تسجيلات "الجديد": فضيحة لمن؟ 3/3
شهادة الياس المر
فادي شامية
برأي كثيرين فإن التسجيل الأهم الذي عرضته قناة "الجديد" هو شهادة الوزير الياس المر، مع أن هذه الشهادة ظُلمت عندما جرى التركيز فيها على ما وصفته القناة بـ "النميمة السياسية"، بحق سليمان فرنجية، وسمير جعجع، وسمير فرنجية، والياس عطالله، والوليد بن طلال، وقوى "14 آذار"... ورئيس الجمهورية الذي ينتمي المر إلى فريقه الوزاري، ذلك أن ما يهم المواطن ليس ما يقوله السياسيون بحق بعضهم -وكلٌ له انتقاداته أو توصيفاته للآخرين حتى ضمن الحزب أو الفريق الواحد- وإنما المهم هو القضايا العامة، وهي كثيرة في هذه الشهادة، ولعل أبزها ما يأتي:
1- توضيح جانب هام مما جرى عشية التمديد للرئيس السابق إميل لحود، فإذا كان معلوماً أن التمديد تم بقرار سوري، فإن الجديد ما كشفه المر من أن لحود نفسه، كان يدرك مخاطر هذا التمديد، وآثاره السلبية عليه شخصياً، إلا أنه لم يجرؤ أن يقول للقيادة السورية أنا لا أريد التمديد، قائلاً لنسيبه الوزير المر: "أنا مقتنع بذلك (أي بنهايته السياسية في حال قبِلَ التمديد)، لكنهم (السوريون) سيقولون بأنني ناكر للجميل... لا يسعني فعل ذلك"!.
2- أضاءت شهادة المر على مزيد من الأدوار الخطيرة، وغير الوطنية، التي لعبها، المدير العام السابق للأمن العام اللواء جميل السيد، لا سيما في موضوع التهديدات التي كان يتعرض لها الحريري من القيادة السورية –ثمة ما يشبه التطابق في هذا الموضوع بين إفادة الرئيس الحريري والوزير المر وما نُشر في حينه في الإعلام-، وقد أفضت القناعة التي كوّنها المر عن أدوار السيد أنه قال للمحقق رداً على سؤال عمن يمكنه أن يعلم بهذه التهديدات: "إنه جميل السيد هذا رأيي الشخصي". إشارة إلى أن الكلام عن اللقاء بين الرئيس الشهيد رفيق الحريري والوزير الياس المر في جنيف قبل الاغتيال، احتل حيزاً من شهادة الرئيس سعد الحريري، حيث يقول سعد الحريري عن المر: "لقد قضى أجمل اللحظات مع والدي في ذاك الاجتماع، وكأن والدي كان يودّعه في تلك الجلسة... لقد غادر (المر) لبنان، فحتى عمّه (رئيس الجمهورية) لم يكن قادراً على حمايته من محاولة الاغتيال... لذلك قال لي الياس المر: نصحني عمّي بمغادرة لبنان".
3- ثمة نقطة غاية في الأهمية، كُتب عنها في الإعلام سابقاً من باب التحليل، لكن لم تكن هذه الكتابات مدعّمة بشهادة من شخصية بأهمية المر، وهو المعني الأول بالموضوع؛ فقد كان معلوماً أن النظام السوري – كما معظم الأنظمة العربية- يسوّق نفسه أمام الغرب بأنه الضمان في مواجهة التطرف، لكن ما كان يحتاج إلى دليل (شهادة المر) أن أجهزة المخابرات السورية كانت تشجع التطرف قبل أن تقمعه، وتستفيد منه عندما تكشفه، بمعنى آخر أنها كانت تستغل الإرهاب لأهداف سياسية، وفي ذلك يقول المر بعبارات واضحة: "كانوا يقنعوننا (الغرب) بأن هذا النظام هو الضامن الوحيد للمتطرفين السنّة في سوريا ولبنان وفي المنطقة، وبأن هذا النظام يحارب الإرهابيين 100%، وبأن هذا النظام لا يمكنه أن يحيا في وجود الإرهابيين، وكنا نعمل معهم على ملفات 600 ألف إرهابي!، الآن يسعني القول، من وجهة نظري، بأنهم كانوا يسوّقون هذه الفكرة لدى العام بأسره (لأهداف سياسية)، إذ كيف يمكن لهذه الخلية أن تكون في عنجر على مسافة قريبة جداً من مكتب رستم غزالة وهي تضم متطرفين إرهابيين؟ كيف يمكن لهذا النظام أن يجمع بين مكافحة الإرهاب والسماح بوجود الإرهابيين؟!".
