« الطفل الشهيد فارس عوده الذي واجهه الميركافا بحجر »






 
 وقبل أن تغط في نوم عميق يتخلله حلم قاس؛ ولدها "فارس" غارق في دمه رغم انتصاره في حرب غير متكافئة كان سلاحه فيها حجرًا، تتقلب أمه على الجمر، غير أن الجمع يزفه وبرفقته ابن خالته "شادي" الشهيد قبل أيام، لحظة سقوطه تراها بالتفصيل، على بعد خطوات يحلم "فارس" بمعركته الرابحة، رقصته أمام دبابات الجنود .

تفزع الأم من نومها -كان ذلك قبيل الفجر- تهرع نحو فراشه، تتلمسه فتجده حيًا، تحمد الله، تقبل وجنتيه، يستيقظ، تخالط دموعها المُسالة دون توقف دهشته، يرتدي زي المدرسة في همة، بحماس ملتهب يسير في شارع صلاح الدين بغزة، بوجه يحمل ألف تعبير يستدير وهو يقول "مع السلامة يا أمّا"، ساعات ويرن الهاتف، تتبعه الأم بصرخة قبل أن ترفع السماعة وهي تقول: "ابني راح شهيد.. لا إله إلا الله".

رحل "فارس عودة" وهو لم يكمل عامه الخامس عشر بعد، لكنه عاش حيوات عدة تدور في فلك المقاومة، تقول أمه إنه لم يكن طفلًا عاديًا "وهو عنده ست سنوات مكنش يقول عايز ملاهي أو متنزهات.. كان يقول بدي أطرد اليهود"، برفقة والدته يمران بجوار دبابة إسرائيلية فيترك يدها ويمسك حجرا يوجهه صوب الجنود، تلحق به الأم وهي تنهره "لما تكبر يا حبيبي نجيب سلاح"، فيرد كرجل يعرف للشجاعة دقائقها "الحجر عندنا أهم من الكلاشنكوف".


حين وطأت قدما شارون المسجد الأقصى، لم ينتظر الصبي الصغير اندلاع الانتفاضة في القدس الشرقية، فتح باب منزله المتواضع بغزة، وراح يصيح في شارع صلاح الدين بأعلى صوته مناديًا على الرجال وحتى العجائز كي يهبوا لنصرة الحرم الشريف، يقول له الأب "على وين رايح إحنا فين والقدس فين"، فيرد بتلقائية "اليهود عبروا الأقصى وإحنا بدنا نعبر عليهم نقتلهم"، فكانت وجهته قبل مستوطنة "نتساريم" بالقرب من ذلك المكان الذي وقع فيه محمد الدرة شهيدا بعد أيام.

في بداية إحدى الأعوام الدراسية اتخذ "فارس" القرار "بدي أنقل من مدرسة الشافعي"، كانت المدرسة قريبة من المنزل، فلم تفهم الأم السبب، بإلحاح أصر أن يلتحق بمدرسة "تونس" فكان له ما أراد، بعدها بأيام انكشف الأمر، فمكان الدراسة الجديد أقرب لموقع جنود الصهاينة مما يسهل على "فارس" مهمته الأثيرة.

نضج الفتى عقلًا رُغم عمره الصغير، حمل مسئولية أخويه المُعاقين "كمال وفاضل".. " كل يوم يحميهم ويوضيهم ويخليهم يصلوا"، ثم يذهب العشاء لـ"يطبش" الجنود –بالأحجار- كجدول يومي، يذهب ثلاثتهم للمواجهات "فارس وأخوه الكبير محمد وشادي ابن خالته"، وذات يوم خلال المناورات، انطلقت رصاص تتجه بحزم لرأس "فارس"، غير أن شادي من تصدى لها، يومها عاد إلى البيت "وشه أصفر زي الكركم" يقول لها "جت في راسه بدالي"، بعدها رحل إليه الفتى "كانو زي الإخوة".

كل يوم منذ بدء الانتفاضة الثانية يهرب "فارس" من المدرسة بعد الحصة الثالثة، أثناء الفُسحة يقفز فوق سورها، يرتدي ملابس غير رداء المدرسة "عشان أبوه ميعرفش"، بجسد ضئيل يستجمع كل ما أوتي من عزم، يفتت الحجارة أسفل قدمه، يقف على بعد مترين من دبابة إسرائيلية، شدة الضرب تضطر رفاق المعركة للابتعاد فيما يواجه هو جسورًا، يقول "ها دول اليهود قاتلونا، أخذوا وطننا، أخذوا الأقصى".

