد كندة
فقال لي: "هل
لك من ولد؟"،
قلت: غلام ولد لي في مخرجي إليك، من ابنة جمد، ولوددت أن مكانه شبع القوم، قال: "لا
تقولن ذلك، فإن فيهم قرة عين وأجرًا إذا قبضوا، ثم لئن قلت ذاك إنهم لمجبنة محزنة،
إنهم لمجنبة محزنة".
تفرد به أحمد، وهو حديث حسن جيد الإسناد.
قدوم أعشى بن مازن على النبي صَلَّى الله عليه وسلم:
قال عبد الله بن الإمام أحمد: حدثني العباس بن عبد العظيم العنبري، حدثنا أبو سلمة
عبيد بن عبد الرحمن الحنفي، قال: حدثني الجنيد بن أمين بن ذروة بن نضلة بن طريف بن
نهصل الحرمازي، حدثني أبي أمين عن أبيه ذروة عن أبيه نضلة، أن رجلًا منهم، يقال له:
الأعشى، واسمه عبد الله الأعور كانت عنده امرأة يقال: لها معاذة، خرج في رجب يمير
أهله [أي: يأتي لهم بطعام] من هجر، فهربت امرأته بعده ناشزًا عليه، فعاذت برجل
منهم، يقال له: مطرف بن نهشل بن كعب بن قميثع بن ذلف بن أهضم بن عبد الله بن
الحرماز، فجعلها خلف ظهره، فلما قدم لم يجدها في بيته، وأُخبر أنها نشزت عليه،
وأنها عاذت بمطرف بن نهشل، فأتاه، فقال: يا ابن عم، أعندك امرأتي معاذة؟ فادفعها
إلي. قال: ليست عندي، ولو كانت عندي لم أدفعها إليك.
قال: وكان مطرف أعزّ منه، قال: فخرج الأعشى حتى أتى النبي صَلَّى الله عليه وسلم
فعاذ به، فأنشأ يقول:
يا سيّدَ النّاسِ وديانَ العربْ إليكَ أشكُو ذُرِبَةً من الذُرَبْ كالذئبَةِ
العَنْسَاءِ في ظِلّ السربْ خرجتُ أبغيها الطعامَ في رجبْ فخلفتني بنزاع
وهَرَبْ أَخْلَفتِ الوَعدَ وَلَطَّت بالذنَبْ وقَذَفَتْني بين عصر مُؤْتشَبْ
وَهُنَّ شَرُ غالبٍ لمن غَلبْ
فقال النبي صَلَّى الله عليه وسلم عند ذلك: "وهن
شر غالب لمن غلب"،
فشكى إليه امرأته وما صنعت به، وأنها عند رجل منهم، يقال له: مطرف بن نهشل، فكتب له
النبي صَلَّى الله عليه وسلم إلى مطرف: "انظر
امرأة هذا، معاذة، فادفعها إليه"،
فأتاه كتاب النبي صَلَّى الله عليه وسلم فقُرئ عليه، فقال لها: يا معاذة، هذا كتاب
النبي صَلَّى الله عليه وسلم فيك، فأنا دافعك إليه، فقالت: خذ لي عليه العهد
والميثاق، وذمة نبيه، أن لا يعاقبني فيما صنعت، فأخذ لها ذلك عليه، ودفعها مطرف
إليه، فأنشأ يقول:
لعمرك ما حبي معاذة بالذي يغيره الواشي ولا قدم العهد
ولا سوء ما جاءت به إذ أزالها غواة الرجال إذ يناجونها بعدي
قدوم صرد بن عبد الله الأزدي، في نفر من قومه، ثم وفود أهل جرش
بعدهم:
قال ابن إسحاق: وقدم صرد بن عبد الله الأزدي على رسول الله صَلَّى الله عليه وسلم
في وفد من الأزد، فأسلم وحسن إسلامه، وأمّره رسول الله صَلَّى الله عليه وسلم على
من أسلم من قومه، وأمَرَه أن يجاهد بمن أسلم من يليه من أهل الشرك، من قبائل اليمن،
فذهب فحاصر جرش، وبها قبائل من اليمن، وقد صوت إليهم خثعم حين سمعوا بمسيره إليهم،
فأقام عليهم قريبًا من شهر، فامتنعوا فيها منه، ثم رجع عنهم حتى إذا كان قريبًا من
جبل، يقال له: شكر، فظنوا أنه قد ولّى عنهم منهزمًا، فخرجوا في طلبه، فعطف عليهم
فقتلهم قتلًا شديدًا.
وقد كان أهل جرش بعثوا منهم رجلين إلى رسول الله صَلَّى الله عليه وسلم إلى
المدينة، فبينما هم عنده بعد العصر إذ قال: "بأي
بلاد الله شكر؟"،
فقام الجرشيان فقالا: يا رسول الله، ببلادنا جبل يقال له: كشر، وكذلك تسميه أهل
جرش، فقال: "إنه
ليس بكشر ولكنه شكر"،
قالا: فما شأنه يا رسول الله؟ فقال: "إن
بدن الله لتنحر عنده الآن"،
قال: فجلس الرجلان إلى أبي بكر أو إلى عثمان، فقال لهما: ويحكما إن رسول الله
صَلَّى الله عليه وسلم الآن لينعى إليكما قومكما، فقوما إليه، فاسألاه أن يدعو الله
فيرفع عن قومكما، فقاما إليه فسألاه ذلك، فقال: "اللهم
ارفع عنهم"،
فرجعا، فوجدا قومهما قد أصيبوا يوم أخبر عنهم رسول الله صَلَّى الله عليه وسلم،
وجاء وفد أهل جرش بمن بقي منهم، حتى قدموا على رسول الله صَلَّى الله عليه وسلم،
فأسلموا وحسن إسلامهم، وحمى لهم حول قريتهم.
قدوم رسول ملوك حمير إلى رسول الله صَلَّى الله عليه وسلم:
قال الواقدي: وكان ذلك في رمضان سنة تسع، قال ابن إسحاق: وقدم على رسول الله كتاب
ملوك حمير ورسلهم بإسلامهم، مقدمه من تبوك، وهم: الحارث بن عبد كلال، ونعيم بن عبد
كلال، والنعمان، قيل: ذي رعين، ومعافر، وهمدان، وبعث إليه زرعة ذو يزن مالك بن مرة
الرهاوي بإسلامهم، ومفارقتهم الشرك وأهله، فكتب إليهم رسول الله صَلَّى الله عليه
وسلم:
"بِسْمِ
اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ، من
محمد رسول الله النبي إلى: الحارث بن عبد كلال، ونعيم بن عبد كلال، والنعمان، قيل:
ذي رعين، ومعافر، وهمدان، أما بعد ذلكم؛ فإني أحمد إليكم الله، الذي لا إله إلا هو،
فإنه قد وقع نبأ رسولكم منقلبنا من أرض الروم، فلقينا بالمدينة، فبلغ ما أرسلتم به،
وخبرنا ما قبلكم، وأنبأنا بإسلامكم، وقتلكم المشركين، وأن الله قد هداكم بهداه، إن
أصلحتم، وأطعتم الله ورسوله، وأقمتم الصلاة، وآتيتم الزكاة، وأعطيتم من المغانم خمس
الله وسهم النبي صَلَّى الله عليه وسلم وصفيه، وما كتب على المؤمنين في الصدقة من
العقار عشر ما سقت العين وسقت السماء، وعلى ما سقي الغرب نصف العشر. وأن في الإبل
في الأربعين ابنة لبون، وفي ثلاثين من الإبل ابن لبون ذكر، وفي كل خمس من الإبل
شاة، وفي كل عشر من الإبل شاتان، وفي كل أربعين من البقر بقرة، وفي كل ثلاثين تبيع
جذع أو جذعة، وفي كل أربعين من الغنم سائمة وحدها شاة، وإنها فريضة الله التي فرض
على المؤمنين في الصدقة، فمن زاد خيرًا فهو خير له، ومن أدى ذلك وأشهد على إسلامه،
وظاهر المؤمنين على المشركين، فإنه من المؤمنين، له ما لهم، وعليه ما عليهم، وله
ذمة الله وذمة رسوله. وإنه من أسلم من يهودي أو نصراني فإنه من المؤمنين، له ما لهم
وعليه ما عليهم، ومن كان على يهوديته أو نصرانيته فإنه لا يرد عنها، وعليه الجزية،
على كل حالم ذكر وأنثى حر أو عبد، دينار واف من قيمة المعافري أو عرضه ثيابًا، فمن
أدى ذلك إلى رسول الله فإن له ذمة الله وذمة رسوله، ومن منعه فإنه عدو لله ولرسوله.
أما بعد؛ فإن رسول الله محمدًا النبي أرسل إلى زرعة ذي يزن أن إذ أتاك رسلي،
فأوصيكم بهم خيرًا: معاذ بن جبل، وعبد الله بن زيد، ومالك بن عبادة، وعقبة بن نمر،
ومالك بن مرة، وأصحابهم، وأن اجمعوا ما عندكم من الصدقة، والجزية من مخالفيكم،
وأبلغوها رسلي، وإن أميرهم معاذ بن جبل، فلا ينقلبن إلا راضيًا.
أما بعد؛ فإن محمدًا يشهد أن لا إله إلا الله، وأنه عبده ورسوله، ثم أن مالك بن مرة
الرهاوي قد حدثني أنك أسلمت من أول حمير، وقتلت المشركين، فأبشر بخير، وآمرك بحمير
خيرًا، ولا تخونوا، ولا تخاذلوا، فإن رسول الله هو مولى غنيكم وفقيركم، وأن الصدقة
لا تحل لمحمد، ولا لأهل بيته، وإنما هي زكاة يزكى بها على فقراء المسلمين، وابن
السبيل. وإن مالكًا قد بلغ الخبر، وحفظ الغيب، فآمركم به خيرًا، وأني قد أرسلت
إليكم من صالحي أهلي، وأولي دينهم، وأولي علمهم، فآمركم بهم خيرًا، فإنهم منظور
إليهم، والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته".
