قضية الأستونيين السبعة:
"المعلومات" كانت كافية لكن الحسم متعذر... فاختار الأوربيون التفاوض!
فادي شامية- اللواء- الجمعة,15 تموز 2011 الموافق 14 شعبان 1432 هـ
في 23/3/2011؛ تعرّض سبعة أستونيين لعملية خطف محكمة، لدى دخولهم الأراضي اللبنانية، آتين من سوريا عبر بوابة المصنع الحدودية. وفيما بعد تبنت جماعة غير معروفة، تطلق على نفسها اسم "حركة النهضة والإصلاح"، في رسالة بعثت بها إلى موقع "ليبانون فايلز" عملية الخطف.
في 14/7/2011 أي بعد نحو 113 يوماً على احتجازهم، ظهر الأستونيون السبعة من على شرفة السفارة الفرنسية في بيروت بصحة جيدة (لا سفارة لأستونيا في بيروت)، ثم مثلوا أمام قاضي التحقيق العسكري للإدلاء بإفادتهم حول ملابسات اختطافهم، قبل أن يغادروا بصحبة وزير خارجية أستونيا إلى بلادهم.
الملاحقات الأمنية: معلومات وتوقيفات ولا حسم
بعيد حصول عملية الاختطاف؛ نفّذت الأجهزة الأمنية اللبنانية المختلفة عمليات دهم في المناطق المحيطة بمكان الاختطاف القريب من زحلة، وبعد وقت قصير من المتابعة وُجدت سيارة الفان التي أقلت المخطوفين في بلدة مجدل عنجر البقاعية.
لفترة ساد الاعتقاد أن المخطوفين موجودون في مجدل عنجر أو في بلدة قريبة، لكن وجود الفان لم يكن دليلاً على مكان الاحتجاز، وإنما دليل على وجود أكثر من مجموعة تولت الخطف وتسلمت المخطوفين، أو أنه وُضع في مجدل عنجر لتضليل التحقيق.
وبنتيجة التحريات التي قامت بها "شعبة" المعلومات في قوى الأمن الداخلي؛ فقد تبين أن المجموعة التي تولّت خطف الأستونيين ليست نفسها المجموعة التي تسلمتهم واحتجزتهم لاحقاً، وأن المجموعة الأولى قامت بعملية الاختطاف لقاء مبالغ مالية، وأنها لا تعلم من هي الجهة الخاطفة، وأن تحليل "داتا" الاتصالات الهاتفية تفيد بأن قائد المجموعة الأولى التي تولت عملية الاختطاف هو وائل عباس (مطلوب بجرم قتل عسكريين وجرائم أخرى)، وأنه سلّم الأستونيين إلى المجموعة الثانية في مجدل عنجر، مساء يوم 23/3/2011، ومنذ ذلك الحين لم يعد يعرِفُ شيئاً عن المختطَفين.
في أثناء بحثها عن المجموعة الأولى؛ تعقبت "شعبة" المعلومات المطلوب أدهم خنجر (متهم بقتل الرائد في الجيش عبدو جاسر والرقيب زياد الميس في 21/2/2011)، واشتبكت بالنار معه، ما أدى إلى استشهاد المؤهل أول؛ راشد أيوب صبري (10/4/2011)، ومقتل درويش خنجر الذي كان برفقة وائل عباس ومحمد ظريفة، على الأرجح.
على أثر التحريات والتوقيفات اللاحقة، تمكنت "شعبة" المعلومات من تحديد أعضاء المجموعة الأولى، وهم: وائل عباس (ما زال فاراً)، وأدهم خنجر (قُتل في المواجهة مع "المعلومات")، وكنان ياسين (موقوف)، ومنير جلول (موقوف)، والسوري محمد أحمد المعروف باسم محمد ظريفة (موقوف).
وهكذا أوقفت أو قتلت "شعبة" المعلومات أفرد المجموعة الأولى، فيما بقي رأسها فاراً، كما أوقفت عدداً من الأشخاص الذي سهّلوا عملية الاختطاف أو علموا بها. (أشار وزير الداخلية أمس إلى توقيف 3 أشخاص، وكان يقصد أفراد المجموعة الأولى، التي سبق توقيفهم عملية الإفراج عن الأستونيين بوقت طويل، علماً أن عدد المدعى عليهم في هذه القضية بلغ 11 شخصاً أحيلوا إلى القضاء العسكري في 8/4/2011 بينهم 7 موقوفين، بتهمة: "إقدامهم بالاتفاق والاشتراك في ما بينهم على خطف سبعة أشخاص من الجنسية الأستونية، بقوة السلاح، وإخفائهم في مكان لا يزال مجهولاً حتى تاريخه. كما أقدموا على إطلاق النار من أسلحة حربية غير مرخصة باتجاه دورية من شعبة المعلومات أثناء مطاردتهم، ما أدى إلى إصابة الدركي محمد فواز برصاصتين في رجله).
تكثف بعد ذلك العمل للوصول إلى المجموعة الثانية؛ وقد شكّلت الرسائل الإلكترونية الثلاث التي أرسلها الخاطفون (اثنان منها نشرت، والثالثة سلمت لأهالي المخطوفين) مادة جيدة لتقصي أثر هذه المجموعة، حيث تبين أن مصدر المراسلات هو سوريا، رغم أن مرسليها حاولوا التلاعب بعنوان بروتوكول الإنترنت لتظهر الرسالة وكأنها مرسلة من أوروبا.
