ثنائية الاستقرار والعدالة!
مقارنة مع المحاكم الدولية السابقة على المحكمة الخاصة بلبنان:
فادي شامية
للوهلة الأولى قد يبدو للبعض نتيجة للحملات المركزة- أن المحكمة الخاصة بلبنان هي محكمة "إسرائيلية وأنها مسيسة وتشكل مؤامرة على لبنان"، لكن مراجعة تاريخ المحاكم الدولية يظهر أن الاتهامات التي يوجّهها فريق 8 آذار وحلفاؤه الإقليميون، تشبه إلى حد كبير ما سيق بوجه المحاكم الدولية السابقة، من قبل المتضررين من عملها، والساعين للإفلات من العقاب. الاستعراض التاريخي الآتي يوضّح ذلك:
محكمة يوغسلافيا السابقة
نشأت محكمة يوغسلافيا الدولية عام 1993 بعد الجرائم الفظيعة التي ارتُكبت خلال الحرب في يوغسلافيا السابقة، فكانت أول محكمة دولية خاصة ينشئها مجلس الأمن، وقد امتد عمل هذه المحكمة للنظر في جرائم حرب كوسوفو -والتي طالت في غالبيتها المسلمين- أيضاً في أواخر التسعينات من القرن الماضي.
واجهت المحكمة منذ تأسيسها معارضة صربية واتهامات بأنها مؤامرة دولية تهدف إلى "تقسيم يوغسلافيا"، وأنها عامل "فتنة بين المسلمين والمسيحيين"، وعلى هذا الأساس أُعيق عمل المحققين الدوليين واتهموا بأنهم "يعملون لصالح جهات استخباراتية أميركية". وفي محاولة لتعطيل عمل المحكمة رفض الصرب -قبل تسليم الرئيس اليوغسلافي سلوبودان ميلوسوفيتش عام 2001- الاعتراف بها، كما حاولوا الاعتماد على حليفهم الاستراتيجي؛ روسيا من أجل إلغاء هذه المحكمة، بعدما ثبت - وفق زعمهم - أنها "تعمل لصالح الأعداء". (لاحظ حجم التشابه بين هذه التهم وما تواجهه المحكمة الخاصة بلبنان من تهم اليوم).
ولم تقتصر الحملة على محكمة يوغسلافيا على هذا الحد، بل تعدته إلى محاولات إعاقة التمويل على الصعيد الدولي من جهة، وإلى المزيد من البطش وارتكاب المجازر في يوغسلافيا السابقة بحق الذين طالبوا بالمحكمة وأيدوا عملها، فوقعت مجازر إضافية بحق المسلمين، لا سيما مجزرة سريبرينتشا الشهيرة عام 1995.
مناهضو المحكمة استمروا بالتشكيك في مصداقيتها رغم الأدلة الواضحة، وصولاً إلى اتهام المدعية العامة كارلا ديلبونتي بـ "الانحياز" و"العهر"، ومع ذلك فقد أدانت المحكمة الرئيس اليوغسلافي السابق سلوبودان ميلوسوفيتش، الذي مكث سنوات متنقلاً بين السجن وجلسات المحاكمة، دون أن يعترف بشرعية المحكمة التي تحاكمه، إلى أن توفي في سجنه في لاهاي عام 2006.
المحكمة الدولية الخاصة برواندا
على النهج نفسه تم تشكيل محكمة خاصة برواندا، وفق الفصل السابع من الميثاق الأممي، للنظر في الجرائم المرتكبة أثناء الحرب بين قبيلتي الهوتو والتوتسي عام 1994، والتي راح ضحيتها مئات الألوف من التوتسي.
وبعدما نجح التوتسي في الاستيلاء على الحكم، وتشكيل حكومة مختلطة تضم التوتسي وشخصيات من الهوتو المعتدلين، قامت المحكمة الدولية الخاصة برواندا -رغم تهديدات واتهامات الهوتو-بمحاكمة كل من تورط في المجازر، ومن أبرزهم رئيس الوزراء الرواندي السابق جون كامباندا،
وقد حكمت عليه بالسجن مدى الحياة، وهو يقضي عقوبته اليوم في أحد سجون مالي. كما حكمت المحكمة على وزير الدفاع الرواندي السابق تيونست باغوسورا بالسجن مدى الحياة أيضاً لارتكابه جرائم ضد الإنسانية وجرائم حرب، وأعمال إبادة، فضلاً عن محاكمة نحو مئة شخصية أخرى، كان يظن كثير من الضحايا أن هؤلاء يستحيل محاكمتهم حتى رأوا ذلك بأم أعينهم.
