قال الله تعالى في كتابه العزيز الله خالق كل شيء وهو على كل شيء وكيل فكل ما سواه تعالى فهو مخلوق له مربوب مدبر مكون بعد أن لم يكن محدث بعد عدمه فالعرش الذي هو سقف المخلوقات إلى ما تحت الثرى وما بين ذلك من جامد وناطق الجميع خلقه وملكه وعبيده وتحت قهره وقدرته وتحت تصريفه ومشيئته خلق السموات وما بينهما في ستة أيام ثم استوى على العرش يعلم ما يلج في الأرض وما يخرج منها وما ينزل من السماء وما يعرج فيها وهو معكم أينما كنتم والله بما تعملون بصير
وقد أجمع العلماء قاطبة لا يشك في ذلك مسلم أن الله خلق السموات والأرض وما بينهما في ستة أيام كما دل عليه القرآن الكريم فاختلفو في هذه الأيام أهي كأيامنا هذه أو كل يوم كألف سنة مما تعدون على قولين كما بينا ذلك في التفسير وسنتعرض لإيراده في موضعه واختلفوا هل كان قبل خلق السموات والأرض شيء مخلوق قبلهما فذهب طوائف من المتكلمين إلى أنه لم يكن قبلهما شيء وأنهما خلقتا من العدم المحض وقال آخرون بل كان قبل السموات والأرض مخلوقات أخر لقوله وهو الذي خلق السموات والأرض في ستة أيام وكان عرشه على الماء الآية وفي حديث عمران بن حصين كما سيأتي كان الله ولم يكن قبله شيء وكان عرشه على الماء وكتب في الذكر كل شيء ثم خلق السموات والأرض وقال الإمام أحمد بن حنبل حدثنا بهز حدثنا حماد بن سلمة حدثنا أبو يعلى بن عطاء عن وكيع بن حدس عن عمه أبي رزين لقيط بن عامر العقيلي انه قال يا رسول الله أين كان ربنا قبل ان يخلق السموات والأرض قال كان في عماء ما فوقه هواء وما تحته هواء ثم خلق عرشه على الماء ورواه عن يزيد بن هرون عن حماد بن سلمة به ولفظه أين كان ربنا قبل ان يخلق خلقه وباقيه سواء وأخرجه الترمذي عن أحمد بن منيع وابن ماجة عن أبي بكر بن ابي شيبة ومحمد بن الصباح ثلاثتهم عن يزيد بن هرون وقال الترمذي حسن واختلف هؤلاء في ايها خلق اولا فقال قائلون خلق القلم قبل هذه الأشياء كلها وهذا هو اختيار ابن جرير وابن الجوزي وغيرهما قال ابن جرير وبعد القلم السحاب الرقيق واحتجوا بالحديث الذي رواه الإمام احمد وأبو داود والترمذي عن عبادة بن الصامت رضي الله عنه قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم إن أول ما خلق الله القلم ثم قال له اكتب فجرى في تلك الساعة بما هو كائن إلى يوم القيامة لفظ أحمد وقال الترمذي حسن صحيح غريب والذي عليه الجمهور فيما نقله الحافظ أبو العلاء الهمداني وغيره أن العرش مخلوق قبل ذلك وهذا هو الذي رواه ابن جرير من طريق الضحاك عن ابن عباس كما دل على ذلك الحديث الذي رواه
مسلم في صحيحه حيث قال حدثني أبو الطاهر احمد بن عمرو بن السرج حدثنا ابن وهب اخبرني ابو هانيء الخولاني عن أبي عبدالرحمن الجيلي عن عبدالله بن عمرو بن العاص قال سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول كتب الله مقادير الخلائق قبل ان يخلق السموات والأرض بخمسين ألف سنة قال وعرشه على الماء قالوا فهذا التقدير هو كتابته بالقلم المقادير وقد دل هذا الحديث أن ذلك بعد خلق العرش فثبت تقديم العرش على القلم الذي كتب به المقادير كما ذهب إلى ذلك الجماهير ويحمل حديث القلم على أنه أول المخلوقات من هذا العالم ويؤيد هذا ما رواه البخاري عن عمران بن حصين قال قال