تناقضات لافتة في كلام نصر الله الأخير!
فادي شامية
رغم أن خطاب السيد حسن نصر الله الأخير عبر المنار كان هادئاً - بالمقارنة مع خطابات سابقة له-، ورغم أنه لا جديد في سمت المواقف العام لكلام الأمين العام لـ "حزب الله"، إلا أن أكثر ما ميّز إطلالته الأخيرة؛ كثرة التناقضات الذاتية، لا سيما في أربعة موضوعات بارزة على الأقل.
وثائق ويكيليكس
استفتح السيد نصر الله كلامه حول وثائق ويكيليكس بالتأكيد على محاولة "البعض استغلال ما نُشر في الآونة الأخيرة لإيجاد شرخ بيننا وبين حركة أمل، وبدرجة أقل مع التيار الوطني الحر، والتحالف المستجد مع الأستاذ وليد جنبلاط".
لم يوضح نصر الله من هذا الذي يحاول إيجاد شرخ بينه وبين "أمل"؛ حليفه على مستوى وحدة الطائفة، وبينه وبين ميشال عون؛ حليفه الإستراتيجي، لكن الوقائع تشير إلى الآتي:
1- إن مَن نشر وثائق ويكيليكس هي جريدة "الأخبار" المقربة من "حزب الله". "الأخبار" هي من نشرت أقوال قيادات في حركة "أمل" و"التيار الوطني الحر" تغمز من قناة الحزب وتتحدث مع السفير الأميركي فيلتمان بالسوء عن نصر الله ودوره، وليس أية وسيلة إعلامية قريبة من خصوم الحزب. (حصلت "الأخبار" على مجموعة من وثائق ويكيليكس شريطة نشرها دون انتقائية، ما اضطرها لنشر المادة المتعلقة بحلفاء "حزب الله" أثناء حرب تموز 2006، بعد نشرها المادة المتعلقة بخصومه).
2- إن مَن أشاد بوثائق ويكيليكس، ومحضها ثقته، وقرر رفع دعاوى قضائية على أساسها هو السيد نصر الله نفسه. (الخطاب السابق وكلامه الأخير).
3- إن من اعتبر أنه مستهدف هي حركة "أمل"، حليفة "حزب الله" (وقد كان أحد أهم أسباب ظهور نصر الله الأخير -كما هو واضح- تحصين هذا التحالف بعد الاهتزاز الذي تسببت به "الأخبار"). حركة "أمل" – وليس أي طرف آخر-هي من أصدر بياناً هاجمت فيه "الأخبار"، مستخدمة عبارة "جملة عملاء مسعورين" يسعون لـ "تشويه سمعة الحركة"، والبيان نفسه هو من شكك بصدقية ويكيليكس و"الأخبار" التي "اعتمدت برقيات، وتقارير أمنية، وكلام مشافهة، وهمس، وتلميح، وقراءة أفكار، ونوايا، وجعلت من تحليل كلام أحد السفراء الأجانب شاهد عدل في إعلامها". والبيان نفسه هو من حذر "حزب الله" قائلاً: "الحزب سوف لا ينتبه إلى انه أُكل حيث أكلت الحركة"!. (تشير أوساط الحركة بأصابع الاتهام إلى جميل السيد وميشال سماحة).
إذاً؛ المسألة كلها ضمن الفريق الواحد، ولا دخل لخصوم "حزب الله" بها، كما حاول نصر الله أن يوحي لجمهوره.
على أي حال، وبالعودة إلى التناقضات، وهي محور المقال، فقد كان لافتاً حرص نصر الله الكبير النأي بحزبه عن جريدة "الأخبار"، خلافاً لبيان حركة "أمل"، وصولاً إلى قوله: "أحب (أن أقول)، بشكل واضح ونهائي وقطعي: صحيفة الأخبار ليست تابعة لحزب الله. هي بخط المعارضة ونتعاطف معها". ومع ذلك عاد وقدّم دليلاً بلسانه عن حجم العلاقة بين حزبه والجريدة؛ إلى الحد الذي تتشاور فيه الجريدة مع قيادة الحزب قبل نشر الوثائق. نصر الله قال حرفياً: "في ما يعني وثائق ويكيليكس: نحن عندما علمنا أن هناك علاقة بين الأخبار وويكيليكس، نحن شجعناهم للحصول عليها"!.
