الإسلاميون: من غياهب القمع إلى ساحات الثورة فدوائر السلطة:
"الربيع العربي" برايات إسلامية!
فادي شامية
في الأول من شهر كانون الأول/ نوفمبر الجاري اختصر رئيس حكومة قطر الشيخ حمد بن جاسم المشهد القادم في العالم العربي، عندما قال في تصريح لصحيفة "فاينانشال تايمز": "إن الإسلاميين سيمثلون -على الأرجح- الموجة التالية من القوى السياسية في العالم العربي، وإن على الغرب التعاون معهم". بدورهم؛ خصوم الشيخ حمد قالوا أيضاً هذا الكلام؛ زين العابدين بن علي، وحسني مبارك، ومعمر القذافي، وعلي عبد الله صالح، وبشار الأسد، كلهم حذروا أن البديل سيكون الإسلاميين، (في اعتراف ضمني منهم بأنهم يمنعون الشعب من التعبير عن نفسه)!. نتائج انتخابات "الربيع العربي" قالت هي الأخرى هذا الكلام، بلغة الأرقام التي لا تحتمل التأويل!.
ما سبق يعني أن الإسلاميين كانوا قبل الثورات العربية جزءاً وازناً جداً من الشعوب العربية، وطبيعي أنهم شاركوا بهذه الثورات –بغض النظر عمن أطلق الشرارة-، وأنهم سيحصدون نتائجها، وربما بنسبة تفوق باقي الفئات الثائرة، لأسباب تنظيمية ذاتية، ولأسباب ذات صلة بـ "اللحظة الثورية"، التي تشكل مشاعر الجماهير جزءاً هاماً منها.
ولعل تلمّس هذه الحقائق يكون أوضح إذا انتقلنا من العموم إلى التفصيل، واستعرضنا الثورات العربية واحدة تلو أخرى، من بدء الحراك الثوري إلى مرحلة التعبير الانتخابي.
تونس
لم يكن محمد البوعزيزي إسلامياً أو على صلة بالإسلاميين، لكنه كان نموذجاً صارخاً للقهر الذي كان يشعر به الشعب التونسي كله، فشكّل الشرارة. وما إن عمت التظاهرات حتى شارك الإسلاميون فيها، فأعطوها زخماً أكبر. والواقع أن القهر الوحشي الذي تعرضت له الحركة الإسلامية في تونس، إضافة إلى الفساد، وقمع الحريات عموماً، شكّل كله مخزوناً ثورياً تراكم إلى درجة الانفجار.
ومما ينبغي ذكره هنا أن حزب النهضة (أخوان مسلمون) قدّم خلال مسيرة مقاومته للرئيس زين العابدين بن علي ثلاثين ألفاً من خيرة أبناء تونس، طبع سجّانوهم على أجسادهم علامات الطغيان كلها، وأن المفكر الإسلامي راشد الغنوشي سُجن 6 سنوات، ونُفي خارج بلده 22 عاماً، وأن المهندس حمادي الجبالي ( رئيس الحكومة اليوم) قضى في سجون بن علي 15 عاماً من عمره، بينها 10 أعوام في الحبس الانفرادي!، وأن غالبية أعضاء المكتب السياسي لحزب "النهضة" تعرّض للاعتقال أو السجن. (على سبيل المثال: علي العريض - 15 عاماً سجناً، وسمير ديلو- 10 أعوام سجناً، والعجمي الوريمي- 16 عاماً سجناً، وعبد الكريم الهارون- 16 عاماً سجناً، والصادق شورو -20 عاماً سجناً، والأخير يرأس مجلس شورى الحركة واسمه اليوم مانديلا تونس).
انطلاقاً من هذا الواقع، يمكن فهم الحالة الاحتفالية التي شهدها مطار تونس لدى عودة راشد الغنوشي إلى البلاد، وبناءً عليها يمكن فهم ظواهر التي ميزت الانتخابات التونسية، إن لجهة نسبة المشاركة الهائلة (90%)، أو لجهة خروج أحياء بأكملها للتصويت علناً "لمن ناضل وصبر من أجل تونس ومن أجل الإسلام".
