فادي شامية
حتى أشهرٍ مضت؛ كان أحبابه من العالم كله يتقاطرون إليه؛ في أفواههم قبلة الوداع الأخير، ومن عيونهم ينثرون العَبَرات على طريق الفراق المحتوم. يُمنون أنفسهم بسماع تمتماتٍ من صوته الجهوري، أو اقتناص آخر النظرات لإسكات الفؤاد عندما ينبض لأهل الفضل، أو ملامسة بشرة وجهه الراضي بقضاء الله وقدره. دموع غزيرة سبقت الوفاة إلى العيون، لكنها لم تغنِ عن دمعة فراقٍ سخية لمّا وقع القدَر، كأنها لم تتحضّر من قبلُ لهول هذا الخبَر.
عندما دهمت وفاته حياة الناس، توقف الزمن لحظةً، لينطق رأس كل محبٍ عما يعرفه عن فيصل مولوي الذي مضى، فقبل سبعين عاماً سطّر الزمن بفرحٍ غامضٍ يوم ميلاده. وما خاب ظن الزمان فيه، فقد أنبته الله نباتاً حسناً، وكساه رداء العلم، وجلّله بفضل الحكمة، فباتت الأيام تسْتروِح الغفوَ على لاحظيه، كلما أرهقها انحراف الناس وظلمهم.
أفعَمَته التجارب تحت أقواس العدل، وفَرَعَ اسمه بين أقرانه في دقة التأصيل، وارتقت شمائل كتاباته في منهج الاعتدال؛ فما يصدُفُ عن النهل منه طالب علم، ولا يمتنع عن إدراك فضله شاهد عدل، وكان في حياته يحرث بأصابعه الأرض الجاسِية، فيزرع في جوفها بذوراً يظلل نباتُها السالكين، عندما تورفُ تحت الشمس.
كانت "الجماعة الإسلامية" نبتته التي عفّر يديه -مع إخوانه- في رعايتها، حتى ضربت جذورها في الأرض، وامتشقت نفسها أمام شقيقاتها "الأخوانية" فوق هذا الكوكب، وتحت أولى وريقاتها عقد طلائع الحلقات، وأخذ العهد من باكورة الثمار، ووضع غراس المؤسسات الشرعية، والدعوية، والصحية، والتربوية، والاجتماعية، والإعلامية... حيث يجهد الزرّاع إذا ما عزموا.
هَفَت إليه أوروبا، "فانتزعته" من بين تلامذته خمس سنوات؛ رسم خلالها مستقبل الدعوة لجموع المسلمين وشَتيتِهم في القارة العجوز. فيها أسس الاتحادات والروابط الطالبية، والكليات والمعاهد الشرعية... وفوق ترابها بنى أكبر المنظمات الإسلامية؛ فما الْتَاثَ في عملٍ، ولا تواكل في جهدٍ، حتى "استرده" أخوانه في لبنان ليكون معهم، وسط محن الاحتراب الأهلي؛ مخففاً من بشاعاتها، ومبلسماً لجراحاتها.
في العام 1992 انتخبه إخوانه وأبناؤه على رأس جماعتهم، فحمل الأمانة العامة بكل جدارة إلى أن أعجزه المرض عنها، فرقد في فراشه؛ يتجرّع وجع أشلائه، ويتصبّر على تركه أبناءه وأصحابه، ويتطهّر من كل خطأ أصابه... حتى نَضَا جسده، فتحررت روحه للأبد (8/5/2011)، تاركةً للدنيا؛ أبناءً استبد بهم الأسى، بعدما استشعروا فَقَدَ من علّمهم الحياة... بحنوّ المربي، وحكمة القائد.
في لحظة تأمل الزمن؛ تجول أوقات عزيزة في ذهن حامل القلم؛ تستذكر اللقاء الأول، والاتصال الأول، والسَفَر الأول. تخجل من قوة التواضع إزاء زهو الحماسة، ومن تقصير الفتى في حضرة الوالد. تستلهم قدرة أنفاس ألهبت المشاعل، وتحاول السير الصعب بمنجىً عن الزيف العنيد. في لحظة التأمل هذه؛ استشعارٌ لمكانة عالمٍ عامل، وفقيهٍ مرشد، وعلمٍ يحترمه العالم، وحاملٍ للقب أحسن داعية إسلامي في أوروبا، وممسكٍ بشغاف قلوب عشرات ألوف المحبين في لبنان والعالم.
ليس سهلاً إيفاء هذا الرجل حقه، ولا إدراك فضله، ولكن حسبُه أن داره أوفى من دارنا، التي أهداها أجيالاً متفتحةً تموج في الأرض، ومؤسساتٍ تشهد أن الشيخ مر من هنا، وأن روحه ستبقى هنا.