أهل اليمن لرسول الله صلى الله عليه وسلم جئناك لنتفقه في الدين ولنسألك عن أول هذا الأمر فقال كان الله ولم يكن شيء قبله وفي رواية معه وفي رواية غيره وكان عرشه على الماء وكتب في الذكر كل شيء وخلق السموات والأرض وفي لفظ ثم خلق السموات والأرض فسألوه عن ابتداء خلق السموات والأرض ولهذا قالوا جئناك نسألك عن أول هذا الأمر فأجابهم عما سألوا فقط ولهذا لم يخبرهم بخلق العرش كما أخبر به في حديث أبي رزين المتقدم قال ابن جرير وقال آخرون بل خلق الله عز وجل الماء قبل العرش رواه السدي عن أبي مالك وعن أبي صالح عن ابن عباس وعن مرة عن ابن مسعود وعن ناس من اصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم قالوا إن الله كان عرشه على الماء ولم يخلق شيئا غير ما خلق قبل الماء وحكى ابن جرير عن محمد بن إسحاق انه قال أول ما خلق الله عز وجل النور والظلمة ثم ميز بينهما فجعل الظلمة ليلا أسود مظلما وجعل النور نهارا مضيئا مبصرا قال ابن جرير وقد قيل أن الذي خلق ربنا بعد القلم الكرسي ثم خلق بعد الكرسي العرش ثم خلق بعد ذلك الهواء والظلمة ثم خلق الماء فوضع عرشه على الماء والله سبحانه وتعالى أعلم فصل
فيما ورد في صفة خلق العرش والكرسي قال الله تعالى رفيع الدرجات ذو العرش وقال تعالى فتعالى الله الملك الحق لا إله إلا هو رب العرش الكريم وقال الله لا إله إلا هو رب العرش العظيم وقال وهو الغفور الودود ذو العرش المجيد وقال تعالى الرحمن على العرش استوى وقال ثم استوى على العرش في غير ما آية من القرآن وقال تعالى الذين يحملون العرش ومن حوله يسبحون بحمد ربهم ويؤمنون به ويستغفرون للذين آمنوا ربنا وسعت كل شيء رحمة وعلما
وقال تعالى ويحمل عرش ربك فوقهم يومئذ ثمانية وقال تعالى وترى الملائكة حافين من حول العرش يسبحون بحمد ربهم وقضي بينهم بالحق وقيل الحمد لله رب العالمين وفي الدعاء المروي في الصحيح في دعاء الكرب لا إله إلا الله العظيم الحليم لا إله إلا الله رب العرش الكريم لا إله إلا الله رب السموات ورب الأرض رب العرش الكريم وقال الإمام احمد حدثنا عبد الرزاق حدثنا يحيى بن العلاء عن عمه شعيب بن خالد حدثني سماك بن حرب عن عبدالله بن عميرة عن الأحنف ابن قيس عن عباس بن عبد المطلب قال كنا جلوسا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم بالبطحاء فمرت سحابة فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم أتدرون ما هذا قال قلنا السحاب قال والمزن قال قلنا والمزن قال والعنان قال فسكتنا فقال هل تدرون كم بين السماء والأرض قال قلنا الله ورسوله أعلم قال بينهما مسيرة خمسمائة سنة ومن كل سماء إلى سماء مسيرة خمسمائة سنة وكشف كل سماء مسيرة خمسمائة سنة وفوق السماء السابعة بحر بين أسفله وأعلاه كما بين السماء والأرض ثم فوق ذلك ثمانية أوعال بين ركبهن وأظلافهن كما بين السماء والأرض ثم على ظهورهم العرش بين أسفله وأعلاه كما بين السماء والأرض والله فوق ذلك وليس يخفى عليه من أعمال بني آدم شيء هذا لفظ الإمام أحمد ورواه أبو داود وابن ماجه والترمذي من حديث سماك بإسناده نحوه وقال الترمذي هذا حديث حسن وروى شريك بعض هذا الحديث عن سماك ووقفه ولفظ أبي داود وهل تدرون بعد ما بين السماء والأرض قالوا لا ندري