بين بيان دار الفتوى ومطالب الذين سمّوه لرئاسة الحكومة
ماذا تعني موافقة ميقاتي على "الثوابت الإسلامية الوطنية"؟!
فادي شامية
ما تزال "مغامرة" الرئيس ميقاتي– وفق وصفه هو- مستمرة، وما تزال التحديات التي يواجهها الرئيس المكلف صعبة، وقد جاءت وثيقة "الثوابت الإسلامية الوطنية"، التي تعتبر بيان صادر عن مؤتمرٍ؛ ضم جميع ممثلي الشرعية السياسية والدينية للسُّنة، وبما يلزم أي مكلّف بتمثيل الطائفة السنية -لا سيما في موقع السنّة الأول في الدولة- لتزيد من التحديات أمام ميقاتي، حيث نجح اللقاء الذي انعقد في دار الفتوى، ظهر الخميس 10/2/2011، في إصدار "وثيقة ثوابت" تاريخية، لم يكن أمام الرئيس نجيب ميقاتي إزاءها سوى أحد خيارين؛ إما عدم الموافقة وبالتالي يصبح معزولاً عن "شارعه"، ومتنكراً لثوابت هذا الشارع (نموذج الرئيس أمين الحافظ عام 1973)، وإما الموافقة -مع بعض التحفظات- بما يحفظ له شرعية تمثيل هذا الشارع، على أساس هذه الثوابت، فاختار ميقاتي الحضور والموافقة!.
والواقع أن موافقة ميقاتي على "الثوابت الإسلامية الوطنية" ليست التحدي الأول الذي يواجهه الرجل في هذه المرحلة، بل يمكن القول إن هذه الوثيقة أسهل التحديات، مع إمكانية أن تشكّل رافعة له أمام التحديات الأصيلة الأخرى التي يواجهها، والتي أهمها:
أولاً: "ملابسات" التكليف والحفاظ على "الشارع" و"الوسطية"
واجه الرئيس المكلف في عملية التكليف ظروفاً، ما تزال تضغط عليه؛ فقد أسقط "حزب الله" الحكومة بطريقة ديمقراطية -ولكن خلافاً لمواثيق قطعها-، ثم لجأ بعد ذلك إلى ترهيب فريق من اللبنانيين بالسلاح، بهدف التأثير على عدد من النواب، ونقلهم سياسياً من فريق لآخر، بحيث تنقلب الأكثرية النيابية إلى أقلية والأقلية النيابية إلى أكثرية، وتكون حصيلة هذا التغيير تسمية الرئيس نجيب ميقاتي لرئاسة الحكومة.
هذه "الملابسات" ليست في صالح الرئيس المكلف، سيما أن "شارعه" لم يتقبّلها، وقد عبّر عن ذلك بـ"يوم الغضب" -المشوب بممارسات غير معهودة عن هذا الشارع بالذات-، ما يعني أن أولى تحديات الرئيس المكلف أن يعيد بناء الثقة بينه وبين "شارعه" الغاضب.
وقد أشارت "وثيقة الثوابت الوطنية" بوضوح إلى ملابسات التكليف هذه، عندما نصت حرفياً على "تفاقُم التجاوزات والأطماع باسم طوائف ولمصلحة قوى مهيمنة فيها، تعمل على إخضاع الآخرين لمنطقها السياسي؛ في تجاوزات للدستور أو للنظام العام، فتعتمد تارة الالتفاف عليهما، وتارةً أخرى الغلبة بالسلاح". كما أشارت الوثيقة إلى انتهاك الدستور عبر "الإصرار على الترهيب بالسلاح واستخدامه فعلاً في العمل السياسي للتعطيل أو للسيطرة". فضلاً عن "أسلوب الإسقاط لحكومة الوحدة الوطنية بعد التعهد بعدم الاستقالة، وفي ملابسات التكليف"، ما يعد "خروجاً على مسائل مبدئية، يستحيلُ التسليمُ بها عُرفاً أو ميثاقاً".