وقد قال الإمام أحمد: حدثنا حسن، حدثنا عمارة، عن ثابت، عن أنس بن مالك، أن مالك ذي
يزن أهدى إلى رسول الله صَلَّى الله عليه وسلم حلة، قد أخذها بثلاثة وثلاثين بعيرًا
وثلاثة وثلاثين ناقة، ورواه أبو داود عن عمرو بن عون الواسطي، عن عمارة بن زاذان
الصيدلاني، عن ثابت البناني، عن أنس به.
وقد رواه الحافظ البيهقي ها هنا ــ حديث كتاب عمرو بن حزم، فقال: أنبأنا أبو عبد
الله الحافظ، أنبأنا أبو العباس الأصم، حدثنا أحمد بن عبد الجبار، حدثنا يونس بن
بكير، عن محمد بن إسحاق، حدثني عبد الله بن أبي بكر، عن أبيه، عن أبي بكر بن محمد
بن عمرو بن حزم، قال: هذا كتاب رسول الله صَلَّى الله عليه وسلم عندنا، الذي كتبه
لعمرو بن حزم، حين بعثه إلى اليمن، يفقه أهلها، ويعلمهم السنة، ويأخذ صدقاتهم، فكتب
له كتابًا، وعهدًا، وأمره فيه أمره، فكتب: "بِسْمِ
اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ، هذا
كتاب من الله ورسوله؛ يأيها الذين آمنو أوفوا بالعقود عهدًا من رسول الله لعمرو بن
حزم، حين بعثه إلى اليمن، أمره بتقوى الله في أمره كله، فان الله مع الذين اتقوه،
والذين هم محسنون. وأمره أن يأخذ بالحق كما أمره الله، وأن يبشر الناس بالخير،
ويأمرهم به، ويعلم الناس القرآن، ويفقههم في الدين. وأن ينهى الناس، فلا يمس أحد
القرآن إلا وهو طاهر، وأن يخبر الناس بالذي لهم والذي عليهم، ويلين لهم في الحق،
ويشتد عليهم في الظلم، فإن الله حرَّم الظلم، ونهى عنه، فقال": {أَلَا
لَعْنَةُ اللهِ عَلَى الظَّالِمِينَ. الَّذِينَ يَصُدُّونَ عَن سَبِيلِ اللهِ} [هود:
18 ــ 19]، "وأن
يبشر الناس بالجنّة وبعملها، وينذر الناس النار وعملها، ويستألف الناس حتى يتفقهوا
في الدين، ويعلم الناس معالم الحج وسننه وفرائضه، وما أمره الله به، والحج الأكبر:
الحج، والحج الأصغر: العمرة.
وأن ينهى الناس أن يصلي الرجل في ثوب واحد، ويفضي بفرجه إلى السماء، ولا ينقض شعر
رأسه إذا عفى في قفاه، وينهى الناس إن كان بينهم هيج أن يدعو إلى القبائل والعشائر،
وليكن دعاؤهم إلى الله وحده لا شريك له. فمن لم يدع إلى الله ودعى إلى العشائر
والقبائل، فليعطفوا بالسيف، حتى يكون دعاؤهم إلى الله وحده لا شريك له. ويأمر الناس
بإسباغ الوضوء: وجوههم، وأيديهم إلى المرافق، وأرجلهم إلى الكعبين، وأن يمسحوا
رؤوسهم كما أمرهم الله عز وجل، وأمروا بالصلاة لوقتها، وإتمام الركوع والسجود. وأن
يغلس الصبح، وأن يهجر بالهاجرة حتى تميل الشمس، وصلاة العصر والشمس في الأرض مبدرة،
والمغرب حين يقبل الليل، لا تؤخر حتى تبدو النجوم في السماء، والعشاء أول الليل.
وأمره أن يأخذ من المغانم خمس الله، ما كتب على المؤمنين من الصدقة من العقار، فيما
سقى المغل وفيما سقت السماء العشر، وما سقى الغرب فنصف العشر، وفي كل عشر من الإبل
شاتان، وفي عشرين أربع شياه، وفي أربعين من البقر بقرة، وفي كل ثلاثين من البقر
تبيع أو تبيعة جذع أو جذعة، وفي كل أربعين من الغنم سائمة وحدها شاة، فإنها فريضة
الله التي افترض على المؤمنين، فمن زاد فهو خير له، ومن أسلم من يهودي أو نصراني
إسلامًا خالصًا من نفسه، فدان دين الاسلام، فإنه من المؤمنين، له مالهم وعليه ما
عليهم، ومن كان على يهوديته أو نصرانيته فإنه لا يغير عنها، وعلى كل حالم ذكر وأنثى
حر أو عبد دينار واف أو عرضه من الثياب، فمن أدى ذلك فإن له ذمة الله ورسوله، ومن
منع ذلك فإنه عدو الله ورسوله، والمؤمنين جميعًا، صلوات الله على محمد، والسلام
عليكم ورحمة الله وبركاته".
قدوم جرير بن عبد الله البجلي، وإسلامه:
قال الإمام أحمد: حدثنا أبو قطن، حدثني يونس، عن المغيرة بن شبل، قال: قال جرير:
لما دنوت من المدينة أنخت راحلتي، ثم حللت عيبتي، ثم لبست حلتي، ثم دخلت فإذا رسول
الله صَلَّى الله عليه وسلم يخطب، فرماني الناس بالحدق، فقلت لجليسي: يا عبد الله،
هل ذكرني رسول الله صَلَّى الله عليه وسلم؟ قال: نعم، ذكرك بأحسن الذكر، بينما هو
يخطب إذ عرض له في خطبته، وقال: "يدخل
عليكم من هذا الباب، أو من هذا الفج، من خير ذي يمن، إلا أن على وجهه مسحة ملك"،
قال جرير: فحمدت الله عز وجل على ما أبلاني، قال أبو قطن: فقلت له سمعته منه، أو
سمعته من المغيرة بن شبل، قال: نعم.
ثم رواه الإمام أحمد عن أبي نعيم وإسحاق بن يوسف، وأخرجه النسائي من حديث الفضل بن
موسى، ثلاثتهم عن يونس، عن أبي إسحاق السبيعي، عن المغيرة بن شبل، ويقال: ابن شبيل
عن عوف البجلي الكوفي، عن جرير بن عبد الله، وليس له عنه غيره، وقد رواه النسائي عن
قتيبة، عن سفيان بن عيينة، عن إسماعيل بن أبي خالد، عن قيس بن حازم، عن جرير
بقصته: "يدخل
عليكم من هذا الباب رجل على وجهه مسحة ملك" الحديث،
وهذا على شرط الصحيحين.
وقال الإمام أحمد: حدثنا محمد بن عبيد، حدثنا إسماعيل، عن قيس، عن جرير، قال: ما
حجبني رسول الله صَلَّى الله عليه وسلم منذ أسلمت، ولا رآني إلا تبسم في وجهي، وقد
رواه الجماعة إلا أبا داود، من طرق عن اسماعيل بن أبي خالد، عن قيس بن أبي حازم
عنه، وفي الصحيحين زيادة: وشكوت إلى رسول الله صَلَّى الله عليه وسلم أني لا أثبت
على الخيل، فضرب بيده على صدري وقال: "اللهم
ثبته واجعله هاديًا مهديًّا"،
ورواه النسائي عن قتيبة عن سفيان بن عيينة عن إسماعيل، عن قيس عنه، وزاد فيه: "يدخل
عليكم من هذا الباب رجل على وجهه مسحة ملك" فذكر
نحو ما تقدم.
قال الحافظ البيهقي: أنبأنا أبو عبد الله الحافظ، حدثنا أبو عمر وعثمان بن أحمد
السماك، حدثنا الحسن بن سلام السواق، حدثنا محمد بن مقاتل الخراساني، حدثنا حصين بن
عمر الأحمسي، حدثنا إسماعيل بن أبي خالد، أو قيس بن أبي حازم، عن جرير بن عبد الله،
قال: بعث إليّ رسول الله صَلَّى الله عليه وسلم فقال: "يا
جرير، لأي شيء جئت؟"،
قلت: أسلم على يديك يا رسول الله، قال: فألقى عليّ كساء ثم أقبل على أصحابه فقال "إذا
أتاكم كريم قوم فأكرموه"،
ثم قال: "يا
جرير، أدعوك إلى شهادة أن لا إله إلا الله، وأني رسول الله، وأن تؤمن بالله، واليوم
الآخر، والقدر خيره وشره، وتصلي الصلاة المكتوبة، وتؤدي الزكاة المفروضة".
ففعلت ذلك، فكان بعد ذلك لا يراني إلا تبسم في وجهي، هذا حديث غريب من هذا الوجه.
وقال الإمام أحمد: حدثنا يحيى بن سعيد القطان، حدثنا إسماعيل بن أبي خالد، عن قيس
بن أبي حازم، عن جرير بن عبد الله، قال: بايعت رسول الله صَلَّى الله عليه وسلم
على: إقام الصلاة، وإيتاء الزكاة، والنصح لكل مسلم، وأخرجاه في الصحيحين من حديث
اسماعيل بن أبي خالد به، وهو في الصحيحين من حديث زياد بن علاثة عن جرير به.
وقال الإمام أحمد: حدثنا أبو سعيد، حدثنا زائدة، حدثنا عاصم، عن سفيان، يعني: أبا
وائل، عن جرير، قال: قلت يا رسول الله، اشترط علي، فأنت أعلم بالشرط، قال: "أبايعك
على أن تعبد الله وحده لا تشرك به شيئًا، وتقيم الصلاة، وتؤتي الزكاة، وتنصح
المسلم، وتبرأ من الشرك".
ورواه النسائي من حديث شعبة عن الأعمش، عن أبي وائل، عن جرير، وفي طريق أخرى عن
الأعمش، عن منصور، عن أبي وائل، عن أبي نخيلة، عن جرير به، فالله أعلم. ورواه أيضًا
عن محمد بن قدامة، عن جرير، عن مغيرة، عن أبي وائل والشعبي، عن جرير به. ورواه عن
جرير عبد الله بن عميرة، رواه أحمد منفردًا به، وابنه عبيد الله بن جرير أحمد أيضًا
منفردًا به، وأبو جميلة وصوابه نخيلة، ورواه أحمد والنسائي، ورواه أحمد أيضًا عن
غندر، عن شعبة، عن منصور، عن أبي وائل، عن رجل عن جرير فذكره، والظاهر أن هذا الرجل
هو أبو نخيلة البجلي، والله أعلم.
