الثورات العربية بريئة من تصنيفات "الاعتدال" و"الممانعة"!
فادي شامية
يحلو للبعض في لبنان أن يُسقط أي حدث في هذا الكون في صالح مشروعه السياسي الداخلي. لا عبرة للمسافات واختلاف الشعوب وطبيعة الأشياء، ولا حرمة لأي شيء، ولو على حساب تكييف الحقائق... من أجل إرضاء الشعور بـ"التفوق السياسي" في الأحقية والقوة.
ولأن الأداء على هذا النحو، فلا يمكن أن يفلت موضوع الثورات العربية التي تهز المنطقة العربية هذه الأيام من دائرة الاستثمار السياسي. أحمدي نجاد رأى أن "ثورة 25 يناير" –وقبلها "ثورة الياسمين"- هما نتيجة الثورة الإيرانية! (رغم أنه منع خروج مظاهرة في بلاده لتأييدهما من قبل المعارضة!)، وعلى خطاه سار فريق الثامن من آذار، بقيادة "حزب الله"، فاعتبر أن الثورات العربية هي نتيجة حرب تموز 2006، وأنها حركات قامت على أساس دعم مشروع "المقاومة"، وأنها حركات مختصة بدول "الاعتدال العربي"!.
هل الاحتجاجات الشعبية مقتصرة على صنف معين من الدول؟!
فعلياً، فإن الثورتين اللتين نجحتا -حتى الآن- في تونس ومصر، أصابتا بلدين مما يسمى "اعتدالاً" عربياً، لكن ما هو أدق في هذا المجال أن هذه الثورات خرجت من رحم الظلم والقهر قبل أي شيء آخر، خلافاً لمحاولات تحميلها أبعاداً قومية أكثر مما تحتمل. كما أن "أهل" هاتين الثورتين أنفسهم، لا سيما المصريون منهم، رفضوا محاولات تلبيس ثورتهم لبوساً ليس لها، ولعل في أدبيات ما بعد الثورة المصرية الكثير مما يعبر عن ذلك. والأهم، أن هذه الثورات لم تقتصر على "صنف" من البلدان العربية، وإنما ولّدت مزاجاً شعبياً شمل العالم العربي كله، بما في ذلك دولة "الممانعة" الأولى في المنطقة، وقد تمظهر هذا المزاج في بلدان معينة، وظل مخنوقاً في بلدان أخرى، كما أن الاحتجاجات الشعبية أخذت في بلدان طابعاً عاماً في رفض الظلم والاستبداد، وسقطت في بدان أخرى في حفرة المطالب المذهبية أو الفئوية، بحيث صارت أقرب إلى الحرب الأهلية منها إلى الثورة الشعبية.
على أي حال، فإن الثورات العربية المجيدة أسقطت رئيسين عربيين حتى الآن، وهي تناضل من أجل إسقاط الثالث، وهو عميدهم معمر القذافي، الذي لا يمكن بحال اعتباره معتدلاً، أو وصف نظام جماهيريته بصفة الاعتدال والتبعية لأميركا، وهي الدولة التي حاربته وقصفت بيته وقتلت ابنته، وما زالت على عدائها له، رغم تخليه الطوعي عن برنامجه النووي المثير للجدل، ودفعه تعويضات كبيرة لمتضرري جريمة لوكربي. كما لا يمكن وصف الخارجين على نظامه بأنهم يقاتلون لأنهم "ثوريون" أكثر منه، وهو الذي تخلى عن منصبه الرئاسي ليصبح قائداً لـ "الثورة"، فضلاً عن أنهم هم، لا سواهم، من طالب العالم – وهو مطلب حق- بالتدخل لصالحهم فيما يبدو القذافي –عن غير حق- كمن يقاتل الاستعمار الجديد!.
والواقع أن المشهد الليبي يكشف ما هو أكثر فضحاً لمزاعم تحريك الثورات العربية على سكة الاعتدال العربي حصراً، فالقذافي ليس عميد الحكام العرب وحسب (تسلم الحكم بانقلاب عسكري وهو ابن 27 عاماً متأثراً بالطروحات الاشتراكية والناصرية)، وإنما هو عميد طروحات الوحدة العربية أيضاً؛ فهو أول من طرح الوحدة بين مصر والسودان وليبيا (ثم سوريا)، ما حدا بالرئيس المصري السابق جمال عبد الناصر بوصفه "الأمين على القومية العربية". ولم تتوقف طروحات الوحدة لدى القذافي بوفاة عبد الناصر، بل ازدادت، في محاولة من العقيد، لإرث الزعيم المصري الراحل؛ فطرح الوحدة مع تونس عام 1974، ومع الجزائر عام 1975، ومع المغرب عام 1984، والوحدة العربية الإفريقية عام 1988.