قال بعد ما بينهما إما واحدة أو اثنتين أو ثلاثة وسبعون سنة والباقي نحوه وقال أبو داود حدثنا عبد الأعلى بن حماد ومحمد بن المثنى ومحمد بن بشار وأحمد بن سعيد الرباطي قالوا حدثنا وهب بن جرير قال أحمد كتبناه من نسخته وهذا لفظه قال حدثنا أبي قال سمعت محمد بن إسحاق يحدث عن يعقوب بن عقبة عن جبير بن محمد بن جبير ابن مطعم عن أبيه عن جده قال أتى رسول الله صلى الله عليه وسلم أعرابي فقال يا رسول الله جهدت الأنفس وجاعت العيال ونهكت الأموال وهلكت الأنعام فاستسق الله لنا فإنا نستشفع بك على الله ونستشفع بالله عليك قال رسول الله صلى الله عليه وسلم ويحك أتدري ما تقول وسبح رسول الله صلى الله عليه وسلم فما زال يسبح حتى عرف ذلك في وجوه أصحابه ثم قال ويحك إنه لا يستشفع بالله على أحد من خلقه شأن الله أعظم من ذلك ويحك أتدري ما الله إن عرشه على سمواته لهكذا وقال بأصابعه مثل القبة عليه وإنه ليئط به أطيط الزحل بالراكب قال ابن بشار في
حديثه أن الله فوق عرشه وعرشه فوق سمواته وساق الحديث وقال عبد الأعلى وابن المثنى وابن بشار عن يعقوب بن عقبة وجبير بن محمد بن جبير عن أبيه عن جده قال أبو داود والحديث بإسناد أحمد بن سعيد وهو الصحيح وافقه عليه جماعة منهم يحيى بن معين وعلي بن المديني ورواه جماعة منهم عن ابن إسحاق كما قال احمد ايضا وكان سماع عبد الأعلى وابن المثنى وابن بشار في نسخة واحدة فيما بلغني تفرد بإخراجها أبو داود وقد صنف الحافظ أبو القاسم بن عساكر الدمشقي جزءا في الرد على هذا الحديث سماه ببيان الوهم والتخليط الواقع في حديث الأطيط واستفرغ وسعه في الطعن على محمد بن إسحاق بن بشار راويه وذكر كلام الناس فيه ولكن قد روي هذا اللفظ من طريق أخرى عن غير محمد بن إسحاق فرواه عبد بن حميد وابن جرير في تفسيريهما وابن أبي عاصم والطبراني في كتابي السنة لهما والبزار في مسنده والحافظ الضياء المقدسي في مختاراته من طريق أبي إسحاق السبيعي عن عبدالله بن خليفة عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه قال أتت امرأة إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالت ادع الله أن يدخلني الجنة قال فعظم الرب تبارك وتعالى وقال إن كرسيه وسع السموات والأرض وإن له أطيطا كأطيط الزحل الجديد من ثقله عبدالله بن خليفة هذا ليس بذاك المشهور وفي سماعه من عمر نظر ثم منهم من يرويه موقوفا ومرسلا ومنهم من يزيد فيه زيادة غريبة والله أعلم
وثبت في صحيح البخاري عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال إذا سألتم الله الجنة فسلوه الفردوس فإنه أعلى الجنة وأوسط الجنة وفوقه عرش الرحمن يروى وفوقه بالفتح على الظرفية وبالضم قال شيخنا الحافظ المزي وهو أحسن أي وأعلاها عرش الرحمن وقد جاء في بعض الآثار أن أهل الفردوس يسمعون أطيط العرش وهو تسبيحه وتعظيمه وما ذاك إلا لقربهم منه وفي الصحيح أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لقد اهتز عرش الرحمن لموت سعد بن معاذ وذكر الحافظ بن الحافظ محمد بن عثمان بن أبي شيبة في كتاب صفة العرش عن بعض السلف أن العرش مخلوق من ياقوتة حمراء بعد ما بين قطريه مسيرة خمسين ألف سنة وذكرنا عند قوله تعالى تعرج الملائكة والروح إليه في يوم كان مقداره