وقد ذكرنا بعث النبي صَلَّى الله عليه وسلم له حين أسلم إلى ذي الخلصة، بيت كان
يعبده خثعم وبجيلة، وكان يقال له: الكعبة اليمانية، يضاهون به الكعبة التي بمكة،
ويقولون للتي ببكة: الكعبة الشامية، ولبيتهم: الكعبة اليمانية، فقال له رسول الله
صَلَّى الله عليه وسلم: "ألا
تريحني من ذي الخلصة؟"،
فحينئذ شكى إلى النبي صَلَّى الله عليه وسلم أنه لا يثبت على الخيل، فضرب بيده
الكريمة على صدره حتى أثرت فيه، وقال: "اللهم
ثبته، واجعله هاديًا مهديًّا"،
فلم يسقط بعد ذلك عن فرس.
ونفر إلى ذي الخلصة في خمسين ومائة راكب من قومه من أحمس، فخرب ذلك البيت وحرّقه،
حتى تركه مثل الجمل الأجرب، وبعث إلى النبي صَلَّى الله عليه وسلم بشيرًا، يقال له:
أبو أرطاة، فبشره بذلك، فبرّك رسول الله صَلَّى الله عليه وسلم على خيل أحمس
ورجالها خمس مرات، والحديث مبسوط في الصحيحين وغيرهما كما قدمناه، بعد الفتح
استطرادًا بعد ذكر تخريب بيت العزى على يدي خالد بن الوليد رضي الله عنه، والظاهر
أن إسلام جرير رضي الله عنه كان متأخرًا عن الفتح بمقدار جيد، فإن الإمام أحمد قال:
حدثنا هشام بن القاسم، حدثنا زياد بن عبد الله بن علاثة بن عبد الكريم بن مالك
الجزري، عن مجاهد، عن جرير بن عبد الله البجلي، قال: إنما أسلمت بعد ما أنزلت
المائدة، وأنا رأيت رسول الله صَلَّى الله عليه وسلم يمسح بعد ما أسلمت. تفرد به
أحمد وهو إسناد جيد، اللهم إلا أن يكون منقطعًا بين مجاهد وبينه.
وثبت في الصحيحين أن أصحاب عبد الله بن مسعود كان يعجبهم حديث جرير في مسح الخف؛
لأن إسلام جرير إنما كان بعد نزول المائدة، وسيأتي في حجة الوداع أن رسول الله
صَلَّى الله عليه وسلم قال له: استنصت الناس يا جرير، وإنما أمره بذلك؛ لأنه كان
صبيًا، وكان ذا شكل عظيم، كانت نعله طولها ذراع، وكان من أحسن الناس وجهًا، وكان مع
هذا من أغض الناس طرفًا، ولهذا روينا في الحديث الصحيح عنه أنه قال: سألت رسول الله
صَلَّى الله عليه وسلم عن نظر الفجأة، فقال: "أطرق
بصرك".
وفادة وائل بن حجر بن ربيعة بن وائل بن يعمر الحضرمي، ابن هنيد أحد
ملوك اليمن على رسول الله صَلَّى الله عليه وسلم:
قال أبو عمر بن عبد البر: كان أحد أقيال حضرموت، وكان أبوه من ملوكهم، ويقال: أن
رسول الله صَلَّى الله عليه وسلم بشَّر أصحابه قبل قدومه به، وقال: "يأتيكم
بقية أبناء الملوك"،
فلما دخل رحّب به، وأدناه من نفسه، وقرب مجلسه، وبسط له رداءه، وقال: "اللهم
بارك في وائل، وولده، وولد ولده".
واستعمله على الأقيال من حضرموت، وكتب معه ثلاث كتب؛ منها: كتاب إلى المهاجر بن أبي
أمية، وكتاب إلى الأقيال، والعباهلة، وأقطعه أرضًا، وأرسل معه معاوية بن أبي سفيان،
فخرج معه راجلًا فشكى إليه حرّ الرمضاء، فقال: انتعل ظل الناقة، فقال وما يغني عني
ذلك! لو جعلتني ردفًا، فقال له وائل: اسكت فلست من أرادف الملوك. ثم عاش وائل بن
حجر حتى وفد على معاوية، وهو أمير المؤمنين، فعرفه معاوية فرحّب به، وقرّبه وأدناه،
وأذكره الحديث، وعرض عليه جائزة سنية، فأبى أن يأخذها، وقال: أعطها مَن هو أحوج
إليها مني. وأورد الحافظ البيهقي بعض هذا، وأشار إلى أن البخاري في "التاريخ" روى
في ذلك شيئًا.
وقد قال الإمام أحمد: حدثنا حجاج، أنبأنا شعبة، عن سماك بن حرب، عن علقمة بن وائل،
عن أبيه أن رسول الله صَلَّى الله عليه وسلم أقطعه أرضًا، قال: وأرسل معي معاوية أن
أعطيها إياه، أو قال: أعلمها إياه، قال: فقال معاوية: أردفني خلفك، فقلت: لا تكون
من أرداف الملوك، قال: فقال: أعطني نعلك، فقلت: انتعل ظل الناقة. قال: فلما استخلف
معاوية، أتيته فاقعدني معه على السرير، فذكرني الحديث، قال سماك: فقال: وددت أني
كنت حملته بين يدي، وقد رواه أبو داود، والترمذي من حديث شعبة، وقال الترمذي: صحيح.
وفادة لقيط بن عامر المنتفق أبي رزين العقيلي إلى رسول الله صَلَّى
الله عليه وسلم:
قال عبد الله بن الإمام أحمد: كتب إليّ إبراهيم بن حمزة بن محمد بن حمزة بن مصعب بن
الزبير الزبيري: كتبت إليك بهذا الحديث، وقد عرضته وسمعته على ما كتبت به إليك،
فحدث بذلك عني، قال: حدثني عبد الرحمن بن المغيرة الحزامي، حدثني عبد الرحمن بن
عياش السمعي الأنصاري القبائي، من بني عمرو بن عوف، عن دلهم بن الأسود بن عبد الله
بن حاجب بن عامر بن المنتفق العقيلي، عن أبيه، عن عمه لقيط بن عامر، قال دلهم:
وحدثنيه أبو الأسود، عن عاصم بن لقيط، أن لقيطًا خرج وافدًا إلى رسول الله صَلَّى
الله عليه وسلم ومعه صاحب له، يقال له: نهيك بن عاصم بن مالك بن المنتفق، قال لقيط:
فخرجت أنا وصاحبي حتى قدمنا على رسول الله صَلَّى الله عليه وسلم المدينة، انسلاخ
رجب، فأتينا رسول الله صَلَّى الله عليه وسلم، فوافيناه حين انصرف من صلاة الغداة،
فقام في الناس خطيبًا، فقال: "أيها
الناس؛ ألا إني قد خبأت لكم صوتي منذ أربعة أيام، ألا لأسمنكم، ألا فهل من امرئ
بعثه قومه؟"،
فقالوا: أعلم لنا ما يقول رسول الله، "ألا
ثم لعله أن يلهيه حديث نفسه أو حديث صاحبه، أو يلهيه الضلال، ألا إني مسئول، هل
بلغت؟ ألا فاسمعوا تعيشوا، ألا اجلسوا، ألا أجلسوا" قال:
فجلس الناس وقمت أنا وصاحبي، حتى إذا فرغ لنا فؤاده وبصره، قلت: يا رسول الله، ما
عندك من علم الغيب؟ فضحك، لعمر الله وهز رأسه، وعلم أني ابتغي لسقطه، فقال: "ضن
ربك عز وجل بمفاتيح خمس من الغيب لا يعلمها إلا الله" وأشار
بيده، قلت: وما هي؟ قال: "علم
المنية، قد علم متى منية أحدكم ولا تعلمونه، وعلم المني حين يكون في الرحم، قد علمه
ولا تعلمون، وعلم ما في غد، وما أنت طاعم غدًا ولا تعلمه، وعلم يوم الغيث، يشرف
عليكم أزلين مسنتين فيظل يضحك، قد علم أن غيركم إلى قريب".
قال لقيط: قلت: لن نعدم من رب يضحك خيرًا، "وعلم
يوم الساعة".
قلنا: يا رسول؛ علمنا مما لا يعلم الناس، ومما تعلم، فأنا من قبيل لا يصدقون
تصديقنا أحد، من مذحج التي تربوا علينا، وخثعم التي توالينا، وعشيرتنا التي نحن
منها، قال: "تلبثون
ما لبثتم، ثم يتوفى نبيكم، ثم تلبثون ما لبثتم، ثم تبعث الصائحة، لعمر إلهك ما تدع
على ظهرها من شيء إلا مات، والملائكة الذين مع ربك، فأصبح ربك عز وجل يطوف بالأرض،
وقد خلت عليه البلاد، فأرسل ربك السماء تهضب من عند العرش، فلعمر إلهك، ما تدع على
ظهرها من مصرع قتيل ولا مدفن ميت إلا شقت القبر عنه، حتى تخلقه من عند رأسه، فيستوي
جالسًا، فيقول ربك عز وجل: مهيم ــ لما كان فيه ــ فيقول: يا رب أمس اليوم، فلعهده
بالحياة يتحسبه حديثًا بأهله".
قلت: يا رسول الله، كيف يجمعنا بعد ما تفرقنا الرياح والبلى والسباع؟! فقال: "انبئك
بمثل ذلك في آلاء الله، الأرض أشرفت عليها، وهي مدرة بالية، فقلت: لا تحي أبدًا، ثم
أرسل ربك عليها السماء، فلم تلبث عليك إلا أيامًا حتى أشرفت عليها وهي شرية واحدة،
فلعمر إلهك، لهو أقدر على أن يجمعكم من الماء على أن يجمع نبات الارض، فتخرجون من
الأصواء، ومن مصارعكم، فتنظرون إليه وينظر اليكم".
