تسجيلات "الجديد": فضيحة لمن؟ 1/3
محاورة زهير الصديق وشهادة هسام هسام
فادي شامية
لم تحظ الشهادات الصوتية التي نشرتها قناة "الجديد" بالتحليل الموضوعي اللازم، ما سمح لهذه القناة، وثيقة الصلة بقوى 8 آذار، بتشكيل انطباع بأن كلام الرئيس سعد الحريري مع زهير الصديق إدانة للأول، ودليلاً على وجود شهود زور، كما سمح غياب القراءة الموضوعية للشهادات ببث الفرقة بين أصحاب هذه الشهادات وغير طرف سياسي ورد ذكره.
ونتيجة لهذا الواقع بتنا نسمح تصريحات سياسية تستند إلى هذه التسجيلات للتشكيك بالمحكمة، أو لتذكير فلان بما قاله في حقه فلان من السياسيين (تذكير رئيس الجمهورية بما قاله الياس المر عنه مثلاً، واستخدام ذلك في معركة تشكيل الحكومة الحالية، تحت عنوان: سوء اختيار الرئيس لوزرائه!، أو استعمال كلمة وردت من الرئيس سعد الحريري بحق الرئيس نجيب ميقاتي لإيغار صدر الأخير، وحثه على الترشح لرئاسة الحكومة ثم المضي في خيار حكومة اللون الواحد).
والراجح أن سبب نشر هذه المواد الصوتية هو هذا؛ خلق انطباع –ولو غير موضوعي- بأن المحكمة مسيسة، واستغلال ما ورد في بعض الإفادات من "نميمة" لتعكير علاقة أصحاب هذه الشهادات مع الآخرين، لكن التحليل الموضوعي لما ورد في هذه الإفادات يضعها في الموقع المعاكس تماماً، بغض النظر عما أسمته القناة "النميمة السياسية" التي لا يخلو منها مجلس سياسي واحد في لبنان.
وقبل الغوص في تحليل مضمون هذه الشهادات الصوتية، لا بد من طرح أسئلة؛ غاية في الأهمية، وهي:
- هل يجوز لوسيلة إعلامية أن تنشر شهادات أُدلي بها أمام جهة تحقيق دولية، وأن تتعامل مع هذه الشهادات وكأنها مواقف سياسية، تُنشر ويرد عليها؟ (هل يرضى مواطن عادي أن يكشف أحد المخافر في لبنان إفادته في أي إشكال أو جريمة وقعت أمامه؟ فكيف بشهادة بهذا الحجم حول موضوع بهذه الخطورة؟).
- وهل يجوز تحت عنوان الحرية الإعلامية تعريض حياة شهود للخطر؟ (سبق لـ "الجديد" أن بثت شهادات تتعلق بجريمة استهداف مي شدياق بما يعرض عدد من الأشخاص للخطر).
- وهل يصح تحت عنوان السبق الصحفي "نقل النميمة"؟ وإذا كانت "النميمة السياسية" أمراً سيئاً، أفليس نقلها ونشر مضمونها أسوأ؟.
- أليس بث هذه الشهادات يشكل خرقاً لسرية التحقيقات، في الوقت الذي تروّج فيه هذه القناة لنظرية تسييس المحكمة، بناءً على وجود تسريبات؟ وفي هذه الحالة من الذي يسعى للدخول على خط المحكمة وتسييسها؟ وماذا عن تصريحات ميشال سماحة التي يتبنى فيها التسريب؟ (لقناة OTV بتاريخ 26/1/2011 على سبيل المثال).
- ثم من هي الجهة السياسية التي تحمي القناة في خرقها القانون؟، ثم التمادي في خرقه، بعدما أعرب المدعي العام دانيال بلمار في 18/1/2011 "عن قلقه الشديد إزاء بث بعض القنوات التلفزيونية اللبنانية، بدون إذن، تسجيلات يبدو أنها استجوابات أجراها مسؤولون من لجنة التحقيق الدولية المستقلة التابعة للأمم المتحدة"، معتبراً أن "هذه المواد تُعدّ سرية ومحمية، ونُشِرت خرقًا للقانون"؟.