محكمة سيراليون الدولية
تشكلت محكمة سيراليون بناءً لطلب حكومة سيراليون، من أجل النظر في جرائم الحرب التي وقعت في الفترة بين عام 1996 وعام 2002، من قتل واغتصاب واختطاف...، والمتهم بتدبيرها النظام الحاكم في ليبيريا المجاورة. وقد واجهت المحكمة التي عُقدت في سيراليون نفسها- اتهامات كبيرة من قبل نظام رئيس ليبيريا السابق شارلز تايلور، الذي اتهم المحكمة منذ البداية بأنها "مؤامرة على بلاده".
وقد ظل تايلور على مواقفه إلى أن أُجبر على الاستقالة ومغادرة ليبيريا إلى نيجيريا، من قبل المعارضة، ومن هناك جرى تسليمه إلى المحكمة الدولية التي شرعت في محاكمته، بعدما اتهمته عام 2003 بارتكاب جرائم ضد الإنسانية وجرائم حرب.
وقبل نحو أسبوعين (9/3/2011) خضع تايلور لجلسة محاكمة جديدة ضمن الجلسات الأخيرة قبل الحكم عليه، فلم يترك محاموه كما مؤيدوه في ليبيريا تهمةً للمحكمة إلا ساقوها؛ من وصف المحكمة بأنها "استعمار جديد في القرن الحادي والعشرين"، وصولاً إلى إثارة موضوع الانتقائية في العدالة الدولية، لدرجة مطالبتهم العالم بشن حرب على العقيد معمر القذافي لاعتقاله ومثوله أمام العدالة على الجرائم التي اقترفها أسوة بمحاكمة تايلور(كان ذلك قبل تشكيل التحالف الدولي لضرب كتائب القذافي وحماية المدنيين)، إذا كان العالم جاداً في تطبيق العدالة.
ومع ذلك، فإن من المتوقع الحكم على تايلور خلال فترة وجيزة، وأن تكون بريطانيا البلد الذي سيُسجن فيه.
المحكمة الجنائية الدولية والادعاء على الرئيس عمر البشير
بناءً على طلب فرنسا؛ تحركت الأمم المتحدة، عام 2005، في النزاع الذي نشأ في إقليم دارفور السوداني، حيث وافق مجلس الأمن على إحالة الموضوع إلى المحكمة الجنائية الدولية ICC، وفقاً للفصل السابع من الميثاق، وبموجب القرار رقم 1593، وذلك لملاحقة المتهمين بانتهاكات حقوق الإنسان ومرتكبي الجرائم في الحرب الأهلية التي اندلعت في تموز 2002، وذهب ضحيتها ما يقارب 200,000 قتيل.
ومع أن الولايات المتحدة لم توقّع على ميثاق المحكمة الجنائية الدولية، إلا أنه لم يكن أمامها إلا الموافقة على وضع المحكمة الدولية يدها على ملف دارفور، لأنها لو استخدمت حق النقض، لظهرت وكأنها لا ترغب في محاكمة مقترفي جرائم دارفور، خاصة وأنها هي التي بادرت إلى وصفها بأنها حرب إبادة.
في 14/7/2008، أي بعد ثلاث سنوات تقريباً، وجّه المدعي العام في المحكمة الجنائية الدولية، لويس مورينو أوكامبو، مذكرة يطلب فيها من المحكمة إصدار مذكرة اتهام ضد الرئيس السوداني عمر البشير للمثول أمامها، بتهمة ارتكابه "جرائم حرب وإبادة جماعية في دارفور، من ضمنها حملة منظمة لارتكاب أعمال قتل جماعي أدت إلى مقتل 35,000 شخص بشكل مباشر، في هجمات شنتها القوات المسلحة السودانية, وميليشيا الجنجويد التي تدعمها حكومة الخرطوم، وتعريض حياة نحو مليونين ونصف آخرين للخطر".
وقد اعتبرت حكومة البشير أن المحكمة "مسيسة" وهي "مؤامرة على السودان"، خلافاً لموقف حركات التمرد في دارفور ولا سيما؛ "العدل والمساواة" برئاسة خليل إبراهيم، التي أيدت قرار المحكمة "دون تحفُّظ"، بل اعتبرَتْه "نقطة تحوُّل فاصلة في تاريخ السودان"، وتالياً فقد أبدت استعدادَها للإسهام في تنفيذه.
