وفي تقرير مطول لصحيفة لوموند الفرنسية، قالت مراسلتها في القاهرة هيلين سالون إن أول صرح يبرز مكتملا للعيان من هذا المشروع هو مسجد الفتاح العليم القائم على الرمال مثل سراب في الصحراء، والمغطى بالرخام الأبيض، ليقف حارسا على مدخل العاصمة الإدارية المصرية في المستقبل.
وبين هذا الصرح وكاتدرائية ميلاد المسيح القبطية الكبرى في البلاد، مساحة شبه فارغة تمتد 16 كيلومترا، وتتخللها مواقع للبناء وعدد قليل من المباني المكتملة.
وقالت المراسلة إن جيشا من العمال والمهندسين والعساكر يعمل ليل نهار في هذا المكان، ليحققوا أحلام عظمة "سيد البلاد" ويجسدوها في بناء قطعة من الصحراء بحجم سنغافورة، لتكون نافذة على مصر الغد.
"مدينة السيسي" كما يسميها المصريون صممت لتكون حديثة وصحية وآمنة ومستدامة ومتصلة، ومركزا للسلطة قادرا على التنافس مع كبرى عواصم العالم، حيث يقول المسؤول الذي ينظم زيارة الموقع إن "المصريين لهم الحق في أن يحلموا وفي أن يحققوا أحلامهم".
غير أن معارضي هذا المشروع يردون بأنه مشروع للتباهي على صورة مصممه عبد الفتاح السيسي، وإنه "سراب بدأ بالتشكل ليصبح إرث السيسي الذي يتركه لبلده".
وترى المراسلة أن فكرة هذه المدينة تأتي في صلب الأزمة التي تعيشها عاصمة مصر التي يبلغ عدد سكانها 23 مليون نسمة وسيصلون إلى 40 مليونا بحلول عام 2050، تعج بهم مدينة ضخمة مترامية الأطراف تعيش تحت وطأة التلوث والاختناقات المرورية والبناء الفوضوي للأحياء العشوائية.
وفي مخطط هذه العاصمة التي ستبنى على مساحة 756 كيلومترا مربعا، هناك 21 حيا سكنيا وألفا مدرسة وست جامعات أجنبية وأربعون ألف غرفة فندقية، ومطار أكبر من مطار هيثرو في لندن و15 مدينة طبية وحديقة خضراء تساوي ضعفي مساحة سنترال بارك و91 كيلومترا مربعا من المرايا الشمسية.
وهناك أيضا منطقة تجارية فيها 21 ناطحة سحاب، بما في ذلك أطول برج في أفريقيا يصل ارتفاعه إلى 345 مترا، فضلا عن ثلاثين وزارة ومبنى للبرلمان ومنطقة دبلوماسية، إضافة إلى قصر رئاسي جديد تبلغ مساحته 17 كيلومترا مربعا، وجميع ذلك مراقب بواسطة عدد لا يحصى من الكاميرات متصلة بمركز تحكم مركزي.
وستكون العاصمة الجديدة موطنا للبنوك والشركات الكبرى، فضلا عن الممثليات الدبلوماسية الأجنبية، إذ يقول دبلوماسي إن "هناك ضغوطا قوية على جميع السفارات للانتقال إلى منطقة ستكون منطقة دبلوماسية في المستقبل".
الجيش هو المقاول
وقالت المراسلة إن يد الإمارات -الراعية المالية لمصر والراعية لمؤتمر شرم الشيخ - ليست خفية في هذا المشروع، خاصة أن الرئيس التنفيذي لشركة إعمار العقارية محمد العبار -مطوّر برج خليفة ومستشار أمير دبي - كان من المفترض أن يكون صاحب هذا المشروع، إلا أن فسخ التفاهم التي وقعه مع مصر أثار الشكوك حول مشروع يعتبر طَموحا لدرجة أنه لا يمكن أن يكون مجديا ولا مربحا.
وبعيدا عن التراجع بعد تقاعس الإمارات، دعت الحكومة المصرية الجيش - الذي هو المقاول الرئيسي لمشاريع السيسي الضخمة - إلى تنفيذ المشروع، ممثلا في شركة "العاصمة الإدارية للتنمية العمرانية" المملوكة لوزارتي الدفاع والإسكان، وقد ضخت الوزارتان 10.7 مليارات يورو لإطلاق المرحلة الأولى من المراحل الثلاث التي ستؤدي إلى بناء العاصمة الجديدة.
غير أن مسألة جمع المال لتنفيذ هذا المشروع حالت دونها صعوبات عديدة كما تقول المراسلة، من ضمنها عزوف الجهات الدولية المانحة بسبب وجود الجيش وعدم وجود ضمانات للتمويل، ومع ذلك تجري أعمال البناء بالفعل من قبل المقاولين المصريين تحت قيادة الهيئة الهندسية للقوات المسلحة.
نقل 51 ألف موظف
وقالت المراسلة إن القصر الرئاسي -الذي لا يمكن الوصول إليه لأسباب أمنية- ينبغي أن يكون منتهيا، إلا أن مباني المجمع الحكومي التي تشمل البرلمان وحوالي ثلاثين وزارة، باستثناء مباني الدفاع والداخلية التي بنيت خارج الولاية القضائية للمدينة، بدأت تتشكل ببطء.