4- موضوع آخر لا يقل أهمية؛ هو محاولة اغتيال مروان حمادة. هذا الموضوع هو فضيحة بحجم الشهادات السابقة كلها. لنترك المر يروي الوقائع التي بثتها "الجديد": "أصدرتُ الأوامر، وعملنا بجهد وعثرنا على الخنسا (شخص من آل الخنسا نمتنع عن نشر اسمه الكامل) الذي صنع الصفائح (المتفجرة)، فأصدرتُ أمراً باعتقاله وببدء التحقيقات، ثم اتصل بي الجنرال (مروان) زين (مدير عام قوى الأمن الداخلي وقتها) وأخبرني أن رستم غزالة اتصل به، وقال له: إن مروان حمادة كذاب. قام بمحاولة قتل نفسه!، أو إسرائيل قامت بذلك. توّقف أنت ومنذر الأيوبي عن اللحاق بهذه القصة الغبية. مروان زين أخبرني بالأمر (أي أخبر المر)، وأنا قلت له: تابع حتى النهاية، ولا ترد على أحد. بعد الظهر، انتقل الملف عبر السيد عدنان عبدو إلى مخابرات الجيش، على الرغم أنني قلت لهم، حتى لو تمّ تحويل الملف، فإن واجبي إن وجدت شيئاً هو الاستمرار، والمتابعة بالأمر، لكنهم بالطبع كانوا خائفين (أي الضباط اللبنانيين)، لكنهم استمروا، لا سيما الجنرال مروان زين، الذي أخبرني -ومنذر الأيوبي- أن رستم غزالة قال لمروان زين: قل للغبي منذر الأيوبي، أن يوقف التحقيق الذي يجريه أو سيرى"!. واللافت هنا أن المتهم بالاغتيال وفق غزالة هو "إسرائيل"، ومع ذلك كان المطلوب وقف التحقيقات!، واللبيب يفهم من الإشارة، وكفى بهذه القصة –وأمثالها- دليلاً للمشككين على موجبات طلب التحقيق الدولي – وليس المحلي- في جريمة اغتيال الحريري وباقي الشهداء. (في شهادة الرئيس سعد الحريري أن رستم غزالة قال لباسم السبع: "لا تقلق يا باسم، لن نفعل بك ما فعلناه بمروان حمادة! -وفق ما بثته "الجديد"-).
5- كشفت شهادة المر كذلك، جزءاً من لثام البراءة الذي يتدثر به اللواء علي الحاج- وزوجته أيضاً-. في الأساس فإن علاقة علي الحاج بالمخابرات السورية لا تحتاج إلى دليل، لكن الأمر لم يقف عند هذا الحد، فقد حاول الحاج –وفق شهادة المر التي بثتها "الجديد"، إعاقة التحقيق في ملف إرهابي خطير – يُرجح أنه كان جزءاً من تحضير مسرح اغتيال الحريري ولصقه بالإسلاميين المتطرفين- ذلك أنه عندما توجه العميد منذر الأيوبي إلى عنجر ومعه أحد المعتقلين بهدف استخراج كمية من المتفجرات المدفونة في أحد الأماكن، "حصل صدام بين منذر الأيوبي وعلي الحاج، لأن علي الحاج كان مسؤولاً عن المنطقة، وقال لمنذر الأيوبي: ماذا أتيت تفعل في منطقتي بدون طلب الإذن؟! وبدلاً من مساعدته، بدأ بالصراخ في وجهه، وكأن ليس هناك متفجرات، بل بدت المشكلة هي سبب ذهابه إلى المنطقة، فأجابه الأيوبي – ودائماً وفق شهادة المر- إن مهمتنا تشمل كل لبنان، ونحن تحت غطاء القاضي للقيام بتلك المهمة، وأمرني وزير الداخلية بالإتيان بالمتفجرات". ويردف المر قائلاً في شهادته: "لقد قال لي القاضي سعيد عيد بعد ذلك: إن رستم غزالة قال له حرفياً: إمّا أن تطلق سراح المرأتين اللتين وجدتم المتفجرات في حديقتهما، أو أنك لا تعرف ما قد يحصل". (لاحظ كيف كان يجري التعامل مع القضاء!).