خمسين ألف سنة أنه بعد ما بين العرش إلى الأرض السابعة مسيرة خمسين ألف سنة واتساعه خمسون ألف سنة وقد ذهب طائفة من أهل الكلام إلى أن العرش فلك مستدير من جميع جوانبه محيط بالعالم من كل جهة ولذا سموه الفلك التاسع والفلك الأطلس والأثير وهذا ليس بجيد لأنه قد ثبت في الشرع أن له قوائم تحمله الملائكة والفلك لا يكون له قوائم ولا يحمل وأيضا فإنه فوق الجنة والجنة فوق السموات وفيها مائة درجة ما بين كل درجتين كما بين السماء والأرض فالبعد الذي بينه وبين الكرسي ليس هو نسبة فلك إلى فلك وأيضا فإن العرش في اللغة عبارة عن السرير
الذي للملك كما قال تعالى ولها عرش عظيم وليس هو فلكا ولا تفهم منه العرب ذلك والقرآن إنما نزل بلغة العرب فهو سرير ذو قوائم تحمله الملائكة وهو كالقبة على العالم وهو سقف المخلوقات قال الله تعالى الذين يحملون العرش ومن حوله يسبحون بحمد ربهم ويؤمنون به ويستغفرون للذين آمنوا وقد تقدم في حديث الأوعال أنهم ثمانية وفوق ظهورهن العرش وقال تعالى ويحمل عرش ربك فوقهم يومئذ ثمانية وقال شهر بن حوشب حملة العرش ثمانية أربعة منهم يقولون سبحانك اللهم وبحمدك لك الحمد على حلمك بعد علمك وأربعة يقولون سبحانك اللهم وبحمدك لك الحمد على عفوك بعد قدرتك فأما الحديث الذي رواه الإمام أحمد حدثنا عبدالله بن محمد هو أبو بكر ابن أبي شيبة حدثنا عبدة بن سليمان عن محمد بن إسحاق عن يعقوب بن عقبة عن عكرمة عن ابن عباس أن رسول الله صلى الله عليه وسلم صدق أمية يعني ابن أبي الصلت في بيتين من شعره فقال ... رجل وثور تحت رجل يمينه ... و النسر للأخرى وليث مرصد ...
فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم صدق فقال ... والشمس تطلع كل آخر ليلة ... حمراء مطلع لونها متورد ... تأبى فلا تبدو لنا في رسلها ... إلا معذبة وإلا تجلد ...
فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم صدق فإنه حديث صحيح الإسناد رجاله ثقات وهو يقتضي أن حملة العرش اليوم أربعة فيعارضه حديث الأوعال اللهم إلا أن يقال إن إثبات هؤلاء الأربعة على هذه الصفات لا ينفي ما عداهم والله أعلم ومن شعر أمية بن أبي الصلت في العرش قوله ... مجدوا الله فهو للمجد أهل ... ربنا في السماء أمسى كبيرا ... بالبناء العالي الذي بهر النا ... س وسوى فوق السماء سريرا ... شرجعا لا يناله بصر العي ... ن ترى حوله الملائك صورا ...
صور جمع أصور وهو المائل العنق لنظره إلى العلو والشرجع هو العالي المنيف والسرير هو العرش في اللغة ومن شعر عبدالله بن رواحة رضي الله عنه الذي عرض به عن القراءة لامرأته حين اتهمته بجاريته
... شهدت بأن وعد الله حق ... وأن النار مثوى الكافرينا ... وأن العرش فوق الماء طاف ... وفوق العرش رب العالمينا ... وتحمله ملائكة كرام ... ملائكة الإله مسومينا ...
ذكره ابن عبد البر وغير واحد من الأئمة وقال أبو داود حدثنا أحمد بن حفص بن عبدالله حدثني أبي حدثنا إبراهيم بن طهمان عن موسى بن عقبة عن محمد بن المنكدر عن جابر بن عبدالله
أن النبي صلى الله عليه وسلم قال أذن لي أن أحدث عن ملك من ملائكة الله عز وجل من حملة العرش أن ما بين شحمة أذنه إلى عاتقه مسيرة سبعمائة عام ورواه ابن أبي عاصم ولفظه محقق الطير مسيرة سبعمائة عام .