لا شك أن هذا الواقع يضغط على الرئيس المكلف الذي حاول في البداية وصف تكليفه تشكيل الحكومة بأنه "تكليف وسطي"، ولأن ذلك لم يكن صحيحاً، بمعنى أنه لم يأت نتيجة تسوية بين فريقين، عاد ميقاتي ليقول: "إن الوسطية تكون بالأفعال"، ما يعني أنه لا يستطيع اليوم أن يقفز عن هذه الوثيقة، إذا أراد الحفاظ على صورته الوسطية من جهة، وعلى علاقته مع "شارعه" من جهة أخرى، هذا مع الأخذ بعين الاعتبار أن وسطية الرئيس ميقاتي تضررت أصلاً بملابسات التكليف، فضلاً عن التقرير الهام الذي نشرته صحيفة "لوفيغارو" الفرنسية، في 26/1/2011، والذي كشفت فيه العلاقة التمويلية بين ميقاتي وإحدى الصحف التي دأبت على شن أقذع الهجمات على الرئيس سعد الحريري و14 آذار "بأساليب غير مسبوقة في عالم الصحافة". (لم يصدر تكذيب عن ميقاتي لمضمون التقرير).
ثانياً: صلاحيات رئاسة الحكومة ومطالب الذين سموه
انطلاقاً من "ملابسات" التكليف، ومن الأسباب التي أسست لإسقاط حكومة الرئيس سعد الحريري، فإن صلاحيات الرئاسة الثالثة تواجه ثقل مطالب من سمّى ميقاتي لرئاسة الحكومة، سواء في أسماء المستوزرين، وحقائبهم، والقوى السياسية التي وراءهم، أو في البيان الوزاري، ما يشكّل تحدياً قوياً للرئيس المكّلف.
وللإضاءة على هذا التحدي يجب الرجوع إلى مواقف ميقاتي نفسها؛ إذ لم يفوّت الأخير فرصة في الفترة الماضية، إلا وذكّر فيها بصلاحيات الرئاسة الثالثة، حتى أن 14 آذار كانت تتخذ من مواقفه سنداً لها في مواجهة الضغوط على الرئيس الحريري أثناء تشكيله الحكومة، وقد كان موقفه لافتاً -على سبيل المثال- عندما أعلن في 21/8/2009 أن الشراكة الوطنية لا تتحقق "من خلال استهداف رئاسة الحكومة موقعاً ودوراً وصلاحيات، لأن في ذلك استهدافاً لميثاق العيش المشترك، الذي ارتضيناه، والذي حقق التوازن الوطني الذي يقوم عليه لبنان".
ومن الواضح أن موقع رئاسة الحكومة يتعرّض اليوم لعمليات استهداف كثيرة؛ انطلاقاً "ملابسات" التكليف نفسه (تبني السيد نصر الله إسقاط الحكومة، وحديثه عن "استدعاء" الرئيس كرامي لتكليفه، ثم "نعيه" خيار كرامي، لصالح ميقاتي)، ثم تولي النائب علي حسن الخليل الرد على مطالب فريق سياسي دون علم أو إذن أو موافقة رئيس الحكومة المكلف (رده على مطالب كتلة "المستقبل")، ثم محاولة فرض شكل محدد للحكومة (بدليل إبلاغ ميقاتي للرئيس الجميل عدم موافقة "حزب الله" على تشكيل حكومة "وحدة وطنية" بشراكة كاملة)، ثم استعجال الرئيس بري التشكيل، وضربه المواعيد لذلك، ثم تحديد النائب سليمان فرنجية لنوعية الوزراء المطلوبين في الحكومة حتى يكونوا قادرين على مواجهة المرحلة، وبعبارة مسيئة لميقاتي وحكومته العتيدة (وزراء "زعران")، إضافة إلى تحديده جدول أعمال أول جلسة للحكومة القادمة (قوله في 3/2/2011: "في الجلسة الأولى سنحيل ملف شهود الزور إلى المجلس العدلي")، ثم تحديد الوزير السابق وئام وهاب مهلة محددة للرئيس المكلف لـ "تنفيذ المطلوب، وإن لم يفعل، نقول له يعطيك العافية"!