6- مجمل الوقائع الهامة التي أوردها الوزير المر توضح الأسباب التي أدت إلى استبعاده عن الوزارة حينها، - وهو يروي على كل حال في شهادته أنه قرأ ما حصل معه، فطلب التنحي فحل محله في وزارة الداخلية سليمان فرنجية-، كما أنها توضح سبب ابتعاده عن لبنان في تلك الفترة، وهي توضح راهناً سبب الحملة المستمرة على الرجل، والإصرار على استبعاده في الحكومة الحالية، بمعزل عن رغبته هو بعدم التوزير. ( ولا يعني هذا الكلام بالضرورة تنزيه المر في أدائه الوزاري مما يمكن قوله في موضعه).
في شهادة المر أيضاً رواية مؤثرة عن رجل – هو المر نفسه- ضمه ملك الموت ضمة اختلفت فيها ضلوعه، قبل أن يتركه، فيفتح عينيه ليرى قاتله، الذي ضغط على "الريموت كونترول". كان يفترض بهذه الرواية التي رواها شاهد عيان (المر) عن نفسه، من كل الذين تسقّطوا كلماته، أن يحترموا جروحه قليلاً، بمعزل عن الخلاف السياسي، لكنهم لم يفعلوا.
يقول المر في سرد مؤثر: "شعرت (بعد الانفجار) ربما بمئة درجة مئوية من الحرارة. نظرت فرأيت شخصاً تفحّم قربي. هذا المسكين توفي إثر الحادث. حاولت أن أمشي، فكان الأمر بغاية الصعوبة، لا سيما في ساقي اليسار، لكنني حاولت ببطء، وفي هذه الأثناء، عندما كنت أحاول السير، رأيت شخصاً يخرج من بين الأشجار، كان طويلاً وسمرته واضحة، ذو لحية خفيفة. في تلك اللحظات عندما تكون شبه واعٍ وترى شخصاً، عندئذ لن تنساه... كان شعره مصفف جيداً، طوله يقارب المترين. رأيته يركض بين الأشجار قربي، وقفز إلى الفيلا التي كانت على يسار الطريق. لقد قفز ونظر إليّ وهو يركض، وأنا أيضاً نظرت إليه ثم هرب. قفز إلى الحديقة واختفى".
المحقق: "هل تظنه كان متورطاً بطريقة أو بأخرى بالحادثة؟"
المر: نعم، أظن أنه الرجل الذي ضغط على جهاز التحكم عن بُعد. في هذه اللحظات تظهر لدينا حاسة سادسة قوية، ونشعر بالأمور أكثر، فهو كان ينظر إلي بعين ثاقبة، وبالعادة الأشخاص في مثل هذه الحالة لا يهربون بل يأتون للمساعدة... شعرت حينها أن لو كان يحمل مسدساً، لكان أطلق عليَّ النار. كان هذا ما شعرت به، لأنه نظر إلي، لم يكن منزعجاً، ولا خائفاً، كان بدون شعور، نظر إليّ وقفز، وعندما أتت الشرطة العسكرية إلى المستشفى، أخبرت الضابط وقلت له، لو ذهبتم قرب الحديقة، لوجدتم شيئاً هناك، لأني رأيت هذا الرجل في تلك المنطقة تحديداً. ذهبوا وعثروا على جهاز التحكم عن بُعد".
تُرى شهادة المر -وما سبقها- فضيحة لمن؟ للأسف أن التركيز على القشور حجب اللُباب، وكم هو هام!.