الطفل الشهيد فارس عوده بطل من ابطال الانتفاضة في فلسطين

شجاعة "فارس" التي واجه بها الصهاينة، كانت تنحسر أمام أبيه، يخبـأ ملابسه التي يظهر عليها الدماء، غير أن علامات جسده تشهد "عليه علامات الحرق من الغاز والنار اللي بتكون حواليه"، يصوره أحد المصورين، تتناقل صورته بين القنوات ووكالات الأنباء، رجا أمه ألا تخبر والده، لكن أبوه يعلم بذهابه للدبابات، يضربه، ومع ذلك "فارس" لا يتوانى أو يخاف.

في مواجهاته اليومية أمام الصهاينة يُناورهم، يَدْبك في مواجهة من يتخذون من دبابتهم ساتر، يمد يمناه على آخرها، يُمسك بالأخرى حجرًا يقذفه عليهم، قدم يُثبتها على الأرض، ويرمي الأخرى إلى الأعلى كشاكوش، راقص الدبكة يحيا، يفور غضبهم داخلهم، هم لا يطولونه، فيما تتقافز النشوة من عينيه، يُغني "لو كسروا عظامي مش خايف.. لو هدوا بيتي مش خايف".


ينفلت حذاء "فارس"، يوقف رقصته قليلًا، في تلك الدقائق القليلة ينتهز الصهاينة انشغال الصبي بنعله، تغتاله رصاصة مكتومة الصوت، فيسيل دمه وهو ينادي أصدقائه أن يسعفوه، ظنه الرفاق يلهو، كشلال تنزف رقبته، الدم الذي جرى لا تخطئه الأعين، بابتسامة طازجة يقهر سقوطه وهو يلوح لأصحابه بأن يتجهوا صوب قاتليه، قبل أن يتبعها بكلمة أخيرة وهو يهذي "وين أمي"، وتسقط رأسه على الأحجار التي كانت ذخيرته أمام تكنولوجيا يتخفى ورائها جنود مدججون، أرهبتهم يد الصغير "فارس".


لا يغيب "فارس" عن ذاكرة الأم المكلومة، يشاركها أيامها، بخيالاتها يَدْبُك الفتى وهو يغني "عَلّي الكوفية وعلِّي"، يأتيها في الحلم مقدمًا باقة من ورد يانع، فتصحو الأم على خبر حج بيت الله، يرن صوتها وهي تحكي عن عيد الأم وهدية وليدها التي لا تتبدل؛ سلسلة صغيرة ووردة يقتطع مقابلهم من مصروفه اليومي، مناغشاته التي لا تنقطع، دس رأسه في حجرها كوليد، ونظرة ثم قبلة على جبينه، دعوة أن يحرسه الله من عين الجبناء، طلباته في شهر رمضان "لحد دلوقتي بنزل أجيب الحاجة اللي بيحبها كأنه معايا"، خصاله المحببة إلى قلب الأم؛ دماثة الخلق، الشجاعة، مساعدة أهل الحي، وكتمان الأسرار، لحظات تدمي لها عين "أم فارس".

الشهيد فارس عودة

بعد وفاة "فارس" بثلاثة أعوام كانت عائلة "عودة" تستقبل طفلًا صغيرًا لشقيق الشهيد الراحل، فقررت الأم أن تسميه "فارس" وفي الحرب الأخيرة على غزة في صيف 2014 بينما كان يسير الصغير وسط أهله أطلقت زنانة –طائرة- إسرائيلية قذيفة -في وقت الهدنة- ليقع على أثرها الطفل صاحب الإحدى عشر عاما مصابا في قدمه اليمنى، وكأنه لا يوجد أمام أهل غزة وفي القلب منزل "عودة" إلى خياران "الشهادة" أو استكمال الحياة بِجروح غائرة.

"ابنك بطل".. شهادة يُعزيها بها كل من عرفوا فارس عن قرب أو لم يعرفه، صورة زلزلت العالم ولاتزل، توضع في أعين الأجبن مثال للسخرية منهم، فتى صغير تمكن من هز قلوب أعدائه خوفًا، وصغار يسيرون اليوم على دربه بحجارة تقهر أعتاهم.




» تاريخ النشر: 2020-08-26
» تاريخ الحفظ: 2024-03-28
» شبكة الشفاء الاسلامية
.:: https://www.ashefaa.com ::.