حكومة الوحدة الوطنية بين الخداع السياسي والقهر الطائفي!
فادي شامية
لم يكن خروج وزراء فريق الثامن من آذار من حكومة الرئيس سعد الدين الحريري، وتالياً إسقاطهم حكومة "الوحدة الوطنية"، إلا السبب المباشر لهذا السقوط؛ ذلك أن الوقائع تثبت أن الحكومة سقطت قبل ذلك فعلياً، نتيجة الخداع والتقية السياسية لفريق الثامن من آذار. هذا ما تظهره الوقائع والمواقف الآتية:
أولاً: في البيان الوزاري لحكومة الرئيس الحريري نال "حزب الله" ما أراد لجهة سلاحه، فنص البيان الوزاري على ثلاثية "الشعب، والجيش، والمقاومة"، وذلك مقابل أن ينص البيان الوزاري المتعلق بالمحكمة على ما يأتي: "تؤكد الحكومة، في احترامها للشرعية الدولية ولما اتُفقَ عليه في (جلسات) الحوار الوطني، التزامها التعاون مع المحكمة الخاصة بلبنان، التي قامت بموجب قرار مجلس الأمن الدولي رقم 1757، لتبيان الحقيقة في جريمة اغتيال الرئيس الشهيد رفيق الحريري ورفاقه وغيرها من جرائم الاغتيال، وإحقاق العدالة وردع المجرمين"، لكن تبين أن هذه "المقايضة" لم تكن صادقة، بدليل قول السيد حسن نصر الله نفسه في مؤتمره الصحفي في 9/ 8/2010، رداً على أحد الصحفيين الذي سأل عن موافقة "حزب الله" على المحكمة علناً، في أولى جلسات الحوار الوطني، وفي بيان حكومة "الوحدة الوطنية" التي أعقبت اتفاق الدوحة، فقال نصر الله: "خلال نقاشات الحكومة كان هناك طرح أن نتحفظ على بند التعاون مع المحكمة الدولية وصرفنا النظر عنه، لكن موقفنا منها معروف وقديم"!. وما لبث أن أعاق "حزب الله" تمويل المحكمة، قبل أن يتحول مفهومه للتفاهم السعودي السوري إلى قطع الصلة بالمحكمة الدولية من جانب لبنان!.
ثانياً: غداة طرح ملف ما يسمى بـ "شهود الزور" على طاولة مجلس الوزراء؛ رفض وزراء فريق الثامن من آذار طرح أي موضوع قبل البت بهذا الملف، خلافاً للبيان الوزاري الذي جعل من "أولويات المواطنين أولويات الحكومة"، وهذا يعني أن هذا الفريق وضع أولوية المحكمة أولوية حصرية للحكومة، لأنه لو أراد احترام أولويات الناس، لقبل بحث قضايا المواطنين الحياتية، مع استمراره على وجهة نظره في الملف الخلافي إياه!.
ثالثاً: رفَضَ فريق الثامن من آذار موقف رئيس الجمهورية القاضي بالتمسك بالتوافق، وعدم اللجوء إلى التصويت في مجلس الوزراء، للبت بملف ما يسمى شهود الزور، وذلك خلافاً لسلسلة كبيرة من المواقف السابقة التي أعلنها هذا الفريق، والتي تدعو إلى التوافق سبيلاً للحكم. وعلى سبيل المثال لا الحصر: قول السيد حسن نصر الله في 16/6/2009: "نحن نؤمن بخصوصية لبنان وتعدديته وتنوعه، ونؤمن بأن لا طائفة أو حزب قادر على حكم لبنان مهما بلغ شأنه، فلبنان لا يحكم إلا بتوافق جميع أبنائه وطوائفه"!. وقوله تعليقاً على إعلان وثيقة الحزب السياسية في 29/10/2009: "طالما أنّ النظام السياسي يقوم على أسس طائفية، فإنّ الديمقراطية التوافقية تبقى القاعدة الأساس للحكم في لبنان، لأنها التجسيد الفعلي لروح الدستور ولجوهر ميثاق العيش المشترك". وقول النائب علي عمار في 24/10/2009: "إن أي فريق، وأي مجموعة في لبنان، تنحو نحو الاستفراد والهيمنة والاستئثار، لن تستطيع أن تحكم البلد، كما أنها ستسقط البلد في مشروع الفتنة من جديد"!. فضلاً عن أن رفض التصويت لصالح التوافق كان مطلب "حزب الله" الأساس أيام حكومة الرئيس السنيورة، وقد استقال الوزراء المؤيدون لهم من الحكومة لرفضهم التصويت على أساس أنه "استئثار وهيمنة"!.