- ثم لماذا اقتصرت الشهادات على عدد من الشخصيات المختارة؟ وهل أن شهادة وليد جنبلاط غير موجودة، أو أنها غُيبت لتفادي إحراج الرجل بعدما غيّر توجهاته السياسية؟
لا شك أن لبث الشهادات هدفاً سياسياً لا يخفى على أي متابع، وأن فيها قدراً من تجاوز أخلاقيات العمل الإعلامي، لكن ماذا عن المضمون؟
لقد بدأت قناة "الجديد" تسجيلاتها بعرض محاورة هاتفية بين الرئيس سعد الحريري (لم يكن يومها رئيساً للحكومة) والمحقق الدولي غيرهارد ليمان، ورئيس "شعبة" المعلومات في قوى الأمن الداخلي وسام الحسن، ومحمد زهير الصديق، الذي زعم في التسجيل أن لديه أدلة حول جرائم الاغتيال. بعد بث الحوار مباشرة انطلقت حملة مفادها أن التسجيل يشكل دليلاً على تورط كل من الحريري والحسن وليمان على "فبركة" شهود الزور، فهل هذه الدعاية في محلها؟
لقد كان لافتاً في المحاورة ارتفاع صوت الصديق، وثقته بنفسه، وكلامه بلا تكلف مع محاوريه، وأنه سبق أن تواصل معهم، وهي مؤشرات ركن إليها مناهضو المحكمة الدولية واعتبروها أدلة للقول إن التسجيل دليل على تسييس المحكمة، لكن الاستماع –المكرر- للمحاورة، يؤكد بوضوح الهدف منها، وهو إقناع محمد زهير الصديق الحضور إلى لبنان، وتسهيل هذا الأمر له، والتأكد من صحة معلوماته، في حين أن الرجل كان يشترط أموراً تتعلق بزوجته وأهله، إضافة إلى رفضه مقابلته القاضي سعيد ميرزا.
ووفق البيان الصادر عن الرئيس سعد الحريري فإن المحادثة "تمت بطلب مباشر من لجنة التحقيق الدولية، التي نظمت المقابلة وكلّفت ليمان بحضورها، وذلك للوقوف على حقيقة الإفادات التي يدلي بها الصديق، خصوصاً بعد تزويده اللجنة كتاباً خطياً يؤكد فيه تواجده على مسرح الجريمة في 14 شباط 2005، خلافاً لمعلومات سابقة كان قد أدلى بها. وقد تم فعلاً تلبية طلب لجنة التحقيق، وأجريت المقابلة، التي اقتطعت منها المحطة التلفزيونية، فقرات تطغى عليها الإثارة الإعلامية لإخراجها من سياقها العام". وأن "الجهات اللبنانية المختصة، سبق أن أبلغت لجنة التحقيق الدولية، بأن الإفادات التي أدلى بها الصديق، هي إفادات كاذبة، وأن اللجنة رأت وجوب مقابلته لاستيعابه وكشف حقيقة أقواله"(وفق بيان مكتب الحريري).
لكن بمعزل عن ذلك، فإن الأهم في الموضوع كله أن هذه المحادثة لا تشكل دليلاً على "فبركة" شهود، كما حاول أن يوهم مناهضو المحكمة اللبنانيين، ذلك أن الحوار الذي دار بين المجتمعين بعد مكالمة الصديق يظهر بوضوح الشك في أقواله، والمنطق يقول إن "فبركة" شاهد تكون بتلقينه معلومات، لا سؤاله ثم التباحث في صدق أقواله!، كما أن "الفبركة" تفترض الاتصال بالشخص وليس عدم الرد على اتصالاته، كما هو وارد في الحوار على لسان الصديق نفسه (الصديق للحريري: دقيتلك يومها أكتر من مرة, رنيت رنيبت, وما رديت).
ثمة نقطة يمكن إثارتها؛ هل كان صائباً أن يقبل الحريري طلب لجنة التحقيق إجراء هذا الحوار؟ (المقابلة جرت أوخر أيلول 2005 كما يبدو، إذ ذكر الصديق أن انفجاراً استهدف مي شدياق قبيل المحادثة) لعل من الصعب الحكم على صوابية هذه الخطوة اليوم دون الاطلاع على المعطيات التي أفضت إلى ذلك، ولكن الأكيد حسن نية الحريري –وهذا ظاهر في المحادثة نفسها- وسعيه للوصول إلى حقيقة زهير الصديق، في حين أن خصومه كانوا سيئي النية في التعامل مع المحادثة، من خلال تسريبها ثم تصويرها على غير حقيقتها (على سبيل المثال قال العماد ميشال عون، بناءً على تسجيلات "الجديد"، في 5/2/2011: إن الحريري هو أحد أركان مجموعة شهود الزور، ويجب استجوابه واستجواب شهود الزور كافة")، هذا مع التذكير أن الفريق المناهض للمحكمة لم يتورع عن استضافة شاهد زور أكيد، هو السوري هسام هسام (انتقل من لبنان إلى سوريا بعد إدلائه بشهادته، ثم ظهر على التلفزيون الرسمي السوري ليعترف على نفسه بأنه أدلى بشهادة غير صحيحة)، لهدف سياسي ظاهر، هو دعم كلام السيد نصر الله في اتهامه "إسرائيل" بجريمة اغتيال الحريري!. حدث هذا الأمر في 13/8/2010، وعلى شاشة قناة "المنار"!. (وليس في العام 2005 حيث كان الشك وليس اليقين هو الملازم لشهادات هؤلاء).