قال: قلت: يا رسول الله، وكيف ونحن ملء الأرض، وهو عزّ وجلّ واحد ينظر إلينا وننظر
إليه؟! فقال: "انبئك
بمثل ذلك في آلاء الله، الشمس والقمر آية منه صغيرة، ترونهما ويريانكم ساعة واحدة،
لا تضارون في رؤيتهما، ولعمر إلهك، لهو أقدر على أن يراكم وترونه من أن ترونهما
ويريانكم، لا تضارون في رؤيتهما".
قلت: يا رسول الله، فما يفعل بنا ربنا إذا لقيناه؟ قال "تعرضون
عليه، بادية له صحائفكم، لا يخفى عليه منكم خافية، فيأخذ ربك عز وجل بيده غرفة من
الماء فينضح قلبكم بها، فلعمر إلهك، ما يخطئ وجه أحدكم منها قطرة؛ فأما المسلم فتدع
على وجهه مثل الريطة البيضاء، وأما الكافر فتخطمه بمثل الحمم الأسود، ألا ثم ينصرف
نبيكم، وينصرف على أثره الصالحون، فتسلكون جسرًا من النار، فيطأ أحدكم الجمرة
فيقول: حس، فيقول ربك عز وجل: أوانه، فتطلعون على حوض الرسول على أطماء، والله
ناهلة عليها ما رأيتها قط، فلعمر إلهك، لا يبسط واحد منكم يده إلا وقع عليها قدح
يطهره من الطوف، والبول، والأذى، وتحبس الشمس والقمر فلا ترون منهما واحدًا".
قال: قلت: يا رسول الله، فبم نبصر؟ قال: "مثل
بصرك ساعتك هذه، وذلك مع طلوع الشمس في يوم أشرقته الأرض، وواجهته الجبال"،
قال: قلت: يا رسول الله، فبم نجزى من سيآتنا وحسناتنا؟ قال: "الحسنة
بعشر أمثالها، والسيئة بمثلها، إلا أن يعفو"،
قال: قلت: يا رسول الله، إما الجنة، وإما النار! قال: "لعمر
إلهك، إن للنار سبعة أبواب، ما منهم بابان إلا يسير الراكب بينهما سبعين عامًا، وإن
للجنة لثمانية أبواب، ما منها بابان إلا يسير الراكب بينهما سبعين عاما"،
قلت: يا رسول الله، فعلام نطلع من الجنة؟ قال: "على
أنهار من عسل مصفى، وأنهار من كأس، ما بها من صداع ولا ندامة، وأنهار من لبن لم
يتغير طعمه، وماء غير آسن، وفاكهة، لعمر إلهك، ما تعلمون وخير من مثله معه، وأزواج
مطهرة".
قلت يا رسول الله: ولنا فيها أزواج أو منهن مصلحات! قال: "الصالحات
للصالحين، تلذونهن مثل لذاتكم في الدنيا، ويلذونكم، غير أن لا توالد".
قال لقيط: قلت: أقصى ما نحن بالغون ومنتهون إليه؟ فلم يجبه النبي صَلَّى الله عليه
وسلم، قلت: يا رسول الله، علام أبايعك؟ فبسط النبي يده، وقال: "على
إقام الصلاة، وإيتاء الزكاة، وزيال الشرك، وأن لا تشرك بالله إلهًا غيره"،
قال: قلت: وإن لنا ما بين المشرق والمغرب، فقبض النبي صَلَّى الله عليه وسلم يده
وبسط أصابعه، وظن أني مشترط شيئًا لا يعطينيه، قال: قلت: تحل منها حيث شئنا، ولا
يجني منها امرؤ إلا على نفسه، فبسط يده، وقال: "ذلك
لك تحل حيث شئت، ولا تجني عليك إلا نفسك"،
قال: فانصرفنا عنه ثم قال: "إن
هذين من أتقى الناس، لعمر إلهك في الأولى والآخرة".
فقال له كعب بن الحدارية، أحد بني كلاب منهم: يا رسول الله، بنو المنتفق أهل ذلك
منهم، قال: فانصرفنا، وأقبلت عليه، وذكر تمام الحديث إلى أن قال: فقلت: يا رسول
الله، هل لأحد ممن مضى خير في جاهليته؟ قال: فقال رجل من عرض قريش: والله إن أباك
المنتفق لفي النار، قال: فلكأنه وقع حر بين جلدتي وجهي ولحمي مما قال، لأني على رؤس
الناس، فهممت أن أقول: وأبوك يا رسول الله، ثم إذا الأخرى أجمل، فقلت: يا رسول الله
وأهلك، قال: وأهلي لعمر الله، ما أتيت عليه من قبر عامري أو قرشي من مشرك فقل:
أرسلني إليك محمد، فأبشرك بما يسوءك، تجر على وجهك وبطنك في النار، قال: قلت: يا
رسول الله، ما فعل بهم ذلك؟ وقد كانوا على عمل لا يحسنون إلا إياه، وقد كانوا
يحسبون أنهم مصلحون! قال: "ذلك
بأن الله يبعث في آخر كل سبع أمم، يعني: نبيًّا، فمن عصى نبيّه كان من الضالين، ومن
أطاع نبيه كان من المهتدين".
هذا حديث غريب جدًا وألفاظه في بعضها نكارة، وقد أخرجه البيهقي في كتاب "البعث
والنشور"، وعبد الحق الأشبيلي في "العاقبة"، والقرطبي في كتاب "التذكرة في أحوال
الآخرة".
وفادة زياد بن الحارث رضي الله عنه:
قال الحافظ البيهقي: أنبأنا أبو أحمد الأسد آبازي بها، أنبأنا أبو بكر بن مالك
القطيعي، حدثنا أبو عبد الرحمن المقرئ، عن عبد الرحمن بن زياد بن أنعم، حدثني زياد
بن نعيم الحضرمي، سمعت زياد بن الحارث الصدائي يحدث قال: أتيت رسول الله صَلَّى
الله عليه وسلم، فبايعته على الإسلام، فأخبرت أنه قد بعث جيشًا إلى قومي، فقلت: يا
رسول الله، أردد الجيش، وأنا لك بإسلام قومي وطاعتهم، فقال لي: "اذهب
فردهم"،
فقلت: يا رسول الله، إن راحلتي قد كلّت، فبعث رسول الله صَلَّى الله عليه وسلم
رجلًا فردهم، قال الصدائي: وكتبت إليهم كتابًا، فقدم وفدهم بإسلامهم، فقال لي رسول
الله صَلَّى الله عليه وسلم: "يا
أخا صداء، إنك لمطاع في قومك"،
فقلت: بل الله هداهم للإسلام، فقال: "أفلا
أؤمرك عليهم؟"،
قلت: بلى يا رسول الله، قال: فكتب لي كتابًا أمرّني، فقلت: يا رسول الله، مُرْ لي
بشيء من صدقاتهم، قال: "نعم"،
فكتب لي كتابًا آخر.
قال الصدائي: وكان ذلك في بعض أسفاره، فنزل رسول الله صَلَّى الله عليه وسلم
منزلًا، فأتاه أهل ذلك المنزل يشكون عاملهم، ويقولون: أخذنا بشيء كان بيننا وبين
قومه في الجاهلية، فقال رسول الله: "أوفعل
ذلك؟"،
قالوا: نعم، فالتفت رسول الله صَلَّى الله عليه وسلم إلى أصحابه، وأنا فيهم، فقال: "لا
خير في الإمارة لرجل مؤمن"،
قال الصدائي: فدخل قوله في نفسي، ثم أتاه آخر فقال: يا رسول الله أعطني، فقال رسول
الله صَلَّى الله عليه وسلم: "من
سأل الناس عن ظهر غنى، فصداع في الرأس، وداء في البطن"،
فقال السائل أعطني من الصدقة: فقال رسول الله: "إن
الله لم يرض في الصدقات بحكم نبي ولا غيره حتى حكم هو فيها، فجزأها ثمانية أجزاء،
فان كنت من تلك الأجزاء أعطيتك"،
قال الصدائي: فدخل ذلك في نفسي، أني غني وأني سألته من الصدقة.
قال: ثم إن رسول الله اعتشى من أول الليل، فلزمته وكنت قريبًا، فكان أصحابه ينقطعون
عنه، ويستأخرون منه، ولم يبق معه أحد غيري، فلما كان أوان صلاة الصبح، أمرني فأذنت،
فجعلت أقول: أقيم يا رسول الله، فجعل ينظر ناحية المشرق إلى الفجر، ويقول: "لا"،
حتى إذا طلع الفجر، نزل فتبرز ثم انصرف إليّ وهو متلاحق أصحابه، فقال: "هل
من ماء يا أخا صداء؟"،
قلت: لا، إلا شيء قليل لا يكفيك، فقال: "اجعله
في إناء ثم ائتني به"،
ففعلت، فوضع كفه في الماء، قال: فرأيت بين أصبعين عينًا تفور، فقال رسول الله
صَلَّى الله عليه وسلم: "لولا
أني استحي من ربي عز وجل، لسقينا واستقينا، ناد في أصحابي: مَنْ له حاجة في الماء؟"،
فناديت فيهم، فأخذ من أراد منهم شيئًا.
ثم قام رسول الله صَلَّى الله عليه وسلم إلى الصلاة، فأراد بلال أن يقيم، فقال له
رسول الله: "إن
أخا صداء أذّن ومن أذّن فهو يقيم"،
قال الصدائي: فأقمت، فلما قضى رسول الله الصلاة أتيته بالكتابين، فقلت: يا رسول
الله، أعفني من هذين، فقال: "ما
بدا لك؟"،
فقلت: سمعتك يا رسول الله تقول: "لا
خير في الإمارة لرجل مؤمن"،
وأنا أومن بالله وبرسوله، وسمعتك تقول للسائل: "من
سأل الناس عن ظهر غنى فهو صداع في الرأس، وداء في البطن"،
وسألتك وأنا غني، فقال: "هو
ذاك، فإن شئت فاقبل، وإن شئت فدع".
