لماذا لا يضع "حزب الله" "أدلته" في تصرف المحكمة الدولية؟!
"عملاء" رهن استهداف المحكمة الدولية!
فادي شامية-
من بين أهم السُبل الهادفة للنيل من مصداقية المحكمة الدولية؛ الاستفادة من وجود عملاء لـ "إسرائيل" عاملين في مجال الاتصالات، وجعل ملفاتهم رهن استهداف المحكمة، لـ "الاستنتاج" أن (داتا) الاتصالات لا تصلح قرينة ظرفية في القرار الاتهامي.
وباعتبار أن "حزب الله" كان متأكداً –خلافاً لكثير من اللبنانيين- أن القرار الاتهامي سيتجه نحوه، فقد بدأ باكراً في تحضيره لنظرية التلاعب بـ (داتا) الاتصالات. صيد الحزب الثمين في هذا المجال حصل عندما أوقِف شربل قزي، واعترف بالتهم المنسوبة إليه... متابعة هذا الموضوع لا تخلو من الغرابة والطرافة في آن معاً!.
توقيف شربل قزي: أثبت حجية الاتصالات لا العكس!
في 24/6/2010 أوقفت مخابرات الجيش الموظف في شركة ألفا شربل قزي، بناءً على تعقب خطوطه الهاتفية. وكانت "شعبة" المعلومات في قوى الأمن الداخلي اشتبهت بقزي، لكن وزير الاتصالات في حينه شربل نحاس أخّر تسليم الـ (داتا) عشرين يوماً، ما سمح بتحرك جهاز أمني آخر، سبق إلى التوقيف والتحقيق.
المهم في هذا المجال أن توقيف قزي وإدانته انبنى على أساس الاتصالات على الشكل الآتي: رصدت "شعبة" المعلومات عام 2008 رقم هاتف خلوي أوروبي يعمل على الأراضي اللبنانية، ويتصل حصراً برقم هاتف مشبوه خارج لبنان، ثم خرج الرقم من الخدمة، وبعد أكثر من سنة ونصف على توقفه، ظهر مستخدم الخط مجدّداً على الشبكة اللبنانية، في أيار 2010، حيث وضع الشخص المجهول –الذي تبين لاحقاً أنه قزي- بطاقة خلوية مسبقة الدفع على الهاتف الذي كان قد استخدم عليه سابقاً رقماً أوروبياً، دون أن يجري منه أية مخابرة، حتى يومي 9 و10 حزيران 2010، حيث تبين بنتيجتها أن المستخدم هو شربل قزي.
ومع أن هذه الآلية تشبه إلى حد كبير الأسلوب الذي اعتمدته لجان التحقيق الدولية في قضية اغتيال الحريري وباقي الشهداء، لجهة السير وراء الخط المشبوه وليس الشخص المشبوه، فقد تبنى "حزب الله" إدانة قزي، وسلامة الأسلوب الذي أفضى إلى ذلك، بل استند إلى عمالة قزي للتشكيك بالقرار الاتهامي الصادر عن المحكمة الدولية، باعتبار أن شبكة الاتصالات مخروقة بعملاء لـ "إسرائيل"، والطريف في الأمر أن إثبات وجود العملاء في شبكة الاتصالات استند إلى القرينة المشكَكَ في صدقيتها نفسها؛ أي (داتا) الاتصالات! (الموقوفون والمدانون في جرم التعامل مع العدو من العاملين في مجال الاتصالات كلهم وقعوا بقبضة الأجهزة الأمنية استناداً إلى قرينة الاتصالات، التي تعززت لاحقاً باعترافات).
ميلاد عيد: "خبرية" لم يُكتب لها النجاح!
في 29/7/2010 أوقفت مخابرات الجيش رئيس مصلحة الاستثمار الدولي في وزارة الاتصالات ميلاد عيد، بعد الاشتباه بأن "رقمه الخلوي تواصل مع رقم سويسري يعود لضابط إسرائيلي يُدعى شوقي، فضلاً عن أن رقمه المذكور يتواصل بكثافة مع أرقام دولية من مختلف بلدان العالم؛ عددها حوالى الخمسة عشرة خطاً دولياً..."، ومنذ اللحظة الأولى للتحقيق ولغاية انتهائه، استمر عيد على إنكاره التهم المنسوبة إليه، مبرراً تواصله مع أرقام دولية متعددة بطبيعة عمله.