كما توفرت دلائل لاحقة تفيد بأن الأستونيين قد نُقلوا إلى قاعدة عسكرية لـ "فتح الانتفاضة" في البقاع (قرب دير العشاير على الأرجح)، ما يعني الاشتباه بتورط هذا التنظيم الفلسطيني التابع لسوريا في عملية الاختطاف. وقد نُقلت هذه الاستنتاجات جميعها إلى السلطات الأستونية والفرنسية، لتكون على بينة بالجهود التي تبذلها الأجهزة الأمنية اللبنانية. (نوّه وزير الداخلية أمس بجهود "شعبة" المعلومات).
أستونيا تختار التفاوض!
منذ أن اطمأن الخاطفون إلى وضعهم بدأوا بإرسال إشارات التفاوض، لكن اللافت في الشريط الأول الذي ظهر فيه المخطوفون؛ أن الأستونيين طلبوا من فرنسا -وليس من أستونيا- التدخل لإنقاذهم! (فضلاً عن الملك عبد الله بن عبد العزيز والعاهل الأردني والرئيس سعد الحريري!). شكّل ذلك إشارة واضحة إلى طلب تدخل فرنسي في الموضوع، وهو ما حصل بالفعل.
في 5/5/2011 وخلال اجتماع ممثلي الدول الأوروبية لبحث العقوبات على النظام السوري، جراء قمع المحتجين، ظهر موقف لافت للغاية لأستونيا؛ إذ طالب ممثلها بسحب اسم الرئيس السوري بشار الأسد من قائمة الشخصيات المعاقَبة، معللةً ذلك بوجود رهائن لها؛ خطفتهم جهة على صلة بالنظام السوري!. أعقب ذلك بعشرة أيام (15/5)موقف لافت لوزير خارجية استونيا اورماس بايت أشار فيه إلى طلب المساعدة من الحكومة السورية في كشف مصير المخطوفين!.
بعد أيام على طلب المساعدة هذا؛ أرسل الخاطفون شريطاً مصوراً جديداً إلى أهالي المخطوفين هذه المرة، الأمر الذي اعتبرته وزارة الخارجية الأستونية "إشارة إلى رغبة الخاطفين بالوصول إلى حل"!. بدا واضحاً إذاً؛ أن الرغبة في التفاوض مع الخاطفين تنتظر الاتفاق على الآليات، وأنها رغبة مشتركة في الأساس، طالما أن الأجهزة الأمنية اللبنانية عاجزة عن تحرير المخطوفين بالقوة.
مع نهاية شهر حزيران الماضي؛ فتح الأستونيون بمساعدة من الفرنسيين خط اتصال مباشر مع جهة قدّمت نفسها على أنها "يمكن أن تساعد في الحل". وقد وصل وزير الخارجية الأستوني أورماس بايت إلى بيروت لمتابعة هذا الاتصال. (صرح أن "السلطات اللبنانية تمتلك معلومات أن المخطوفين السبعة ما زالوا على قيد الحياة"!).
بعد نحو ثلاثة أسابيع من التفاوض أُبلغت السلطات اللبنانية أن اتفاقاً قيد الإنجاز مع جهة "تساعد في الحل"، وأن هذه الجهة اشترطت عدم تدخل السلطات اللبنانية أو أي من الأجهزة الأمنية اللبنانية!. كان ذلك قبيل عقد اجتماع بين وفد فرنسي و"الوسيط" في البقاع ليل الأربعاء/الخميس، جرى خلاله الاتفاق على إطلاق المخطوفين السبعة.
مع فجر أمس 14/7/2011 انتقل الأستونيون من الأسر إلى الحرية. مكان إطلاقهم لم يكن في بلدة الطيبة كما قيل، بل في مكان قريب من إحدى القواعد العسكرية الفلسطينية التابعة لسوريا. أما ثمن إطلاقهم فبقي مجهولاً، بانتظار أن توضح السلطات الأستونية أو الفرنسية أو اللبنانية مضمون الاتفاق الذي جرى.
مسؤولية الدولة اللبنانية
بعد إبداء مشاعر الفرح على النهاية السعيدة لجريمة اختطاف الأستونيين السبعة؛ على المسؤولين في بلادنا أن يخبروا اللبنانيين لماذا لم تتحرك الأجهزة الأمنية بمؤازرة الجيش لدهم الأماكن المشتبه بها، بعد توقيف أفراد المجموعة الأولى؟! وما هي الصلة التي تربط الجهة التي "ساعدت على الحل" مع المجموعة الإرهابية الأولى التي خطفت، ومع المجموعة الثانية التي احتجزت؟ ولماذا فضّلت أستونيا وفرنسا التفاوض مع "الجهة التي ساعدت على الحل"؛ وكأنها تقول ضمناً أن ليس في لبنان سلطة قادرة على فرض سلطتها على الأراضي اللبنانية كافة؟
من الواضح أن الأجهزة الأمنية اللبنانية بذلت ما بوسعها؛ وقدّمت قوى الأمن الداخلي شهيداً وجريحاً على طريق الوصول إلى كشف الجناة، لكن المشكلة دائماً في السياسة!.