هذا التحدي –بالذات- يشكل عقبة كؤوداً أمام نجاح الرئيس المكلف؛ لأن من أسقط حكومة الحريري لن يقبل برئيس حكومة لا ينفذ "له" المطالب التي أُسقط الحريري لأجلها، ولعل في "المطالعة" التي ألقاها نائب الأمين العام لـ "حزب الله" نعيم قاسم في 10/2/2011 الدليل الواضح على ذلك، فقد قال قاسم: "لقد أسقطنا الحكومة بالثلث الضامن وبسرعة قصوى" وتابع: نريد "تدعيم ثلاثي القوة الشعب والجيش والمقاومة، وعدم ربط لبنان بالوصاية الأجنبية، وتأكيد السلم الأهلي، ورفض الإذعان لمؤامرة المحكمة، وإقفال بوابة لبنان بوجه المشروع الإسرائيلي، والانتهاء من مهزلة إلهاء الناس بعيداً عن معالجة قضاياهم الاجتماعية والاقتصادية والمعيشية... وانطلاقاً من هذه المطالبة عملنا على محاولة تكليف رئيس يستطيع أن يقوم بهذه المهمات، ويؤمن بهذه السياسات، وتم تكليف الرئيس ميقاتي بتوافق 68 نائباً"!. وهذا يعني بعبارات واضحة أن ميقاتي عليه أن يلتزم بالسياسة التي ذكرها قاسم، وإلا سيكون مصيره كمصير سلفه.
ولعل في تنبيه وئام وهاب للرئيس المكلف دلالة إضافية، ذلك أن وهاب المحتَضَن من "حزب الله"، رفض كلام ميقاتي عن الإجماع حول طريقة التعاطي مع المحكمة، قائلاً "غير مقبول حديث البعض عن المحكمة الدولية ودعوتهم إلى ضرورة وجود إجماع وطني حولها... هذا البعض عليه أن يعرف أن ليس في لبنان شيء اسمه إجماع وطني على مسألة ما منذ فترة ما قبل الاستقلال" (10/2/2011).
ثالثاً: السلم الأهلي ومخاطر الفتنتين: الإسلامية والسنية
لا يخفى أن أحد أهم أهداف "مؤتمر دار الفتوى السني" يوم الخميس الماضي، هو منع استبدال الفتنة السنية-الشيعية بفتنة أخطر هي؛ الفتنة السنية- السنية، التي يمكن أن يكون طرفا قطبيها الرئيسين الحريري وميقاتي. هذا الهاجس كان حاضراً بشدة أثناء المداولات التي جرت بعيداً عن الأضواء قبل اجتماع دار الفتوى، لا سيما بعدما جرى في طرابلس.
ولأن أسوأ ما يمكن أن يلحق بالرئيس ميقاتي هو تسببه بفتنة سنية- سنية، فقد أبدى ميقاتي كل الحرص –وأعلن أيضاً- أنه والرئيس الحريري سيقفان في وجه هكذا فتنة، لكن عزم ميقاتي على تجنيب السنّة والشمال تحديداً، هذا الأمر لا يتحقق بالكلام، وإنما يفرض على ميقاتي تحدياً آخر، لأنه لا يمكن لميقاتي أن يتنكّر لقضايا حساسة كالمحكمة، ثم يقول إنه يمنع الفتنة!.
على أي حال، فإن الحفاظ على تماسك الشارع السني -كما قال ميقاتي نفسه في دار الفتوى- يعتبر مؤشراً هاماً جداً لنجاحه في مهمته، بعدما نجح المفتي قباني في جمعه والرئيس الحريري في دار الفتوى بأجواء مختلفة عن أجواء لقاءين سابقين اتصفا بالوجوم والتوتر.