ومع أن الاشتباه بميلاد عيد لم يكن قوياً، فقد سارعت وسائل إعلام "حزب الله" والوسائل القريبة منه أو الحليفة له، إلى الادعاء أن عيد اعترف، وأن "توقيفه يثبت حجم الخرق في شبكة الهاتف"، و"يبطل أي قرار اتهامي صادر عن المحكمة الدولية يعتمد على قرينة الاتصالات" (كتبت "السفير" على متن صفحتها الأولى بتاريخ 2/8/2010، أن عيد اعترف بعمالته بعد توقيفه من مخابرات الجيش).
بتاريخ 27/7/2011 أصدر قاضي التحقيق العسكري الأول رياض أبو غيدا قراراً بمنع المحاكمة عن ميلاد عيد بجرم التعامل مع "إسرائيل"، مقوضاً بذلك أحد أعمدة نظرية اختراق الاتصالات التي استند إليها "حزب الله" لاستهداف المحكمة الدولية، وقد لوحظ بوضوح أن خبر التبرئة بالكاد مر على وسائل الإعلام نفسها التي اهتمت كثيراً بتوقيف عيد!.
الاشتباه بعيد وتبرئته استند إلى دراسة (داتا) الاتصالات، وقد تركز التحقيق عليها، فيما لم يجد عيد لدى إطلاق سراحه تعقيباً أبلغ من القول إن توقيفه كان "بهدف ضرب صدقية المحكمة الدولية الخاصة بلبنان"!.
تحوير مضمون بيان "الاتحاد الدولي للاتصالات"
رغم النكسة التي أصابت "نظرية سقوط قرينة الاتصالات" بتبرئة ميلاد عيد، فقد استفاد "حزب الله" من وجود حلفاء له في مواقع حساسة (وزير الاتصالات شربل نحاس، ورئيس الهيئة الناظمة للاتصالات عماد حب الله) فنقل إدانة "إسرائيل" من قبل "الاتحاد الدولي للاتصالات"، في 22/10/2010، من إطار مواجهة العدو الإسرائيلي، إلى مواجهة المحكمة الدولية، على أساس الإيحاء للرأي العام أن "الاتحاد الدولي للاتصالات" أقرّ بالتلاعب بـ (الداتا) في جريمة اغتيال الرئيس الحريري وباقي الشهداء، علماً أن القرار يدين "إسرائيل" على اختراقها الشبكة دون أن يعني ذلك إقراره بالتلاعب بـ (الداتا) في جريمة اغتيال الحريري، وهو ما حاولت وسائل إعلام "حزب الله" تسويقه، وفي ذلك كتبت "السفير" في صفحتها الأولى إنه "لا بدّ لهذه الإدانة أن تثير في المقبل من الأيام أسئلة حول مدى تأثير هذا الاعتراف الدولي، بالقرصنة والتعدي والتداخل والتعطيل وبثّ الفتنة، على الفحوى المتوقعة للقرار الظني وما يقال عن اتهامه عناصر من حزب الله، بناءً على معطيات الاتصالات". (كُتب هذا الكلام قبل عشرة أشهر من إعلان القرار الاتهامي)!.
بعد إعلان القرار الاتهامي أعادت الماكينة الإعلامية التابعة لـ "حزب الله" التذكير بقرار "الاتحاد الدولي للاتصالات"، وفق المضمون الذي يريده "حزب الله"، حيث عقد النائب حسن فضل الله مؤتمراً صحفياً بحضور عماد حب الله، وقد قال الأخير: "إن إختراق إسرائيل قطاع الاتصالات أفقد داتا الاتصالات قيمتها الثبوتية"، مشدداً على أن "الداتا المعتمدة في القرار الاتهامي غير سليمة"، فيما قال فضل الله "إن قرصنة إسرائيل للشبكة اللبنانية تم تأكيده سابقاً... وإن المحكمة الدولية التي تزعم مصداقيتها تجاهلت بالكامل ما أثبتته أعلى هيئة دولية للاتصالات تابعة للأمم المتحدة حول سيطرة إسرائيل على قطاع الاتصالات في لبنان".
وهكذا صار اختراق "إسرائيل" للشبكة يعني أن (داتا) الاتصالات لا تصلح قرينة ظرفية في القرار الاتهامي، مع أن قرارات الاتهام المتعلقة بالجرائم الكبرى (الإرهابية أو جرائم التجسس للعدو) تستند كلها تقريباً إلى قرينة الاتصالات، التي تعتمدها المحاكم اللبنانية قرينة ظرفية قوية في الاتهام أيضاً. (للرد على ذلك يقول الحزب إلى هذه القرينة تعززت بالاعتراف لدى الموقوفين، فيما هو يمتنع عن وضع عناصره المتهمين أمام المحكمة الدولية لمواجهتهم بباقي الأدلة – ولو عن بُعد وبغير احتجاز وفق ما يتيحه نظام المحكمة).