هذا الواقع انعكس أرقاماً في صناديق الاقتراع، فبعدما كانت نسبة تمثيل الحركة الإسلامية في تونس صفر%، بات حزب "النهضة" وحده يمثل نحو 42% من الشعب التونسي، حيث فاز بـ 90 مقعداً من بين 217 مقعداً (الحزب الذي تلاه فاز بـ 30 مقعداً فقط!)، وأكثر من ذلك، فقد حصل "النهضة" على 42 من أصل النساء الـ 49 اللواتي انتخبن في المجلس التأسيسي (بينهن غير محجبات)، رغم الدعاية المنافسة حول عدم احترام الإسلاميين حقوق المرأة!. ومع أنه نال أعلى نسبة تمثيل في البرلمان فقد تفاهم حزب "النهضة" مع بقية القوى الوطنية واليسارية، ليصبح المنصف المرزوقي رئيساً للجمهورية، وحمادي الجبالي رئيساً للوزراء (نهضة)، ومصطفي بن جعفر رئيساً للمجلس التأسيسي.
مصر
حملت نسائم الربيع التونسي شرارات النار إلى مصر فأشعلت الثورة، وكما في تونس فقد دخل "الأخوان المسلمون" -ولاحقاً القوى السلفية أيضاً-في غباب المد الثوري، وقد ظهر هذا واضحاً في ميدان التحرير، إن لجهة الحشد، أو لجهة التنظيم والإمداد، ولاحقاً في موقعة الجمل الشهيرة، إذ لولا هؤلاء – بعد الله- لسارت الثورة في مسار آخر.
وهنا أيضاً لا بد من الإشارة إلى أن "الأخوان المسلمين" في مصر قدّموا خلال تاريخ صراعهم الطويل مع حسني مبارك نحو 40,000 سجين من الجماعة، وأن غالبية أعضاء مكتب الإرشاد نال نصيبه من السجون أيضاً.
بعد سقوط مبارك شكّل "الأخوان المسلمون" حزب "الحرية والعدالة"، كذراع سياسي لهم، وشكّل التيار السلفي حزب "النور"، وكلاهما تصدرا نتائج الانتخابات حيث فاز حزب "الحرية والعدالة" منفرداً بنحو 40% الأصوات في الجولة الأولى (والعدد مرشح للارتفاع في الجولتين اللاحقتين)، ونال حزب النور السلفي نحو 20%، وحزب الوسط الإسلامي المنبثق عن الأخوان نحو 4%، ما يعني أن الجمع بين هذه الأصوات يجعل اللون الإسلامي غالباً بقوة على البرلمان المصري، وتالياً الحكومة القادمة (يلاحظ أن حزب الوفد الذي تأسس قبل "الأخوان" نال 6% فقط، بعدما كان يتحدث عن "مفاجأة"، وأنه الأول في الشارع).
ليبيا
انتقلت الثورة إلى ليبيا، ومنذ اليوم الأول شكّل الإسلاميون هناك رافعة التحركات، ثم برز دورهم أكثر مع انتقال الثورة من السلمية إلى السلاح، إذ كانوا الأكثر تنظيماً والأشرس في القتال ضد كتائب القذافي.
ويكفي للدلالة على دور الإسلاميين في الثورة، أن نعلم أن كثيراً من أعضاء المجلس الانتقالي هم من الإسلاميين، بما في ذلك رئيس المجلس، كما أن قائد معركة طرابلس، -والمسؤول العسكري عن المدينة لاحقاً- هو الناشط الإسلامي عبد الحكيم بلحاج، ممن سجنهم القذافي بعد مشاركتهم في الحرب الأفغانية، وتشكيلهم "الجماعة الليبية المقاتلة"، القريبة في فكرها من "القاعدة"، والتي راجعت أفكارها، ونحت لاحقاً نحو الاعتدال (اعتقلته القوات الأمريكية في ماليزيا عام 2004 وسلمته إلى ليبيا، وفي العام 2009 أجرى وزملاؤه مراجعات شرعية صدرت باسم "دراسات تصحيحية في مفاهيم الجهاد والحسبة والحكم على الناس" وقد أثنى العلامة يوسف القرضاوي والشيخ سلمان العودة وآخرون على الاعتدال الظاهر فيه). كما لعب العلماء القريبون من "الأخوان المسلمين"، أو المنضوون في إطار "الاتحاد العالمي لعلماء المسلمين" الذي يرأسه العلامة القرضاوي، دوراً كبيراً في تثبيت الناس وتوجيه الثورة.