كما أن القذافي لم يترك منظمة ثورية في العالم إلا تعاطى معها؛ ابتداءً من الفصائل الفلسطينية المقاومة وانتهاءً بكل حركات الإرهاب (عدا الإسلامية منها). وقد زج القذافي بلاده بسبب هذا السلوك في صراعات مع بلدان عديدة، عربية وغير عربية، كما ورط ليبيا في الحرب مع تشاد ما بين 1980 إلى منتصف 1987 بعد دعم حركة التمرد المعروفة باسم "جبهة التحرير الوطني التشادية (فرولينا)"، فضلاً عن خوض صراع دامٍ مع الغرب والولايات المتحدة الأمريكية؛ وصل ذروته عام 1986، عندما شنت الولايات المتحدة الأمريكية غارات جوية على ليبيا وعلى منزل القذافي بالذات.
إضافة إلى مسؤولية نظام القذافي عن خطف الإمام موسى الصدر، وتورطه في أحداث إرهابية من أبرزها: تفجير ملهى في برلين عام 1986، وتفجير لوكربي عام 1988، وتفجير طائرة الـ "يوتا" الفرنسية عام 1989، ومحاولة اغتيال خادم الحرمين الشريفين عبد الله بن عبد العزيز عام 2003، وغير ذلك من الأعمال الإرهابية.
من يدافع عن القذافي اليوم؟
لا شك أن تاريخ القذافي سالف الذكر، واتخاذه من القومية العربية والوحدة الإفريقية وتحدي الغرب شعاراً، ودعمه للإرهاب وللمقاومة على السواء، وتعرضه للحصار الدولي سنوات طويلة (قبل أن يقرر التخلي عن برنامجه النووي طواعية ويدفع تعويضات باهظة عام 2003 على خلفية قضية لوكربي)... لا شك أن ذلك كله يمنع من تصنيف القذافي ضمن الدول المسماة "دول اعتدال عربي"، ومع ذلك فقد شملته الثورات العربية، كما شملت اليوم سوريا نفسها (التي أغفل الأمين العام لـ "حزب الله" السيد حسن نصر الله ذكرها كلياً في مهرجان "دعم الثورات العربية" مساء السبت) ما يشير إلى أن هذه الثورات هي وليدة الاحتقان المتراكم من السياسات الداخلية لأي دولة تشهد احتجاجات قبل الامتعاض أو الغضب المرتبط بالسياسة الخارجية لهذه الدولة.
والأهم في ما يجري في ليبيا اليوم أن ثمة دولاً، توصف تقليدياً بأنها دول ممانعة أو تدعم دول الممانعة، هي التي تقف إلى جانب القذافي، أو تتعاطف معه. ولعل موقف سوريا -على وجه التحديد- في رفضها الحظر الجوي على ليبيا داخل أروقة جامعة الدول العربية، وتوالي التقارير عن دعمها كتائب القذافي بالغ الدلالة على ما سبق.
ويزداد المشهد اكتمالاً بالموقفين الروسي والصيني في مجلس الأمن من التدخل الأممي في ليبيا إنقاذاً للمدنيين، ويصل المشهد إلى ذروة الوضوح بموقف كل من الرئيس الكوبي فيدل كاسترو والفنزويلي هوغو شافيز الموصوفين بعدائهما لأميركا والغرب، حيث يرى كاسترو أن أميركا هي التي تحرّك الثوار الليبيين، بينما يعتبر الرئيس الثوري هوغو شافيز، أن لا وجود لثورة في ليبيا، وإنما يواجه "القذافي حرباً أهلية"!.
لهذه الأسباب فإنه من قبيل الخطأ المقصود توصيف الثورات العربية التي يشهدها العالم العربي اليوم بأنها ثورات مرتبطة بالقضايا القومية فقط، وأنها مقتصرة على دولٍ بعينها... ولعل القادم من الأيام ينبئ بمزيد من الإحراج لمن يروج لهكذا طروحات، خصوصاً إذا ما كَسر المزاج الساخط في بعض الدول حاجزَ الخوف وتحوّل إلى هدير غاضب.
لقطات:
من المعلوم أن ثمة أكثر من شخصية سنية بارزة تتلقى الدعم من العقيد معمر القذافي منذ سنوات طويلة، ومع ذلك فقد حجزت هذه الشخصيات مكاناً متقدماً في صفوف الثامن من آذار، الذي يعادي أحد أهم أقطابه؛ الرئيس نبيه بري القذافي لدرجة أنه رفض مشاركة لبنان في القمة العربية التي انعقدت في ليبيا العام الماضي، ومع ذلك فقد كان يرحب بحلفاء هذا النظام في صفوف فريقه السياسي!.
غداة اندلاع الثورة في ليبيا، وقعت الشخصيات القريبة من القذافي في إحراج شديد، وعلى سبيل المثال، فقد و أدى موقف الشيخ عبد الناصر جبري من الثورة الليبية إلى أزمة له مع حلفائه، لدرجة أن تعطلت الصحيفة التي يشرف هو عليها، بتمويل من "حزب الله"، المسماة؛ "الثبات".
ومن غريب التناقضات أيضاً استقبال النائب السابق أسامة سعد للسفير الكوبي مانويل سيرانو أغوستا، يوم السبت الماضي (19/3)، وتوجيهه "تحية إلى كوبا على موقفها الداعم للثورات العربية"، مع العلم أن موقف كوبا مما يجري في ليبيا كان إلى جانب القذافي، حتى قبل التدخل الأممي!.