ونبهت هيلين سالون إلى تأجيل نقل الموظفين الذي كان من المقرر إجراؤه في منتصف عام 2019 رسميا حتى نهاية عام 2020، حيث يقول المتحدث باسم الشركة خالد الحسيني "نحن نعول على نقل 51 ألف موظف، وجميع الإدارات ستكون محوسبة، مما يتطلب مهارات. سيتم تحديد معايير النقل من قبل وزارة التخطيط".
وأشارت المراسلة إلى أن التحدي لجعل هذه العاصمة مدينة كاملة تضم 6.5 ملايين نسمة محفوف بالمخاطر، إذ تم تخطيط الإسكان نظريا من أجل تخصيص 35% من المساكن للطبقات الغنية و50% للطبقة المتوسطة و15% لذوي الدخل المنخفض، إلا أن الأسعار المعلن عنها من قبل المطورين لا تزال بعيدة عن متناول الغالبية العظمى من المصريين، حيث يبلغ سعر الشقة الصغيرة (120 مترا مربعا) 69 ألف يورو.
ونتيجة لذلك، ترى المراسلة أن موظفي العاصمة الجديدة لن يستطيعوا الإقامة فيها، وبالتالي سيضطرون إلى السفر مسافات طويلة بالسيارة تزيد على ستين كيلومترا من وسط القاهرة إلى أعمالهم.
وسيتم بناء خط حديدي كهربائي بواسطة شركتين صينيتين بنهاية عام 2020 للوصول إلى نهاية الخط الثالث من مترو القاهرة السلام، كما تم إطلاق دعوة لإنشاء أول خط قطار فائق السرعة يربط العين السخنة على البحر الأحمر بالعلمين الجديدة على البحر المتوسط من خلال العاصمة الجديدة.
ومع ذلك -بحسب دبلوماسي- لم يوضع أي تصور لشبكة النقل العام داخل "مدينة السيسي"، ومن دون سيارة لا يمكن التنقل.
وقالت المراسلة إن أحد الممثلين الاقتصاديين الفرنسيين قد ذهل أثناء زيارة للعاصمة الجديدة عام 2017، حين لم يجد أي رد على اقتراحه خطة تنقل حضري مستدام لوزارة الإسكان، لأنهم ليست لديهم خطة بشأن هذا الأمر.
مشروع أمني
ويقول أستاذ العلوم السياسية حسن نافعة إنه "لا شفافية. لا نعرف من أين تأتي الأموال. إنه لأمر مدهش أن تذهب من دون دراسة جدوى. هذا مشروع سخيف، خاصة في وقت الأزمات التي نحتاج فيها إلى كل دولار".
ويقول رجل الأعمال هشام عوف "إن ضخامة الموقع على غرار مدن دول الخليج ليس مقبولا لدى الجميع"، ويتساءل "لماذا بناء أكبر برج في أفريقيا؟ أكبر كاتدرائية؟ إن مثل هذا يصلح لإمارة أعمال كدبي صغيرة وبلا تاريخ، أما في مصر فلا معنى لذلك".
ويضيف عوف قائلا "يعتقد الذين ينتقدون المشروع أنه تم تصميمه لمنع سيناريو ثورة 2011 من الحدوث مرة أخرى، وذلك بوضع جميع الوزارات في مكان معزول تحت حماية الجيش. لقد صُمم هذا المشروع برؤية أمنية وليس لصالح الناس".
وعلقت المراسلة بأن البعض يشبه العاصمة الجديدة بـ"المنطقة الخضراء" في بغداد، والتي تعد منذ الغزو الأميركي عام 2003 موطنا للسفارات الأجنبية والمباني الحكومية، وهي بمثابة شرنقة آمنة مصممة لإبعاد المركز عن أيدي الجماهير والتهديد المسلح.
وقالت الباحثة في مركز كارنيغي للفكر الأميركي ميشيل دن إن بناء العاصمة المصرية الجديدة نوع من إعادة بناء جدار الخوف الذي يفصل المواطنين والدولة، اهتدى إليه الرئيس السيسي.
وفي النهاية تساءلت المراسلة هل سينتهي بناء هذه المدينة ذات يوم، خاصة أن "معظم المدن التي أنشأها الرؤساء قد انهارت عند وفاتهم" كما يلاحظ هشام عوف، مضيفا أن اكتمال المدن الجديدة يستغرق وقتا طويلا.
ويقول المخطط الحضري ديفيد سيمز -مؤلف كتاب "أحلام الصحراء المصرية" عام 2015- إن العشرين مدينة مصرية الجديدة التي أقيمت منذ سبعينيات القرن الماضي قد فشلت، إذ لم يتجاوز عدد السكان فيها 1.6 مليون من العدد المستهدف البالغ 20.5 مليونا".
وفي ختام التقرير، تتساءل المراسلة هل ستصبح "مدينة سيسي" يوما ما مثل مدينة القاهرة المعمرة؟ ولكن كما يقول عوف "القاهرة -العاصمة التاريخية، أو مصر كما يطلق عليها المصريون- لا يمكن تجاوزها، إذ فيها غالبية خدمات الدولة والنسيج الاقتصادي وكذلك الملايين من السكان الذين يجب أن يبقوا هناك".
ويقول ديفيد سيمز إن "المدن الجديدة في الصحراء أنقذت القاهرة بطريقة أو بأخرى، حيث ذهبت كل الاستثمارات الغبية إلى مكان آخر، هناك مستقبل للقاهرة، ربما أفضل من طريقة التفكير الصعبة هذه".
المصدر : لوموند