يُذكر هنا أن "الأخوان المسلمين" في ليبيا، قدّموا كثيراً من أبنائهم في نضالهم ضد ظلم القذافي، وقد سبق أن حكمت "محكمة الشعب الخاصة" التي شُكلت لمحاكمتهم عام 2002 على المراقب العام لـ "الإخوان المسلمين" في ليبيا عبد القادر عز الدين، ونائب المراقب العام سالم أبو حنك بالإعدام لكليهما، وعلى 73 من أبناء الجماعة بالسجن المؤبد، ومعلوم أيضاً أن سجن أبو سليم الشهير كان يضم إلى قبيل الثورة؛ نحو 2500 سجين غالبيتهم سجناء إسلاميون من جماعة "الجهاد" ومن "التبليغ والدعوة" ومن "السلفيين"، وأن نحو 1200 معتقل بينهم كثير من الناشطين الإسلاميين أعدمهم القذافي عام 1996 (شكلت هذه الحادثة والمطالبة بمعرفة ما جرى وبالتعويض على ذوي الضحايا شرارة الثورة في بنغازي في شهر شباط/فبراير 2011).
وبعد انتصار الثورة؛ أعلن "الأخوان المسلمون" في ليبيا إعادة إحياء التنظيم، وانتخبوا بشير الكبتي مراقباً عاماً، وتتوقع المصادر المتابعة اليوم أن يفوز الإسلاميون؛ من مختلف التيارات، بغالبية مقاعد أي برلمان قادم بسهولة شديدة.
اليمن
في اليوم الذي سقط فيه حسني مبارك؛ انطلقت الثورة في اليمن، وشكّل –بدايةً- طلاب "التجمع اليمني للإصلاح" (أخوان مسلمون) رافعة الاحتجاجات، وقد اعتُقلت عضو مجلس الشورى في التجمع؛ توكل كرمان في وقت مبكر من قبل الأمن (نالت لاحقاً جائزة نوبل للسلام، وتعتبر أول شخصية "أخوانية" تنال هذه الجائزة)، وما لبثت أن نزلت أحزاب "اللقاء المشترك" (التجمع اليمني للإصلاح، والحزب الاشتراكي اليمني, والتنظيم الوحدوي الشعبي الناصري، وحزب البعث العربي الاشتراكي, والتجمع السبتمبري, واتحاد القوى الشعبية اليمنية, وحزب الحق) إضافة إلى قوى الحراك الجنوبي، والحوثيين، إلى ميدان الاحتجاجات، ثم نحت الأمور باتجاه تحدٍ شخصي بين آل الأحمر وعلي عبد الله صالح، حيث أعلن زعيم قبيلة حاشد الشيخ صالح الأحمر أن: "علي عبد الله صالح لن يحكمني بعد اليوم ما دمت حياً"، وبالمقابل اتهم علي عبد الله صالح "الأخوان المسلمين" مباشرة بالوقوف في وجهه لإخراجه من السلطة، خصوصاً بعدما أخذ الصراع شكل المواجهة المسلحة في أحياء متعددة من صنعاء.
بعد طول لف ودوران؛ وقّع علي عبد الله صالح في الرياض (23/11/2011)، على اتفاق نقل السلطة في اليمن وتشكيل حكومة وحدة وطنية خلال 14 يوماً وإجراء انتخابات رئاسية خلال 90 يوماً، وبناءً على هذا الاتفاق، كُلف محمد باسندوة بتشكيل الحكومة الجديدة. وباسندوة قريب جداً من القيادي في "التجمع اليمني للإصلاح" حميد الأحمر، والأخير أحد أهم المرشحين لرئاسة اليمن، ما يعني أيضاً أن اليمن -ما بعد صالح- سيكون تحت نفوذ الإسلاميين، في رئاسة البلاد والحكومة، وفي البرلمان أيضاً.
سوريا
بكّر "الأخوان المسلمون" في سوريا في نقل شرارة الثورة إلى بلادهم، وأصدروا في 17/1/2011 بياناً اعتبروا فيه ما جرى في تونس "الشرارة الأولى لمطالبة الشعب السوري بحقوقه إذا استمر النظام في تجاهلها"، ولم يكن الحديث عن إسقاط النظام يومها مطروحاً. والواقع أن الأجواء التي أثارها "الأخوان" وغيرهم في الخارج والداخل، حضّرت الأرضية للثورة في سوريا، ولو أن الشرارة جاءت من حيث لم يتوقع أحد؛ درعا، المتعايشة تاريخياً مع النظام، بعدما قام مدير الأمن السياسي هناك؛ عاطف نجيب، بتعذيب وحشي لأطفال كتبوا شعارات مناوئة للنظام على الجدران.