فقلت: أدع، فقال لي رسول الله: "فدلني
على رجل أؤمره عليكم"،
فدللته على رجل من الوفد الذين قدموا عليه، فأمّره عليهم، ثم قلنا: يا رسول الله،
إن لنا بئرًا، إذا كان الشتاء وسعنا ماؤها، واجتمعنا عليها، وإذا كان الصيف قل
ماؤها فتفرقنا على مياه حولنا، فقد أسلمنا وكل من حولنا عدو، فادع الله لنا في
بئرنا فيسعنا ماؤها، فنجتمع عليه ولا نتفرق، فدعا سبع حصيات، فعركهن بيده ودعا
فيهن، ثم قال: "اذهبوا
بهذه الحصيات، فاذا أتيتم البئر فألقوا واحدة واحدة، واذكروا الله".
قال الصدائي: ففعلنا ما قال لنا، فما استطعنا بعد ذلك أن ننظر إلى قعرها، يعني:
البئر.
وهذا الحديث له شواهد في سنن أبي داود، والترمذي، وابن ماجه، وقد ذكر الواقدي أن
رسول الله صَلَّى الله عليه وسلم كان بعث بعد عمرة الجعرانة، قيس بن سعد بن عبادة
في أربعمائة، إلى بلاد صداء فيوطئها، فبعثوا رجلًا منهم، فقال: جئتك لترد عن قومي
الجيش، وأنا لك بهم، ثم قدم وفدهم خمسة عشر رجلًا، ثم رأى منهم حجة الوداع مائة
رجل.
وفادة الحارث بن حسان البكري إلى رسول الله صَلَّى الله عليه وسلم:
قال الإمام أحمد: حدثنا زيد بن الحباب، حدثني أبو المنذر سلام بن سليمان النحوي،
حدثنا عاصم بن أبي النجود، عن أبي وائل، عن الحارث البكري، قال: خرجت أشكو العلاء
بن الحضرمي إلى رسول الله صَلَّى الله عليه وسلم، فمررت بالربذة، فإذا عجوز من بني
تميم منقطع بها، فقالت: يا عبد الله، إن لي إلى رسول الله حاجة، فهل أنت مبلغي
إليه؟ قال: فحملتها فأتيت المدينة، فإذا المسجد غاص بأهله، وإذا راية سوداء تخفق،
وبلال متقلد السيف بين يدي رسول الله صَلَّى الله عليه وسلم، فقلت: ما شأن الناس؟
قالوا: يريد أن يبعث عمرو بن العاص وجهًا، قال: فجلست، فدخل منزله أو قال: رحله
فاستأذنت عليه، فأذن لي، فدخلت فسلّمت، فقال: "هل
كان بينكم وبين تميم شيء؟"،
قلت: نعم، وكانت الدائرة عليهم، ومررت بعجوز من بني تميم منقطع بها، فسألتني أن
أحملها إليك، وها هي بالباب، فأذن لها، فدخلت.
فقلت: يا رسول الله، إن رأيت أن تجعل بيننا وبين تميم حاجزًا فاجعل الدهناء، فحميت
العجوز واستوفزت، وقالت: يا رسول الله، أين يضطر مضرك؟ قال: قلت: إن مثلي ما قال
الأول: معزى حملت حتفها، حملت هذه ولا أشعر أنها كانت لي خصمًا، أعوذ بالله ورسوله
أن أكون كوافد عاد، قالت هي: وما وافد عاد؟ وهي أعلم بالحديث منه، ولكن تستطعمه،
قلت: إن عادًا قحطوا، فبعثوا وفدًا لهم، يقال له: قيل، فمرَّ بمعاوية بن بكر، فأقام
عنده شهرًا يسقيه الخمر، وتغنيه جاريتان، يقال لهما: الجرادتان. فلما مضى الشهر،
خرج إلى جبال مهرة فقال: اللهم إنك تعلم لم أجيء إلى مريض فأداويه، ولا إلى أسير
فأفاديه، اللهم اسق عادًا ما كنت تسقيه، فمرت به سحابات سود، فنودي منها: اختر،
فأومأ إلى سحابة منها سوداء، فنودي منها: خذها رمادًا رمادًا، لا تبقي من عاد
أحدًا، قال: فما بلغني أنه أرسل عليهم الريح إلا بقدر ما يجري في خاتمي هذا، حتى
هلكوا.
قال أبو وائل ــ وصدق ــ وكانت المرأة أو الرجل إذا بعثوا وافدًا لهم، قالوا: لا
يكن كوافد عاد. وقد رواه الترمذي، والنسائي من حديث أبي المنذر سلام بن سليمان به،
ورواه ابن ماجه عن أبي بكر بن أبي شيبة، عن أبي بكر بن عياش، عن عاصم بن أبي
النجود، عن الحارث البكري، ولم يذكر أبا وائل، وهكذا رواه الإمام أحمد عن أبي بكر
بن عياش، عن عاصم، عن الحارث، والصواب: عن عاصم، عن أبي وائل، عن الحارث، كما تقدم.
وفادة عبد الرحمن بن أبي عقيل مع قومه:
قال أبو بكر البيهقي: أنبأنا أبو عبد الله إسحاق بن محمد بن يوسف السوسي، أنبأنا
أبو جعفر محمد بن محمد بن عبد الله البغدادي، أنبانا علي بن الجعد، حدثنا عبد
العزيز، حدثنا أحمد بن يونس، حدثنا زهير، حدثنا أبو خالد يزيد الأسدي، حدثنا عون بن
أبي جحيفة، عن عبد الرحمن بن علقمة الثقفي، عن عبد الرحمن بن أبي عقيل، قال: انطلقت
في وفد إلى رسول الله صَلَّى الله عليه وسلم، فأتيناه فأنخنا بالباب، وما في الناس
رجل أبغض إلينا من رجل نلج عليه، فلما دخلنا وخرجنا، فما في الناس رجل أحب الينا من
رجل دخلنا عليه، قال: فقال قائل منا: يا رسول الله، ألا سألت ربك ملكًا كملك
سليمان، قال: فضحك رسول الله صَلَّى الله عليه وسلم، ثم قال: "فلعل
صاحبك عند الله، أفضل من مُلك سليمان، إن الله عز وجل لم يبعث نبيًّا إلا أعطاه
دعوة؛ فمنهم من اتخذها دنيا، فأعطيها. ومنهم من دعا بها على قومه إذ عصوه،
فأُهلكوا. وإن الله أعطاني دعوة فاختبأتها عند ربي، شفاعةً لأمتي، يوم القيامة".
قدوم طارق بن عبد الله، وأصحابه:
روى الحافظ البيهقي من طريق أبي خباب الكلبي، عن جامع بن شداد المحاربي، حدثني رجل
من قومي، يقال له: طارق بن عبد الله، قال: إني لقائم بسوق ذي المجاز، إذ أقبل رجل
عليه جبة، وهو يقول: "يا
أيها الناس، قولوا لا إله إلا الله تفلحوا"،
ورجل يتبعه يرميه بالحجارة، وهو يقول: يا أيها الناس، إنه كذاب. فقلت: مَنْ هذا؟
فقالوا: هذا غلام من بني هاشم، يزعم أنه رسول الله، قال: قلت: مَن هذا الذي يفعل به
هذا؟ قالوا: هذا عمه عبد العزى، قال: فلما أسلم الناس وهاجروا، خرجنا من الربذة
نريد المدينة، نمتار من تمرها، فلما دنونا من حيطانها ونخلها، قلت: لو نزلنا فلبسنا
ثيابًا غير هذه، إذا رجل في طمرين فسلم علينا، وقال "من
أين أقبل القوم؟"،
قلنا من الربذة، قال "وأين
تريدون؟"،
قلنا: نريد هذه المدينة، قال: "ما
حاجتكم منها؟"،
قلنا: نمتار من تمرها، قال: ومعنا ظعينة لنا، ومعنا جمل أحمر مخطوم، فقال: "أتبيعوني
جملكم هذا؟"،
قلنا: نعم، بكذا وكذا صاعًا من تمر، قال: فما استوضعنا مما قلنا شيئا، وأخذ بخطام
الجمل وانطلق.
فلما توارى عنا بحيطان المدينة ونخلها، قلنا: ما صنعنا! والله ما بعنا جملنا ممن
يعرف، ولا أخذنا له ثمنًا، قال: تقول المرأة التي معنا: والله لقد رأيت رجلًا كأن
وجهه شقة القمر ليلة البدر، أنا ضامنة لثمن جملكم إذ أقبل الرجل، فقال: "أنا
رسول الله إليكم، هذا تمركم؛ فكلوا، واشبعوا، واكتالوا، واستوفوا"،
فأكلنا، وشبعنا، واكتلنا، واستوفينا.
ثم دخلنا المدينة، فدخلنا المسجد فإذا هو قائم على المنبر يخطب الناس، فأدركنا من
خطبته وهو يقول: "تصدقوا،
فإن الصدقة خير لكم، اليد العليا خير من اليد السفلى؛أمك، وأباك، وأختك، وأخاك،
أدناك وأدناك"،
إذ أقبل رجل من بني يربوع، أو قال: رجل من الأنصار، فقال: يا رسول الله، لنا في
هؤلاء دماء في الجاهلية، فقال: "إن
أبًا لا يجني على ولد"،
ثلاث مرات. وقد روى النسائي فضل الصدقة منه عن يوسف بن عيسى، عن الفضل بن موسى، عن
يزيد بن زياد بن أبي الجعد، عن جامع بن شداد، عن طارق بن عبد الله المحاربي ببعضه،
ورواه الحافظ البيهقي أيضًا، عن الحاكم عن الأصم، عن أحمد بن عبد الجبار، عن يونس
بن بكير، عن يزيد بن زياد، عن جامع بن طارق بطوله كما تقدم، وقال فيه: فقالت
الظعينة: لا تلاوموا؛ فلقد رأيت وجه رجل لا يغدر، ما رأيت شيئًا أشبه بالقمر ليلة
البدر من وجهه.