رابعاًً: ظل مجلس الوزراء معطلاً إلى أن وصلت الجهود السورية السعودية إلى حائط مسدود، عندها استقال وزراء الثامن من آذار مع الوزير الوديعة لدى رئيس الجمهورية، مخالفين بذلك تعهد دولي وقعوا عليه، في الدوحة، وينص على ما يأتي: "تتعهد كافة الأطراف بمقتضى هذا الاتفاق بعدم الاستقالة أو إعاقة عمل الحكومة"، وكلا الأمرين؛ إعاقة الحكومة والاستقالة منها أقدم عليهما "حزب الله" وحلفاؤه غير آبهين بالتعهد الدولي المذكور!.
خامساً: خلال هذه المدة من التجاذب لوّح "حزب الله" غير مرة بإسقاط الحكومة بالطرق الدستورية، فما كان من الرئيس نبيه بري إلا أن قال لصحيفة السفير في 11/10/2010: "ليكن معلوما للجميع أنني متمسك ببقاء الحريري رئيساً للحكومة في هذه الحكومة أو أي حكومة مقبلة، لأن بقاء الحريري في رئاسة الحكومة هو شرط من شروط تجنب الفتنة السنية- الشيعية في لبنان"، لكن بعد أن قام وزراء الثامن من آذار، بمن فيهم وزراء الرئيس بري، بإسقاط الحكومة بهدف تشكيل حكومة أخرى لا يرأسها الحريري، تنصل بري من تصريحه الواضح للسفير بالقول: "ليعلن الحريري أنه مع السين- سين، وليرَ عندما من أسمي"، وبما أن السين- سين تعني فك ارتباط لبنان بالمحكمة الدولية، فهذا يعني أن تصريح الرئيس بري للسفير كان يخفي شرطاً مضمراً لتسمية الحريري، وهو رضوخه لمطالب فريقه، ما يعني تفريغ هذا التصريح من مضمونه، لأنه بمقدور أيٍ كان –وفق هذا الأسلوب- أن يتعهد بشيء، ثم يقول إن ما تعهد به كان معلقاً على شرط مضمر!!. (هذا مع العلم أن الرئيس بري لم يسمِ الحريري أصلاً في الاستشارات النيابية غداة تشكيل حكومة "الوحدة الوطنية"!).
سادساً: غداة البحث عن رئيس جديد لتشكيل الحكومة، أعلن السيد حسن نصر الله باسم فريق الثامن من آذار- بشكل قاطع- أن الرئيس الحريري ليس مرشحهم، على اعتبار أن "في الطائفة السنية كفاءات عديدة"، وكان هذا الإعلان مخالفاً لأطروحات "حزب الله" نفسه؛ سواء عندما أصر مع حركة "أمل" على انتخاب الرئيس نبيه بري رئيساً لمجلس النواب، خلافاً لمنطق الديمقراطية العددية (برر النائب غازي يوسف باسم كتلة "المستقبل" في 24/6/2009 عدم ترشيح نائب شيعي بوجه الرئيس بري بالقول: "إن وصول نائب شيعي من خارج الأكثرية الشيعية في البرلمان إلى رئاسة المجلس أمر يثير إشكالية وتحفظات")، أو عندما تشكّلت الحكومة الأخيرة، بإصرار من "حزب الله" وحركة "أمل" أن يسميا مرشحيهم إلى الحكومة -لا الرئيس الحريري-، وقد برز في التنظير لهذه الأعراف الجديدة يومها النائب نواف الموسوي، الذي قال حرفياً في حوار له على المحطة اللبنانية للإرسال: "حكومات ما بعد الطائف كلها حكومات وحدة وطنية"، وأن مفهوم حكومة الوحدة الوطنية لا يعني "التمثيل العادل للطوائف" كما ينص الدستور فحسب، وإنما مراعاة رأي "الأكثرية التمثيلية لدى كل طائفة"، وضرورة "التوافق" المسبق على القرارات الهامة ـ ولو لم ينص الدستور على احتياجها إلى نصاب الثلثين- من خارج ميزان الأكثرية والأقلية في مجلس الوزراء..!.. وفي 5/1/2010 قال الموسوي أيضاً: "إن الديمقراطية التوافقية تعني الديمقراطية غير العددية"، مشيراً في هذا السياق إلى بيان مجلس البطاركة والمطارنة الكاثوليك، الصادر عن اجتماع دير سيدة البير في أيار 1993، والذي قال "إن الديمقراطية في لبنان فريدة، لأنها ديمقراطية الجماعات لا العدد"... ذلك كله، و"حزب الله" و"أمل" يمثلان مجتمعين الأكثرية الكبرى لدى الطائفة الشيعية، فيما الرئيس الحريري يمثل منفرداً ما يعادل هذه الأكثرية، ومع ذلك فإن "حزب الله" يتحدث عن شخصيات سنية أخرى لرئاسة الحكومة!!.