نقطة الضعف الرئيسية التي تواجه الأمم المتحدة في هذا الملف أن السودان لم يصادق على الانضمام إلى ميثاق المحكمة الدولية، لذلك فإن ولاية هذه المحكمة على السودان محل جدل قانوني جدي، وذلك خلافاً للمحكمة الخاصة بلبنان التي تشكلت خصيصاً لمحاكمة قتلة رئيس الوزراء السابق رفيق الحريري -ولاحقاً الجرائم المرتبطة-، وبطلب من الشعب والحكومة اللبنانية.
ثنائية "العدالة والاستقرار" وسيناريوهات الإفلات من المحاكمة!
المحاكم الدولية كلها تقريباً، بما فيها المحكمة الخاصة بلبنان، وجدت نفسها أمام ثنائية العدالة والاستقرار، ولعل أكثر ما تمثل ذلك في محكمتي يوغسلافيا ولبنان، حيث وُجد من يقول -داخل البلد المعني أو خارجه-، إن المحكمة "عبء على الاستقرار"، وإن ضرورات السلم الأهلي تفرض التخلص منها بعد إقرارها، بعدما ظهر الانقسام الشديد حولها (المجازر الكبرى في يوغسلافيا وقعت بعد إقرار المحكمة).
وينسحب هذا الوضع أيضاً على السودان، ذلك أن مواقف العديد من الدول العربية والإفريقية -وبعض الدول الأوروبية مؤخراً- من مسألة محاكمة الرئيس البشير، يظهر بوضوح أنها تركز على معادلة "الاستقرار والعدالة"، على اعتبار أن الأهم وفق هذه الدول- إنهاء الأزمة في دارفور، وأن الإصرار على محاكمة البشير من شأنه تعقيد الأمور، بدلاً من حلها!.
وكان راج في لبنان (إعلام 8 آذار) أنه بعد موافقة حكومة الخرطوم على انفصال جنوب السودان فقد انتهى القرار الدولي بتوقيف الرئيس البشير، لكن متابعة ما يجري في السودان لا يدعم هذه الفرضية، بل إنه في التدقيق في هذه المسألة بالذات يتبين أن المعلومات التي تبث إعلامياً عن احتمال قيام صفقة من هذا النوع؛ مصدرها حركات التمرد في دارفور والمعارضة السودانية من باب التوجس من حصول ذلك، ومحاولة منعه استباقياً، فيما يلتزم الطرفان المعنيان؛ حكومة الخرطوم من جهة والأمم المتحدة من جهة أخرى الصمت.
والواقع أنه لم تصدر أية إشارة من الولايات المتحدة أو مجلس الأمن بهذا الاتجاه رغم مرور أكثر من شهرين على الاستفتاء الذي أدى إلى انفصال جنوب السودان، فضلاً عن أن هذا السيناريو، يتطلب قراراً من مجلس الأمن الدولي (نظام روما يعطي مجلس الأمن حقَّ تعليق إجراءات المحكمة لمدَّة 12 شهراً قابلة للتجديد)، وأن الاعتبارات السياسية لإدارة أوباما وللدول الأوروبية الحريصة على تقوية المحكمة الجنائية الدولية تمنع ذلك.
وعليه، لا تبدو حكومة الرئيس البشير مقتنعة أن المجتمع الدولي سيُسقط مذكرة التوقيف بحق البشير، وهي لا تملك أي ضمانة في ذلك، ولا حتى ضمانة بما هو أقل، أي إزالة السودان من القائمة الأمريكية للدول الراعية للإرهاب، ولكن أقصى الأماني لنظام البشير في هذه المرحلة؛ عدم الضغط باتجاه تنفيذ مذكرة التوقيف الدولية، والتعاطي مع ما جرى في دارفور على أنها أحداث وقعت وانتهت!. (مع التذكير أن الرئيس البشير متهم وليس مداناً، والأصل أنه بريء حتى تثبت إدانته).
بين المطالبة بالعدالة والخشية على الاستقرار، وبين تمسك الضحايا بالمحكمة واتهام مناهضيها لها بشتى التهم، يتشابه لبنان مع كل الدول التي شهدت جرائم مروعة وقامت محاكم دولية على إثرها.