قدوم وافد فروة بن عمرو الجذامي، صاحب بلاد معان:
قال ابن إسحاق:
وبعث فروة بن عمرو النافرة الجذامي ثم النفاثي إلى رسول الله صَلَّى الله عليه وسلم
رسولًا بإسلامه، وأهدى له بغلة بيضاء، وكان فروة عاملًا للروم على من يليهم من
العرب، وكان منزله معان وما حولها من أرض الشام، فلما بلغ الروم ذلك من إسلامه
طلبوه، حتى أخذوه فحبسوه عندهم، فقال في محبسه ذلك:
طرقتْ سُليمى مُوهنًا أصحابي والرومُ
بين البابِ والقروان
صَدّ الخيالُ وساءَه ما قد رأى وهممتُ أن أَغْفى وقد أبكاني
لا تَكحلنَّ العينَ بعدي إثمدًا سَلْمَى ولا تَدينُ للإتيان
ولقدْ علمتُ أبا كَبَيْشَةَ أَنني وَسْطَ الأعزةِ لا يحصُّ لساني
فلئنْ هلكتُ لَتَفقدنَّ أخاكم ولئنْ بَقيتُ لَيعْرِفُنَّ مَكَاني
ولقدْ جَمعتُ أجلَّ ما جمعَ الفتى من جَودَةٍ
وشجاعةٍ وبيانِ
قال: فلما أجمعت الروم على صلبه على ماء لهم، يقال له: عفرى بفلسطين، قال:
ألا هلْ أتى سَلْمَى بأنَّ حليلها على ماءِ عَفَّرى فوقَ إحْدى الرّواحلِ
على ناقةٍ لم يضرب الفحلُ أمَّها يَشدُّ به أطرافُها بالمناجلِ
قال: وزعم الزهري أنهم لما قدموه ليقتلوه قال:
بلغْ سُراة المسلمينَ بأنني سَلَمٌ لربي أعظُمي ومَقَامي
قال: ثم ضربوا عنقه، وصلبوه على ذلك الماء، رحمه الله، ورضي عنه وأرضاه، وجعل الجنة
مثواه.
قدوم تميم الداري على رسول الله صَلَّى الله عليه وسلم، في خروج النبي صَلَّى الله
عليه وسلم، وإيمان من آمن به:
أخبرنا أبو عبد الله سهل بن محمد بن نصرويه المروزي بنيسابور، أنبانا أبو بكر محمد
بن أحمد بن الحسن القاضي، أنبأنا أبو سهل أحمد بن محمد بن زياد القطان، حدثنا يحيى
بن جعفر بن الزبير، أنبأنا وهب بن جرير، حدثنا أبي، سمعت غيلان بن جرير، يحدث عن
الشعبي، عن فاطمة بنت قيس، قالت: قدم علي رسول الله صَلَّى الله عليه وسلم تميم
الداري، فأخبر رسول الله صَلَّى الله عليه وسلم أنه ركب البحر فتاهت به سفينته،
فسقطوا إلى جزيرة، فخرجوا إليها يلتمسون الماء، فلقي إنسانا يجر شعره، فقال له: من
أنت؟ قال: أنا الجساسة، قالوا: فأخبرنا، قال: لا أخبركم، ولكن عليكم بهذه الجزيرة.
فدخلناها، فإذا رجل مقيد، فقال: من أنتم؟ قلنا: ناس من العرب، قال: ما فعل هذا
النبي الذي خرج فيكم؟ قلنا: قد آمن به الناس، واتبعوه وصدقوه، قال: ذلك خير لهم،
قال: أفلا تخبروني عن عين زعر، ما فعلت؟ فأخبرناه عنها، فوثب وثبة، كاد أن يخرج من
وراء الجدار، ثم قال: ما فعل نخل بيان؟ هل أطعم بعد؟ فأخبرناه أنه قد أطعم، فوثب
مثلها، ثم قال: أما لو قد أذن لي في الخروج لوطئت البلاد كلها غير طيبة. قالت:
فأخرجه رسول الله صَلَّى الله عليه وسلم فحدَّث الناس، فقال: "هذه
طيبة، وذاك الدجال".
وقد روى هذا الحديث الإمام أحمد، ومسلم، وأهل السنن، من طرق عن عامر بن شراحيل
الشعبي، عن فاطمة بنت قيس، وقد أورد له الإمام أحمد شاهدًا من رواية أبي هريرة،
وعائشة أم المؤمنين.
وفد بني أسد:
ذكر الواقدي أنه قدم على رسول الله صَلَّى الله عليه وسلم في أول سنة تسع وفد بني
أسد، وكانوا عشرة؛ منهم: ضرار بن الأزور، ووابصة بن معبد، وطليحة بن خويلد، الذي
ادّعى النبوة بعد ذلك ثم أسلم وحسن إسلامه، ونفادة بن عبد الله بن خلف، فقال له
رئيسهم، حضرمي بن عامر: يا رسول الله؛ أتيناك نتدرع الليل البهيم، في سنة شهباء،
ولم تبعث إلينا بعثًا. فنزل فيهم: {يَمُنُّونَ
عَلَيْكَ أَنْ أَسْلَمُوا قُل لَّا تَمُنُّوا عَلَيَّ إِسْلَامَكُم بَلِ اللَّهُ
يَمُنُّ عَلَيْكُمْ أَنْ هَدَاكُمْ لِلْإِيمَانِ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ} [الحجرات:
17].
وكان فيهم قبيلة، يقال لهم: بنو الرتبة، فغيّر اسمهم فقال: "أنتم
بنو الرشدة"،
وقد استهدى رسول الله صَلَّى الله عليه وسلم من نفادة بن عبد الله بن خلف ناقة،
تكون جيدة للركوب وللحلب، من غير أن يكون لها ولد معها، فطلبها فلم يجدها إلا عند
ابن عم له، فجاء بها، فأمره رسول الله صَلَّى الله عليه وسلم بحلبها، فشرب منها،
وسقاه سؤره، ثم قال: "اللهم
بارك فيها، وفيمن منحها"،
فقال: يا رسول الله، وفيمن جاء بها، فقال: "وفيمن
جاء بها".
وفد بني عبس:
ذكر الواقدي أنهم كانوا تسعة نفر، وسماهم الواقدي، فقال لهم النبي صَلَّى الله عليه
وسلم: "أنا
عاشركم".
وأمر طلحة بن عبيد الله فعقد لهم لواء، وجعل شعارهم: يا عشرة، وذكر أن رسول الله
صَلَّى الله عليه وسلم سألهم عن خالد بن سنان العبسي، فذكروا أنه لا عقب له، وذكر
أن رسول الله صَلَّى الله عليه وسلم بعثهم يرصدون عيرًا لقريش، قدمت من الشام، وهذا
يقتضي تقدم وفادتهم على الفتح، والله أعلم.
وفد بني فزارة:
قال الواقدي: حدثنا عبد الله بن محمد بن عمر الجمحي، عن أبي وجزة السعدي، قال: لما
رجع رسول الله من تبوك، وكان سنة تسعة، قدم عليه وفد بني فزارة، بضعة عشر رجلًا،
فيهم: خارجة بن حصن، والحارث بن قيس بن حصن، وهو أصغرهم، على ركاب عجاف، فجاؤا
مقرّين بالإسلام، وسألهم رسول الله عن بلادهم، فقال أحدهم: يا رسول الله، أسنتت
بلادنا، وهلكت مواشينا، وأجدب جناتنا، وغرث عيالنا، فادع الله لنا. فصعد رسول الله
المنبر ودعا، فقال: "اللهم
اسق بلادك، وبهائمك، وانشر رحمتك، وأحيي بلدك الميت، اللهم اسقنا؛ غيثًا، مغيثًا،
مريًا، مريعًا، طبقًا، واسعًا، عاجلًا غير آجل، نافعًا غير ضارّ. اللهم اسقنا، سقيا
رحمة، لا سقيا عذاب، ولا هدم، ولا غرق، ولا محق. اللهم اسقنا الغيث، وانصرنا على
الأعداء".
قال: فمطرت، فما رأوا السماء سبتا، فصعد رسول الله المنبر فدعا، فقال: "اللهم
حوالينا ولا علينا، على الآكام، والظراب، وبطون الأودية، ومنابت الشجر".
فانجابت السماء عن المدينة، انجياب الثوب.
وفد بني مرة:
قال الواقدي: إنهم قدموا سنة تسع، عند مرجعه من تبوك، وكانوا ثلاثة عشر رجلًا،
منهم: الحارث بن عوف، فأجازهم عليه السلام بعشر أواق من فضة، وأعطى الحارث بن عوف
ثنتي عشر أوقية. وذكروا بأن بلادهم مجدبة، فدعا لهم، فقال: "اللهم
اسقهم الغيث".
فلما رجعوا إلى بلادهم، وجدوها قد مطرت ذلك اليوم، الذي دعا لهم فيه رسول الله
صَلَّى الله عليه وسلم.
وفد بني ثعلبة:
قال الواقدي: حدثني موسى بن محمد بن ابراهيم، عن رجل من بني ثعلبة، عن أبيه، قال:
لما قدم رسول الله صَلَّى الله عليه وسلم من الجعرانة سنة ثمان، قدمنا عليه أربعة
نفر، فقلنا: نحن رسل مَن خلفنا مِن قومنا، وهم يقرّون بالإسلام. فأمر لنا بضيافة،
وأقمنا أيامًا ثم جئناه لنودعه، فقال لبلال: "أجزهم،
كما تجيز للوافد".
فجاء ببقر من فضة، فأعطى كل رجل منّا خمس أواق، وقال: ليس عندنا دراهم، وانصرفنا
إلى بلادنا.
وفد بني محارب:
قال الواقدي: حدثني محمد بن صالح، عن أبي وجزة السعدي، قال: قدم وفد محارب سنة عشر
في حجة الوداع، وهم عشرة نفر، فيهم: سواء بن الحارث، وابنه خزيمة بن سواء، فأنزلوا
دار رملة بنت الحارث، وكان بلال يأتيهم بغداء وعشاء، فأسلموا وقالوا: نحن على من
وراءنا، ولم يكن أحد في تلك المواسم أفظّ ولا أغلظ على رسول الله منهم، وكان في
الوفد رجل منهم فعرفه رسول الله صَلَّى الله عليه وسلم، فقال: الحمد لله الذي
أبقاني حتى صدقت بك، فقال رسول الله صَلَّى الله عليه وسلم: "إنّ
هذه القلوب بيد الله عزّ وجلّ"،
ومسح رسول الله وجه خزيمة بن سواء، فصارت غرة بيضاء، وأجازهم كما يجيز الوفد،
وانصرفوا إلى بلادهم.