في هذه الإطلالة التلفزيونية قال هسام هسام: إن معطيات السيد نصر الله صحيحة، وإن "إسرائيل" اغتالت الحريري، وإنه –أي هسام- رأى العميل غسان الجد في موقع يبعد 400 متراً من مكان الانفجار وقت حصوله!، (لم يتعرف هسام إلى الجد عندما عرض عليه ديتليف ميليس صورته)، وإنه سيكشف في اليومين المقبلين، وفي مؤتمر صحفي!، أموراً أخرى تتعلق بالمحكمة وبالتحقيق الدولي"!. وقد كان اللافت في هذه الشهادة أنها ناقضت أيضاً شهادة هسام نفسه التي بثتها قناة "الجديد" لاحقاً، فضلاً عن مناقضتها شهادته على التلفزيون السوري يوم فر إلى سوريا، لأنه في كلا الشهادتين لم يتهم "إسرائيل"!، والأغرب أن الرجل مصنف ضمن شهود الزور، المطلوب توقيفهم، في حين تستضيفه "المنار"، ويعلن من خلالها رغبته بتنظيم مؤتمر صحفي! (في محاولة لتصحيح هذه "الغلطة"، صرّح محاميه عمران الزعبي في اليوم التالي لصحيفة الشرق الأوسط بأن موكله "قام بمداخلة على قناة المنار بمبادرة شخصية منه" وأنه "لم يتقرر عقد مؤتمر صحافي"!).
الكلام عن هسام يقودنا بسرعة إلى تحليل شهادته التي بثتها "الجديد" ليتبين لنا؛ ليس كذب هذا الرجل، -فقد سبق أن اعترف على نفسه بالكذب-، وإنما الإشارة إلى الجهة التي أرسلت هذا الرجل إلى لجنة التحقيق الدولي، وهنا الفضيحة!!.
وللتذكير؛ فإن هسام كان يعمل مع جهاز المخابرات السورية في لبنان، وقد تقدم من لجنة التحقيق الدولي من تلقائه، وطلب أن يدلي بإفادته مقنعاً (عُرف باسم الشاهد المقنع)، لكنه وخلافاً للمفترض في الحالات المشابهة، فقد سعى للظهور في الإعلام، لا سيما إعلام "المستقبل"، ولما رفض هذا الإعلام إظهاره أو التعامل معه، لجأ إلى قناة "الجديد" (قبل خمسة أيام على فراره)، كما سعى للتقرب إلى شخصيات بارزة في "14آذار" (سعى لمقابلة سعد وبهية الحريري لكنهما رفضا)، قبل أن يظهر في مسرح جريمة اغتيال جورج حاوي، ثم يفر إلى سوريا في 27/11/2005، وهو اليوم نفسه الذي نظمت له فيه السلطات السورية مؤتمراً صحفياً لنقض شهادته السابقة!، بدعوى أنها جرت تحت التعذيب! (فراره تلا الموافقة السوريّة على التحقيق مع خمسة ضباط أمنيين سوريين في فيينا من قبل لجنة التحقيق الدولية). ولا تخفى على صاحب عقل دلالة الوقائع السابقة، على أساس أن تصديق شهادة شخص وظهوره في الإعلام مع شخصيات داعمة للمحكمة، ثم ادعاء هذا الشخص على نفسه بالكذب من شأنه التشكيك بالمحكمة، ما يعطي إشارة عمن "فبرك" هذا الشاهد وأضرابه. (قال الناطق باسم لجنة التحقيق السوريّة إبراهيم دراجي بعد المؤتمر الصحفي لهسام: "إن تقرير اللجنة الدولية انهار وسقط سياسياً وإعلامياً وقضائياً بالضربة القاضية وبشكل كامل")!.
وبالعودة إلى الشهادة التي بثتها الجديد يظهر ما يأتي:
قال هسام (في اتهام لـ "القاعدة" بشكل خرافي ومضحك): "أسامة بن لادن كان قد أعطى رفيق الحريري ملياري دولار ليحتفظ بهم على سبيل الأمانة، وعندما احتلت القوات الأميركية أفغانستان رفض الحريري إعطائهم المال، وعملية القتل كانت بدافع الانتقام"! هذه الشهادة تناقض كلام هسام العلني الذي قاله في المؤتمر الصحفي الذي نظمته له السلطات السورية في 27/11/2005، حيث اتهم يومها (بشكل مضحك أيضاً) سعد الحريري –وفريقه- بقتل والده، قائلاً: "شهادتي (السابقة) كلها زور. شهادتي كلها كذب. هنّي قاتلينو، قرطة الحريري هم الذين قتلوا الحريري". وهي تناقض أيضاً إفادته على قناة "المنار" العام الماضي عندما قال: "نعم إسرائيل اغتالت الحريري"!!
إشارة إلى أن "الجديد" يفترض علمها بكذب ما أدلى به هسام، لأنها نشرت المحادثة بعد كلام هسام على المنار، والتناقض ظاهر بين الإفادتين، فضلاً عن أن المذيعة لديها زهرة بدران كانت من أوائل من كشف كذب هسام... قبل أن "يعفو" جميل السيد عنها وعن النائب وليد جنبلاط، في اختياره أسماء المشمولين بمذكرات التوقيف السورية!.