سابعاً: بعد الإعلان عن صدور القرار الاتهامي –الذي طال انتظاره- نفذ "حزب الله" ما يشبه "بروفة" لتحرك ميداني لاحق، فنشر مجموعات غير مسلحة، لكن منظمة، في أحياء عديدة من بيروت، ما أثار ذعراً لدى المواطنين، الذين لزموا بيوتهم صباحاً تحسباً لأي فعل، وذلك بالتزامن مع إعلان الرئيس بري لصحيفة السفير أن "مرحلة الحسم بدأت"، وإعلان مصدر قريب من "حزب الله" لصحيفة الشرق الأوسط بأن كل "السيناريوهات باتت مطروحة". وبذلك يكون "حزب الله" قد خالف مجدداً وثيقة دولية وقّع عليها، وهي إعلان الدوحة الذي ينص في فقرته الرابعة على: "تعهد الأطراف بعدم العودة إلى استخدام السلاح لتحقيق مكاسب سياسية"!!.
ثامناً: غداة دعوة رئيس الجمهورية إلى الاستشارات النيابية الملزمة الأسبوع الماضي، ضغط فريق الثامن من آذار باتجاه تأجيل الاستشارات لمدة أسبوع، إذ تبين أن الرئيس سعد الحريري هو الفائز، وفقاً لاحتساب الأصوات، فيما لو جرت الاستشارات في موعدها، وكانت الفترة الفاصلة عن الاستشارات اللاحقة كافية للضغط على النائب وليد جنبلاط وتهديده من "حزب الله" وسوريا، لإخراجه من الأغلبية النيابية، وفرض الرئيس عمر كرامي رئيساً للحكومة، ولما عجز جنبلاط عن تأمين أكثر من ستة أصوات من كتلته، لجأ "حزب الله" إلى طرح الرئيس نجيب ميقاتي رئيساً للحكومة، بناءً لاتفاق مسبق معه، ساحباً بذلك أربعة أصوات جديدة من كتلة الأغلبية، وفارضاً تغييراً لموازين القوى؛ ظاهره ديمقراطي، وحقيقته قهري، بفعل التلويح بالسلاح، والأغرب أن الرئيس نبيه بري نفسه، الذي انتخبته الأغلبية النيابية برئاسة سعد الحريري، ورفض قبيل انتخابه مجرد بحث أدائه السابق، تحت طائلة تهديد الوفاق الوطني، (قال النائب أيوب حميد في 23/6/2009: "إننا لا نتحدث فقط عن عدم جواز طرح مثل هذه الشروط على عملية دستورية، بل نعتبر أن مثل هذا الكلام يشكل طعنة في صميم الوفاق الوطني اللبناني") هو نفسه أصدر غير بيان حاد وشديد في مواجهة الرئيس سعد الحريري وخيارات الطائفة السنية!.
ماذا يمكن أن يسمى ما سبق كله غير الخداع السياسي الذي يهدد الوفاق الوطني؟!.