وفد بني كلاب:
ذكر الواقدي أنهم قدموا سنة تسع، وهم ثلاثة عشر رجلًا، منهم: لبيد بن ربيعة الشاعر،
وجبار بن سلمى، وكان بينه وبين كعب بن مالك خلّة، فرّحب به، وأكرمه، وأهدى إليه.
وجاؤا معه إلى رسول الله صَلَّى الله عليه وسلم فسلموا عليه بسلام الإسلام، وذكروا
له أن الضحاك بن سفيان الكلابي سار فيهم بكتاب الله، وسنة رسوله، التي أمره الله
بها، ودعاهم إلى الله فاستجابوا له، وأخذ صدقاتهم من أغنيائهم فصرفها على فقرائهم.
وفد بني رؤاس من كلاب:
ثم ذكر الواقدي أن رجلًا يقال له: عمرو بن مالك بن قيس بن بجيد بن رؤاس بن كلاب بن
ربيعة بن عامر بن صعصعة، قدم على رسول الله صَلَّى الله عليه وسلم، فأسلم، ثم رجع
إلى قومه فدعاهم إلى الله، فقالوا: حتى نصيب من بني عقيل مثل ما أصابوا منّا. فذكر
مقتلة كانت بينهم، وأن عمرو بن مالك هذا قتل رجلًا من بني عقيل، قال: فشددت يدي في
غل، وأتيت رسول الله صَلَّى الله عليه وسلم، وبلغه ما صنعت فقال: "لئن
أتاني، لأضرب ما فوق الغل من يده".
فلما جئت سلمت فلم يرد عليّ السلام وأعرض، فأتيته عن يمينه فأعرض عني، فأتيته عن
يساره فأعرض عني، فأتيته من قِبَل وجهه، فقلت: يا رسول الله؛ إن الرب عزّ وجلّ
ليرتضي فيرضى، فارض عني، رضي الله عنك. قال: "قد
رضيت".
وفد بني عقيل بن كعب:
ذكر الواقدي أنهم قدموا على رسول الله صَلَّى الله عليه وسلم فأقطعهم العقيق ــ
عقيق بنى عقيل ــ وهي أرض فيها نخيل وعيون، وكتب بذلك كتابًا: "بِسْمِ
اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ، هذا
ما أعطى محمد رسول الله ربيعًا ومطرفًا وأنسًا؛ أعطاهم العقيق ما أقاموا الصلاة،
وآتوا الزكاة، وسمعوا وطاعوا، ولم يعطهم حقًّا لمسلم"،
فكان الكتاب في يد مطرف، قال: وقدم عليه أيضًا لقيط بن عامر بن المنتفق بن عامر بن
عقيل، وهو أبو رزين، فأعطاه ماء، يقال له: النظيم، وبايعه على قومه.
وفد بني قشير بن كعب:
وذلك قبل حجة الوداع وقبل حنين، فذكر فيهم: قرة بن هبيرة بن عامر بن سلمة الخير بن
قشير، فأسلم فأعطاه رسول الله صَلَّى الله عليه وسلم، وكساه بردًا، وأمره أن يلي
صدقات قومه، فقال قرة حين رجع:
حباها رسولُ الله إذْ نزلتْ بهِ وأمْكَنَها من نائل غيرِ مُنْفِدِ
فأضحتْ بروضِ الخَضْرِ وهي حَثِيثةٌ وقد أنْجحتْ حَاجَاتِها من محمدِ
عليها فتى لا يَرْدِفُ الذمَّ رحْلُهُ يُرَوَّى لأمرِ العاجز المُتَرَدِّدِ
وفد بني البكاء:
ذكر أنهم قدموا سنة تسع، وأنهم كانوا ثلاثين رجلًا، فيهم: معاوية بن ثور بن معاوية
بن عبادة بن البكاء، وهو يومئذ ابن مائة سنة، ومعه ابن له، يقال له: بشر، فقال: يا
رسول الله، إني أتبرك بمسك، وقد كبرت، وابني هذا برٌّ بي، فامسح وجهه. فمسح رسول
الله صَلَّى الله عليه وسلم وجهه، وأعطاه أعنزًا عفرًا، وبرّك عليهن، فكانوا لا
يصيبهم بعد ذلك قحط ولا سنة. وقال محمد بن بشر بن معاوية في ذلك:
وأبي الذي مسحُ الرسولُ برأسه ودعا له بالخيرِ والبركاتِ أعطاه أحمدُ إذ أتاه
أعنُزًا عَفْرًا نواحل لسن باللحياتِ يملأنَ وَفْدَ الحي كلَّ عشيةٍ ويعودُ ذاكَ
الملئِ بالغَدَواتِ بُورِكنَ مِنْ مَنْح وبُورِكَ مانِحًا وعليه مِني ما حَييتُ
صلاتِي
وفد كنانة:
روى الواقدي بأسانيده: أن واثلة بن الأسقع الليثي قدم على رسول الله صَلَّى الله
عليه وسلم وهو يتجهز إلى تبوك، فصلَّى معه الصبح ثم رجع إلى قومه، فدعاهم وأخبرهم
عن رسول الله صَلَّى الله عليه وسلم، فقال أبوه: والله لا أحملك أبدًا، وسمعت أخته
كلامه فأسلمت، وجهزته حتى سار مع رسول الله صَلَّى الله عليه وسلم إلى تبوك، وهو
راكب على بعير لكعب بن عجرة. وبعثه رسول الله صَلَّى الله عليه وسلم مع خالد إلى
أكيدر دومة، فلما رجعوا عرض واثلة على كعب بن عجرة ما كان شارطه عليه من سهم
الغنيمة، فقال له كعب: إنما حملتك لله عز وجل.
وفد أشجع:
ذكر الواقدي: أنهم قدموا عام الخندق، وهم مائة رجل، ورئيسهم مسعود بن رخيلة، فنزلوا
شعب سلع، فخرج إليهم رسول الله وأمر لهم بأحمال التمر، ويقال: بل قدموا بعد ما فرغ
من بني قريظة، وكانوا سبعمائة رجل، فوادعهم ورجعوا، ثم أسلموا بعد ذلك.
وفد باهلة:
قدم رئيسهم مطرف بن الكاهن بعد الفتح، فأسلم، وأخذ لقومه أمانًا، وكتب له كتابًا؛
فيه الفرائض، وشرائع الإسلام، كتبه عثمان بن عفان رضي الله عنه.
وفد بني سليم:
قال: وقدم على رسول الله صَلَّى الله عليه وسلم رجل من بني سليم، يقال له: قيس بن
نشبة، فسمع كلامه، وسأله عن أشياء فأجابه، ووعى ذلك كله، ودعاه رسول الله صَلَّى
الله عليه وسلم إلى الاسلام، فأسلم، ورجع إلى قومه بني سليم، فقال: سمعت ترجمة
الروم، وهيمنة فارس، وأشعار العرب، وكهانة الكهان، وكلام مقاول حمير، فما يشبه كلام
محمد شيئًا من كلامهم، فأطيعوني، وخذوا بنصيبكم منه.
فلما كان عام الفتح، خرجت بنو سليم فلقوا رسول الله صَلَّى الله عليه وسلم بقديد،
وهم سبعمائة، ويقال: كانوا ألفًا، وفيهم: العباس بن مرداس، وجماعة من أعيانهم،
فأسلموا، وقالوا: اجعلنا في مقدمتك، واجعل لواءنا أحمر، وشعارنا مقدمًا. ففعل ذلك
بهم، فشهدوا معه: الفتح، والطائف، وحنينًا، وقد كان راشد بن عبد ربه السلمي يعبد
صنمًا، فرآه يومًا وثعلبان يبولان عليه، فقال:
أرَبٌ يَبُول الثعلبان برأسهِ لقَدْ زلَّ مَنْ بالت عليهِ الثّعالبُ
ثم شد عليه فكسره، ثم جاء إلى رسول الله صَلَّى الله عليه وسلم فأسلم، وقال له رسول
الله صَلَّى الله عليه وسلم: "ما
اسمك؟"،
قال: غاوي بن عبد العزى، فقال: "بل
أنت راشد بن عبد ربه".
وأقطعه موضعًا يقال له: رهاط، فيه عين تجري، يقال لها: عين الرسول، وقال: "هو
خير بني سليم"،
وعقد له على قومه، وشهد الفتح وما بعدها.
وفد بني هلال بن عامر:
وذكر في وفدهم: عبد عوف بن أصرم، فأسلم، وسمّاه رسول الله صَلَّى الله عليه وسلم:
عبد الله، وقبيصة بن مخارق، الذي له حديث في الصدقات، وذكر في وفد بني هلال: زياد
بن عبد الله بن مالك بن نجير بن الهدم بن روبية بن عبد الله بن هلال بن عامر، فلما
دخل المدينة يمم منزل خالته ميمونة بنت الحارث، فدخل عليها، فلما دخل رسول الله
صَلَّى الله عليه وسلم منزله رآه، فغضب ورجع، فقالت: يا رسول الله، إنه ابن أختى!
فدخل ثم خرج إلى المسجد ومعه زياد، فصلّى الظهر، ثم أدنا زيادًا فدعا له، ووضع يده
على رأسه، ثم حدرها على طرف أنفه، فكانت بنو هلال تقول: ما زلنا نتعرف البركة في
وجه زياد.
وقال الشاعر لعليّ بن زياد:
إن الذي مسح الرسول برأسه ودعا له بالخير عند المسجد
أعني زيادًا لا أريد سواءه من عابر أو منهم أو منجد
ما زال ذاك النور في عرنينه حتى تبوأ بيته في ملحد
وفد بني بكر بن وائل:
ذكر الواقدي: أنهم لما قدموا سألوا رسول الله صَلَّى الله عليه وسلم عن قس بن
ساعدة، فقال: "ليس
ذاك منكم، ذاك رجل من إياد، تحنّف في الجاهلية، فوافى عكاظ والناس مجتمعون، فكلّمهم
بكلامه الذي حُفظ عنه".