التناقض الأكثر أهمية في ملف ويكيكليكس أن السيد نصر الله أصر على موقفه برفع دعاوى، بناءً على ما نُشر، رغم معرفته أنها دعاوى غير منتجة قانوناً، لأسباب عديدة ليس هذا مجال شرحها، وفي معرض هذه الدعاوى رسم نصر الله المشهد المتناقض الآتي:
1- قَبـِل بنفي المذكورين من حركة "أمل" و"التيار الوطني الحر" صحة ما ورد على لسانهم، بسبب أنهم حلفاء، و"حتى ييأس أي أحد من الفصل بينهم وبين حزب الله"، كما قال.
2- اعتبر "توبة" النائب وليد جنبلاط ورجوعه عن مواقفه، سبباً مسقطاً لـ "الجرم" عنه، دون أن يسحب ذلك على النائب مروان حمادة مثلاً، الذي كان بجوار جنبلاط في لقاءاته مع فيلتمان، والذي ما كان يمكن أن يتحدث بشيء –إن صح- دون التفاهم مع جنبلاط وموافقته.
3- برر أي كلام منسوب إلى الرئيس نبيه بري في الوثائق المنشورة، بدعوى أنه كان "يناور"، متحدثاً عن تفاهم جرى بينه وبين بري بهذا الخصوص، دون أن يجد عذراً مشابهاً للآخرين في مواقع الدولة المختلفة (وزير الدفاع الياس المر مثلاً).
وبذلك يكون نصر الله قد منح نفسه صفة الادعاء والحكم معاً، وفقاً لاعتبارات التحالفات السياسية!. علماً أن كلاماً أولى من ذلك، كان على السيد نصر الله أن يطرحه، إن كان مقتنعاً بصحة كل ما ورد في وثائق ويكيليكس، وهو: لماذا باتت أكثر القوى السياسية في لبنان، بما فيها حلفاؤه، لديها مواقف سلبية وهواجس كثيرة عن الحزب ودوره؟! وجاهة طرح هذا السؤال تكمن في أن الإجابة الموفّقة عنه؛ تريح الحزب واللبنانيين معاً.
اللبنانيون في أبيدجان
في مقاربته لمأساة اللبنانيين في أبيدجان، حمّل نصر الله رئيس حكومة تصريف الأعمال مسؤولية المعالجة، متجنباً أمرين أساسيين:
1- أن الحكومة نفسها لم تكن متماسكة؛ إلى درجة أن وزير الخارجية فيها كان يتلقى أوامره من رئيس مجلس النواب بدلاً من رئيس الحكومة.
2- أن وزير الخارجية المحسوب على فريق حليفه السياسي، أعطى أوامر لسفير لبنان في أبيدجان، وهو يتبع الخط السياسي نفسه، بحضور حفل تنصيب الرئيس غباغبو ودعمه، ما جر هذه المأساة على اللبنانيين.
أما التناقض في كلام نصر الله فهو اعتباره الحكومة مسؤولة، ثم قوله: "فخامة رئيس الجمهورية، ودولة رئيس مجلس النواب يتابعان الموضوع، ورئيس حكومة تصريف الأعمال سعد الحريري (دخل) على الموضوع"، دون أن يوضّح مسوغات تدخل رئيس السلطة التشريعية دستورياً، في بلد يفترض أن يحترم فصل السلطات، من جهة، وكيف أن تدخله كان أسبق من تدخل رئيس الحكومة من جهة أخرى!.
الموقف من إيران ومن البحرين
في مقاربة جديدة؛ اعتبر السيد نصر الله أن موقف الرئيس سعد الحريري من إيران يعادل، بل هو أخطر، من موقف نصر الله من البحرين. نصر الله قال: "هم اعتبروا أن هذا الخطاب (عن البحرين) يمس بالعلاقات اللبنانية العربية وعلاقات لبنان مع البحرين... فلتلتزموا أنتم... ما علاقة الرئيس سعد الحريري بالصراع العربي الإيراني الذي يتكلم عنه؟ شو دخلك؟"!. بهذه المقارنة جعل السيد نصر الله حزبه بمنزلة الدولة اللبنانية، لأن رئيس الحكومة –أي رئيس حكومة- من حقه أن يعبر عن سياسة لبنان الخارجية –بغض النظر عن صحة المواقف التي يتخذها-وهو يخضع بناءً على ذلك لمحاسبة السلطة التشريعية، لكن ليس من حق أي حزب أن يتخذ مواقف تضر بعلاقات لبنان الخارجية، سيما أنه غير مساءل دستورياً كما رئيس الحكومة.