ويشكّل الإسلاميون اليوم جزءاً وازناً – يصعب قياسه- من الحراك الشعبي، وبطبيعة الحال هم ليسوا الوحيدين، لكن الشعارات في الثورة تُظهر قدراً كبيراً من الروح الإسلامية. وقد شكّل "الأخوان المسلمون" الرافعة للمجلس الوطني الانتقالي، الذي يمثل غالبية المعارضة السورية اليوم، ويشغل "الأخوان" 5 من أصل 29 من مقاعد هيئته العليا، إضافة إلى عدد من المستقلين الإسلاميين القريبين منهم.
وتاريخياً؛ يعتبر "الأخوان" أكثر من واجه نظام الأسد (الأب)، اعتباراً من العام 1979، وقد بلغ الصراع أوجه في أحداث حماه عام 1982 التي أودت بحياة نحو أربعين ألف سوري، غالبيتهم الساحقة لم يكن لهم علاقة بـ "الأخوان"، أو بـ "الطليعة المقاتلة"، فضلاً عن آلاف المعتقلين من الجماعة، الذين ما يزال كثير منهم في السجون إلى اليوم.
يقول الرئيس بشار الأسد في حوار مع صحيفة ذي صنداي تلغراف البريطانية (30/10/2011) "إن ما تشهده سوريا اليوم هو صراع بين الإسلاميين والقوميين العرب... نحن نقاتل الأخوان المسلمين منذ خمسينيات القرن الماضي وما زلنا نقاتلهم".
... وبلدان أخرى
إضافة إلى البلدان الخمسة التي شهدت ثورات قوية؛ لعب الإسلاميون دوراً كبيراً في الضغط باتجاه إحداث إصلاحات في بلدان أخرى. في المغرب أعلن الملك محمد السادس عن "تعديلات دستورية شاملة" في 9/3/2011، وبعد إجراء الانتخابات فاز حزب "العدالة والتنمية" (أخوان مسلمون) في الانتخابات بـ 80 مقعداً، وكُلف رئيس الحزب عبد الإله بن كيران بتشكيل الحكومة الجديدة. وفي الكويت لعب الإسلاميون (الأخوان والسلفيون) دوراً كبيراً في إسقاط الحكومة الكويتية في 28/11/2011. وشهدت الأردن -وما تزال- احتجاجات تقودها جماعة "الأخوان المسلمين"، رغم الإصلاحات التي أعلن عنها الملك عبد الله.
لقد بات واضحاً أن التفاهم الذي قام بين طائفة من حكامنا والغرب، على أساس أنهم يقمعون شعوبهم، ويمنعون ما أسموه "الإسلام السياسي"، مقابل أن يسكت الغرب عن فسادهم وقهرهم لشعوبهم، (أن هذه المعادلة) قد سقطت، ليس فقط لأنها ولّدت احتقاناً شعبياً أدى إلى الانفجار عام 2011، بل لأنها أدت من قبل إلى ظهور "الإسلام المتطرف" بدلاً من "الإسلام السياسي"، وهو بدوره تطور من استهداف "العدو البعيد" بدلاً من "العدو القريب"، بحيث صار الإرهاب عالمياً، وكانت ذروة ذلك في أحدث 11 أيلول قبل نحو عشر سنوات.
إزاء هذا الواقع، بات واضحاً لمن يدرس واقع المنطقة العربية أن قهر الحركة الإسلامية يولّد الغلو، دون أن يتمكن من استئصال الإسلاميين، مهما بلغت فظاعته، وأن ترك الناس تعبر عن توجهاتها بحرية هو الأجدى، سيما أن الحركة الإسلامية ليست فصيلاً واحداً، وهي ليست فئة منزهة عن الخطأ ولوثة السلطة، وطالما أنها انخرطت في آليات التداول السلمي، فإن إمكانية صعودها -كما تراجعها- أمر ممكن الحدوث، وفي كلا الحالين فإن التعامل مع هذه التيارات أفضل للجميع... والناس هي التي تجدد الوكالة الشعبية أو تحجبها.