قال: وكان في الوفد: بشير بن الخصاصية، وعبد الله بن مرثد، وحسان بن خوط، فقال رجل
من ولد حسان: أنا وحسانُ بنُ خَوطٍ وأَبِي رسولُ بَكْرٍ كلّها إلى النبيّ
وفد بني تغلب:
ذكر أنهم كانوا ستة عشر رجلًا، مسلمين ونصارى عليهم صلب الذهب، فنزلوا دار رملة بنت
الحارث، فصالح رسول الله صَلَّى الله عليه وسلم النصارى على أن لا يضيعوا أولادهم
في النصرانية، وأجار المسلمين منهم.
وفادات أهل اليمن: وفد نجيب:
ذكر الواقدي: أنهم قدموا سنة تسع، وأنهم كانوا ثلاثة عشر رجلًا، فأجازهم أكثر ما
أجاز غيرهم. وأن غلامًا منهم قال له رسول الله صَلَّى الله عليه وسلم: "ما
حاجتك؟"،
فقال: يا رسول الله، ادع الله يغفر لي، ويرحمني، ويجعل غنائي في قلبي، فقال: "اللهم
اغفر له، وارحمه، واجعل غناه في قلبه"،
فكان بعد ذلك من أزهد الناس.
وفد خولان:
ذكر أنهم كانوا عشرة، وأنهم قدموا في شعبان سنة عشر، وسألهم رسول الله صَلَّى الله
عليه وسلم عن صنمهم الذي كان يقال له: عم أنس، فقالوا: أبدلناه خيرًا منه، ولو قد
رجعنا لهدمناه. وتعلموا القرآن، والسنن، فلمّا رجعوا هدموا الصنم، وأحلوا ما أحل
الله، وحرموا ما حرم الله.
وفد جعفي:
ذكر أنهم كانوا يحرّمون أكل القلب، فلمّا أسلم وفدهم، أمرهم رسول الله صَلَّى الله
عليه وسلم بأكل القلب، وأُمر به فشوي، وناوله رئيسهم، وقال: "لا
يتم إيمانكم حتى تأكلوه"،
فأخذه ويده ترعد، فأكله، وقال:
علَى أني أكلتُ القلبَ كُرْهًا وترْعَدُ حِينَ مسَّتْهُ بَنانِي
فصل في قدوم الأزد على رسول الله صَلَّى الله عليه وسلم:
ذكر أبو نعيم في كتاب "معرفة الصحابة"، والحافظ أبو موسى المديني، من حديث أحمد بن
أبي الحواري، قال: سمعت أبا سليمان الداراني قال: حدثني علقمة بن مرثد بن سويد
الأزدي، قال: حدثني أبي، عن جدي، عن سويد بن الحارث، قال: وفدت سابع سبعة من قومي
على رسول الله صَلَّى الله عليه وسلم، فلما دخلنا عليه وكلمناه، فأعجبه ما رأى من
سمتنا وزيّنا، فقال: "ما
أنتم؟"،
قلنا: مؤمنون، فتبسم رسول الله صَلَّى الله عليه وسلم وقال: "إن
لكل قول حقيقة، فما حقيقة قولكم، وإيمانكم؟".
قلنا: خمس عشرة خصلة؛ خمس منها أمرتنا بها رسلك أن نؤمن بها، وخمس أمرتنا أن نعمل
بها، وخمس تخلقنا بها في الجاهلية، فنحن عليها إلا أن تكره منها شيئًا.
فقال رسول الله صَلَّى الله عليه وسلم: "ما
الخمسة التي أمرتكم بها رسلي أن تؤمنوا بها؟"،
قلنا: أمرتنا أن نؤمن: بالله، وملائكته، وكتبه، ورسله، والبعث بعد الموت. قال: "وما
الخمسة التي أمرتكم أن تعملوا بها؟"،
قلنا: أمرتنا: أن نقول لا إله إلا الله، ونقيم الصلاة، ونؤتي الزكاة، ونصوم رمضان،
ونحجّ البيت مَن استطاع إليه سبيلًا. فقال: "وما
الخمسة الذي تخلقتم بها في الجاهلية؟"،
قالوا: الشكر عند الرخاء، والصبر عند البلاء، والرضى بمرّ القضاء، والصدق في مواطن
اللقاء، وترك الشماتة بالأعداء، فقال رسول الله صَلَّى الله عليه وسلم: "حكماء،
علماء، كادوا من فقههم أن يكونوا أنبياء"،
ثم قال: "وأنا
أريدكم خمسًا، فيتم لكم عشرون خصلة؛ إن كنتم كما تقولون، فلا تجمعوا ما لا تأكلون،
ولا تبنوا مالا تسكنون، ولا تنافسوا في شيء أنتم عنه غدًا تزولون، واتقوا الله الذي
إليه ترجعون، وعليه تعرضون، وارغبوا فيما عليه تقدمون، وفيه تخلدون".
فانصرف القوم من عند رسول الله صَلَّى الله عليه وسلم، وحفظوا وصيته، وعملوا بها.
ثم ذكر وفد كندة:
وأنهم كانوا بضعة عشر راكبًا، عليهم الأشعث بن قيس، وأنه أجازهم بعشر أواق، وأجاز
الأشعث ثنتي عشرة أوقية.
وفد الصدف:
قدموا في بضعة عشر راكبًا، فصادفوا رسول الله صَلَّى الله عليه وسلم يخطب على
المنبر، فجلسوا ولم يسلِّموا، فقال: "أمسلمون
أنتم؟!"،
قالوا: نعم، قال: "فهلا
سلمتم"،
فقاموا قيامًا، فقالوا: السلام عليك أيها النبيّ ورحمة الله وبركاته، فقال: "وعليكم
السلام، اجلسوا"،
فجلسوا، وسألوا رسول الله صَلَّى الله عليه وسلم عن أوقات الصلوات.
وفد خشين:
قال: وقدم أبو ثعلبة الخشني ورسول الله يجهز إلى خيبر، فشهد معه خيبر، ثم قدم بعد
ذلك بضعة عشر رجلًا منهم، فأسلموا.
وفد بني سعد:
ثم ذكر وفد بني سعد: هذيم، وبلى، وبهراء، وبني عذرة، وسلامان، وجهينة، وبني كلب،
والجرميين، وقد تقدم حديث عمرو بن سلمة الجرمي في "صحيح البخاري". وذكر وفد الأزد،
وغسان، والحارث بن كعب، وهمدان، وسعد العشيرة، وقيس، ووفد الداريين، والزهاويين،
وبني عامر، والمسجع، وبجيلة، وخثعم، وحضرموت. وذكر فيهم وائل بن حجر، وذكر فيهم
الملوك الأربعة: حميدًا، ومخوسًا، ومشرجا، وأبضعه. وقد ورد في "مسند أحمد" نعتهم مع
أخيهم الغمر، تكلم الواقدي كلامًا فيه طول. وذكر وفد أزدعمان، وغافق، وبارق، ودوس،
وثمالة، والحدار، وأسلم، وجذام، ومهرة، وحمير، ونجران، وحيسان.
وفد السباع:
قال الواقدي: حدثني شعيب بن عبادة، عن عبد المطلب بن عبد الله بن حنظب، قال: بينا
رسول الله صَلَّى الله عليه وسلم جالس بالمدينة في أصحابه، أقبل ذئب فوقف بين يديه
فعوى، فقال رسول الله صَلَّى الله عليه وسلم: "هذا
وافد السباع إليكم، فإن أحببتم أن تفرضوا له شيئًا لا يعدوه إلى غيره، وإن أحببتم
تركتموه، وتحذرتم منه، فما أخذ فهو رزقه"،
قالوا: يا رسول الله، ما تطيب أنفسنا له بشيء، فأومأ إليه النبي صَلَّى الله عليه
وسلم بأصابعه الثلاث، أي: خالسهم، فولّى وله عسلان، وهذا مرسل من هذا الوجه.
ويشبه هذا الذئب، الذئب الذي ذكر في الحديث الذي رواه الإمام أحمد، حدثنا يزيد بن
هارون، أنبانا القاسم بن الفضل الحراني، عن أبي نضرة، عن أبي سعيد الخدري، قال: عدا
الذئب على شاة فأخذها، فطلبها الراعي فانتزعها منه، فأقعى الذئب على ذنبه، فقال:
ألا تتقي الله، تنزع مني رزقًا ساقة الله إليَّ! فقال: يا عجبًا، ذئب مقع على ذنبه
يكلمني كلام الإنس! فقال الذئب: ألا أخبرك بأعجب من ذلك، محمد رسول الله صَلَّى
الله عليه وسلم بيثرب، يخبر الناس بأنباء ما قد سبق. قال: فأقبل الراعي يسوق غنمه
حتى دخل المدينة، فزاواها إلى زاوية من زواياها، ثم أتى رسول الله صَلَّى الله عليه
وسلم فأخبره، فأمر رسول الله صَلَّى الله عليه وسلم فنُودي: الصلاة جامعة، ثم خرج
فقال للأعرابي: "أخبرهم"،
فأخبرهم، فقال رسول الله صَلَّى الله عليه وسلم: "صدق،
والذي نفس محمد بيده، لا تقوم الساعة حتى تكلم السباع الإنس، وتكلم الرجل عذبة
سوطه، وشراك نعله، وتخبره فخذه بما أحدث أهله بعده".
وقد رواه الترمذي عن سفيان بن وكيع بن الجراح، عن أبيه، عن القاسم بن الفضل به،
وقال: حسن غريب صحيح، لا نعرفه إلا من حديث القاسم بن الفضل به، وهو ثقة مأمون عند
أهل الحديث، وثَّقه يحيى وابن مهدي.
قلت: وقد رواه الإمام أحمد أيضًا: حدثنا أبو اليمان، أنبأنا شعيب، هو ابن أبي حمزة،
حدثني عبد الله بن أبي الحسين، حدثني مهران، أنبأنا أبو سعيد الخدري حدثه، فذكر هذه
القصة بطولها بأبسط من هذا السياق. ثم رواه أحمد، حدثنا أبو النضر، حدثنا عبد
الحميد بن بهرام، حدثنا شهر، قال: وحدث أبو سعيد فذكره، وهذا السياق أشبه والله
أعلم، وهو إسناد على شرط أهل السنن، ولم يخرجوه.