غير أن الأهم في هذا الموضوع، هو التناقض مرة جديدة، لأن نصر الله قدّم بنفسه السبب الذي جعل الحريري ينتقد تدخل إيران في شؤون أكثر الدول العربية ومنها لبنان، ذلك أن نصر الله افتخر علناً بعلاقته بإيران من جهة، وأشاد بدعمها المادي لحزبه من جهة أخرى. ومن بديهيات القول إن تدخل الدول ببعضها يكون عبر أحزاب أو جماعات تتغذى مالياً ومعنوياً خارج إطار الدولة، وهذا ما تفعله إيران في لبنان وفي البحرين وفي غير بلد خليجي آخر. (على سبيل المثال لنتخيل حزباً في إيران يعلن ولاءه وتلقيه الدعم من المملكة العربية السعودية، ماذا سيكون موقف الحكومة الإيرانية حينها!).
نصر الله أجرى قياسات مع الفارق، عندما قال إن إيران لن تطرد اللبنانيين كما تفعل البحرين اليوم، بسبب هذا الموقف. والفارق أن لبنان لم يحرك جماعة تابعة له في إيران، ولم يتدخل من الناحية العملية بشؤونها الداخلية، كما فعل "حزب الله" فيما يتعلق بالفتنة التي شهدتها البحرين الشهر الماضي.
الحكومة العتيدة
أما في الملف الحكومي فقد لفت نزعتان في كلام نصر الله:
- النزعة الأولى تنحو باتجاه عدم تحمّل الحزب مسؤولية تشكيل الحكومة، "لسنا نحن من نشكل الحكومة بل نحاول أن نساعد"...
- النزعة الثانية نقيضة للأولى تظهر فيها أبوة "حزب الله" للحكومة، وهذا يظهر من أقوال نصر الله نفسه: "هناك خطوات تقدّمنا بها، وصلنا إلى نتيجة في العدد العام، تمثيل الكتل وطبيعة الحكومة تقريباً حُسمت، ونحن الآن في مرحلة نقاش الحقائب... لقد أردت مقاربة موضوع الحكومة بهذا المقدار لأطمئن اللبنانيين".
وبديهي أن طمأنة اللبنانيين بشأن الحكومة، وتبيان المراحل التي قطعها النقاش، هو من مسؤولية رئيس الحكومة المكلف، وليس أمين عام أي حزب. هذا مع العلم أن الرئيس سعد الحريري سبق له أن وزع الحقائب في الحكومة السابقة على فريقه السياسي (14 آذار)، رغم قلة ما تبقى منها، في ظرف ثلاثة أيام (من 6/11/2009 تاريخ موافقة 8 آذار على السير بتشكيل الحكومة وفق الحصص المتفق عليها إلى 9/11/2009 تاريخ صدور المراسيم)، في حين مضى نحو شهر ونصف على فريق 8 آذار، دون أن يتمكن من توزيع الحقائب على فريقه السياسي في الحكومة العتيدة، رغم وفرة العدد (من 28/2 تاريخ إبلاغ 14 آذار رغبتها النهائية بعدم المشاركة إلى 9/4 تاريخ خطاب السيد نصر الله).
بقي سؤال واحد ملح، ولعله أهم من الكلام الذي سبق كله؛ فإلى متى على اللبنانيين أن يدفعوا ثمن إطلالات السيد نصر الله التلفزيونية (مجرد الإطلالات بغض النظر عن المواقف)، وما ذنب الناس ليدفعوا من دمائهم وأعصابهم ثمن ابتهاج أنصار السيد بظهور زعيمهم؟ وما ذنب المواطنة سعاد بشير التي أزهقت روحها برصاصة ابتهاج طائشة في برج البراجنة أمس الأول؟ أليس حزب السيد نصر الله هو من يتحمل مسؤولية الأمن في الضاحية؟ وتالياً؛ أليس هو المسؤول -من الناحية المعنوية على الأقل- عن هذه المأساة التي تتكرر مع كل إطلالة لنصر الله؟!