خيال علمي لكنه متناقض!
إضافة لما سبق كله، فقد روج إعلام "حزب الله" لقصص لا تخلو من الخيال العلمي، بقصد القضاء نهائياً على أية صدقية لقرينة الاتصالات، مستعيناً ببعض "الخبراء". ففي مؤتمر صحفي في 23/11/2010 –أُعيد التذكير بمضمونه مؤخراً- أخبر النائب حسن فضل الله اللبنانيين كيف "اخترق العدو هواتف ثلاثة مقاومين"، فوفق رواية فضل الله فإن "إسرائيل" زرعت خطوطاً سرية، داخل أجهزة خلوية، يستخدمها عناصر من "حزب الله"، وقد تطلب أمر اكتشافها- بعد شك "شعبة المعلومات" بعناصر من الحزب وإبلاغ المسؤول الأمني في الحزب بذلك- تشكيل لجنة مشتركة من "أمن المقاومة، ومخابرات الجيش، بالتعاون مع وزارة الاتصالات"!.
ولتأكيد هذه المسألة التقنية نشرت صحيفة "السفير" على متن صفحتها الأولى، بتاريخ 26/11/2010 (بعد ثلاثة أيام على مؤتمر فضل الله)، معلومات عن "فصول خطيرة عن قدرة العدو على التحكم بقطاع الاتصالات، وخلق أرقام تتزامن مع بعضها البعض في الخط الواحد، من دون علم صاحبها. وبالتالي فبركة اتصالات وهمية في أمكنة وأزمنة مختلفة". وقد زعمت الصحيفة المذكورة أن "مديرية المخابرات في الجيش اللبناني، وبعض العاملين في الهيئة الناظمة للاتصالات، وفي وزارة الاتصالات، كما في أمن المقاومة، شكلوا مجموعة عمل تمكنت من مواجهة كل التقنيات والبرمجيات الإسرائيلية المتطورة"!. المضمون نفسه أعاده أمين عام "حزب الله" في خطاب سابق له مؤكداً على إمكانية خرق شبكة الاتصالات والتلاعب بالداتا بحيث يظهر أن الشخص هو من يستعمل الهاتف "ويكون الإسرائيلي من قام بذلك".
ومع أن الخبراء التقنيين يعتبرون أن الأمر ليس على هذا النحو من التبسيط، أقله أنه يتطلب الحصول المادي على الجهاز الخلوي المستهدف، إلا أن الأهم أن رواية "حزب الله" متناقضة، لأنها تقول إن أمن الحزب ووزارة الاتصالات ومخابرات الجيش شكلوا "مجموعة عمل" (لم يخبر الحزب وفق أي مرسوم أو قرار تشكلت هذه المجموعة التقنية)، وأن هذه المجموعة "تمكنت من مواجهة كل التقنيات والبرمجيات الإسرائيلية المتطورة"، وأنها برأت ثلاثة مشتبه بهم في صفوف "حزب الله"، ما يعني أن بمقدور المجموعة نفسها كشف أي تلاعب طرأ على هواتف المتهمين في صفوف الحزب بجرائم الاغتيال، وهو ما يُغني عن كثرة المؤتمرات الصحفية وسرد وتحوير الوقائع والتقنيات العلمية، فضلاً عن التشكيك بوطنية خبراء وموظفي الاتصالات غير المؤيدين لـ "حزب الله" (في 23/11/2010، طالب عماد حب الله بوضع معايير لـ "العاملين في قطاع الاتصالات، وبالأخص الذين يتولون مواقع حساسة، تأخذ بالاعتبار الأمن الوطني"، فيما وصف وزيره في حينها شربل نحاس العاملين في هيئة "أوجيرو"، بأنهم "تركيبة شبه ميليشيوية"!).
ولعل السؤال الذي يطرح نفسه على من يتتبع نشاط "حزب الله" المنظم لمناهضة المحكمة الدولية: لماذا لا يوجّه الحزب المذكور هذه الجهود للجهة المختصة؛ أي المحكمة الدولية، فيثبت أمامها -لمرة واحدة وأخيرة- أن قرارها الاتهامي لا يتمتع بالمصداقية؟ وذلك بدلاً من أن يدعي أن القرار الاتهامي لا يعنيه، ثم يظهر وكأنه يعيش حالة طوارى لكثرة المؤتمرات الصحفية –بحضور مختصين قانونيين أو تقنيين- التي يعقدها، فضلاً عن احتلال المحكمة الدولية الصدارة في حركته الإعلامية كلها!.