رابعاً: التقبل الدولي والعلاقة مع سوريا
من التحديات التي تواجه ميقاتي أيضاً؛ التقبل الدولي لحكومته، إذ يبدو أن الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي، التي يحرص الرئيس ميقاتي على طمأنتهما، قد ربطا موقفيهما من الحكومة باحترام هذه الحكومة للقرارات الدولية، بما في ذلك المحكمة الدولية، لكن المحكمة بحد ذاتها هي السبب الذي أسقط الحريري وأتى بميقاتي، ما يعني أن على الرئيس المكلف، بعد نيله الثقة، أن يتعاطى مع موقفين متعارضين تماماً؛ موقف 14 آذار المدعوم من المجتمع الدولي ومن المملكة العربية السعودية، وموقف 8 آذار المدعوم من سوريا وإيران، ما يشكل تحدياً إضافياً، سيما أن ميقاتي صديق شخصي للرئيس الأسد، وهو حريص على العلاقة معه، كما أنه حريص على التمتع بثقة من سماه لرئاسة الحكومة، وبالمقابل هو حريص على علاقاته الإقليمية والدولية، وعلى علاقته بـ"شارعه" أيضاً.
خامساً: الثوابت الوطنية الإسلامية
إضافة لهذه التحديات جميعها، فإن هناك ثوابت لم يعد بمقدور ميقاتي أن يتخطاها، بعدما ووافق عليها، ولو أبدى اعتراضاً على بعض السياقات، لأنها نصت على نقاط واضحة، لا سيما الفقرة المتعلقة بالمحكمة التي نصت على الآتي: "إن أي تخلٍ سافر أو مضمر في برنامج عمل الحكومة المنوي تشكيلها عن التزامات لبنان تجاه المحكمة الدولية الخاصة بلبنان، يُشعِر أهالي الشهداء والغالبية من اللبنانيين، بالغلبة والقهر والتشفّي والاستفزاز والتخلي عن حقهم بالعدالة بما يتنافى مع أبسط مبادئ حقوق الإنسان، وحقوق المواطنة".
وإذا كانت وثيقة الثوابت هذه، قد تبنت موقف الرئيس سعد الحريري و14 آذار من المحكمة ومن القضايا الخلافية، (وقد علق عليها الرئيس عمر كرامي – الذي لم يحضر- بالقول: "لقد ألزموا ميقاتي بأمور لا نعرف كيف سيفي بها أو سيخرج منها")، إلا أن ذلك قد يشكّل فرصة للرئيس ميقاتي لإعادة الثقة بينه وبين "شارعه"، وتحصيناً لموقع رئاسة الحكومة -الذي طالما دافع عنه- وهو الآن يشغله كرئيس مكلف، كما أن هذه الثوابت يمكن أن تشكل رافعة للرئيس ميقاتي في مواجهة الضغوط التي تمارس عليه لتوزير أسماء يعتبرها "استفزازية أو مستهلكة"، إذ لو نجح ميقاتي بالاتكاء على هذه الثوابت والحفاظ عليها، لتشكيل حصة وازنة (ثلث+1) له ولرئيس الجمهورية في رئاسة الحكومة، بما يكبح جماح الذي سموه، فإنه يكون أمام فرصة كبيرة للفوز في "مغامرته" التي أقدم عليها.
هل يتحقق هذا التحليل المتفائل بنجاح ميقاتي في مهمته؟ المنطق، والتجربة، والمعرفة بطبيعة الفريق الذي أتى بميقاتي، والمؤشرات الأولية الصادرة عن هذا الفريق تقول: إن نجاح ميقاتي بالتوفيق بين الثوابت التي وافق عليها وبين المهمة التي رُسمت له صعبٌ للغاية، فاللحظة الحالية ليس فيها مجال للمناورة، ويكفي ميقاتي أن يستمع إلى موقف "حزب الله" –على لسان عدد من الشخصيات السنية التي تدور في فلك الحزب- ليعلم ماذا ينتظره في لحظات الحسم.