عندما يؤكد "حزب الله" أن المحكمة ستتهمه!
فادي شامية
رغم أن أحداً من السياسيين اللبنانيين لم يتهم "حزب الله" بجريمة اغتيال الحريري أو بأي من الجرائم التي تلتها، ورغم أحداً لا يسعه تقديم شيء أكيد عن القرار الاتهامي المرتقب، لا لجهة المضمون ولا لجهة التوقيت، ورغم أن بلمار أعلن أنه لم يكتب القرار الاتهامي بعد، وأنه هو "الشخص الذي يمتلك معلومات عن هذه القضية"... رغم ذلك كله فإن "حزب الله" مصرٌ على "اتهام نفسه"؟!
أن يكون "حزب الله" متأكداً من اتهام القاضي بلمار له، إلى الدرجة التي تجعله يرهن مصيره ومصير البلد بهذا الاتهام، فإن الأمر يدعو للتعجب، لكنه يدعو أيضاً للتفكر؛ فما الذي يجعل "حزب الله" متأكداً إلى هذه الدرجة؟
في الواقع؛ فقد أعطى "حزب الله" تبريريات عديدة حول تكوّن هذه القناعة لديه، منذ إعلان السيد حسن نصر الله الحرب على المحكمة في مؤتمره الصحفي في 25/7/2010:
1- في البداية استند نصر الله إلى تصريح رئيس أركان العدو، غابي أشكينازي، في 6/7/2010، الذي قال فيه: "إن لبنان قد يشهد توتراً في أيلول على خلفية تقرير المحكمة الدولية". اعتبر نصر الله أن أشكينازي ما لكان لينطق بما نطق به لولا أنه "يملك معلومات عن توجه المحكمة الدولية لاتهام حزب الله بجريمة اغتيال الحريري". واللافت أن نصر الله رفع من مصداقية تصريح أشكنازي إلى درجة جعلته يصف المحكمة بأنها "محكمة إسرائيلية".
والواقع أن تصريح أشكنازي لم يكن السبب الحقيقي وراء قناعة "حزب الله" بأن مدعي عام المحكمة سيتهمه، لسبب بسيط، هو أن هذا التصريح لم يكن جديداً على الإطلاق، ففي 16/2/2005، أي بعد يومين من اغتيال الرئيس الشهيد رفيق الحريري، قال وزير خارجية العدو الإسرائيلي سيلفان شالوم: "إن إسرائيل لا تستبعد فرضية ضلوع حزب الله في اغتيال رئيس الحكومة السابق رفيق الحريري". وفي 17/2/2005، أي بعد ذلك بيوم واحد نشرت صحيفة "يديعوت أحرنوت" العبرية تقريراً يتحدث عن أن "شعبة الاستخبارات العسكرية الإسرائيلية بلورت تقديرًا جديدًا يحمّل منظمة حزب الله اللبنانية المسؤولية عن اغتيال رئيس الوزراء اللبناني السابق، رفيق الحريري، وذلك خلافـًا للتقديرات السابقة التي تحمّل سوريا المسؤولية عن العملية". وقد أسهبت الصحيفة في نشرها أسباب هذا التقدير الجديد!.
2- مرّ أيلول وبعده تشرين، ولم يصدر القرار الاتهامي الذي تحدث عنه أشكنازي!، فعاد "حزب الله" للحديث عما نشرته مجلة "دير شبيغل" في أيار من العام الماضي، وأن القرار الاتهامي "هو ذاته الذي نزل في دير شبيغل"، كما عاد وكرر السيد نصر الله في كلمته الأخيرة في 28/10/2010.
لكن الحقيقة أن ما كتبه الصحفي إريك فولاث في "دير شبيغل" لا يشكل هذا "اليقين" الذي يخبرنا عنه نصر الله اليوم، لسبب بسيط أيضاً، هو أن نصر الله نفسه، وفي معرض تعقيبه على التقرير قال في 25/5/2009 إنها "ليست المرة الأولى التي تذكر فيها صحفٌ اتهاماتٍ، وتلفق فبركاتٍ من هذا النوع"، وإن التقرير (دير شبيغل) "اتهام إسرائيلي وسنتعاطى معه على أنه اتهام إسرائيلي". فما الذي حوّل "الاتهامات والتلفيقات" إلى حقائق بعد نحو سنة وخمسة أشهر؟! وإذا كان "حزب الله" مقتنعاً بصحة ما ورد في "دير شبيغل" منذ البداية، فلماذا "صبر" كل هذه المدة، بل لماذا وافق على الدخول في حكومة ينص بيانها الوزاري على التعاطي الإيجابي مع المحكمة؟!
3- في معرض تفسيره قناعته بأن القرار الاتهامي سوف يتهم أفراداً من "حزب الله"، كرر السيد نصر الله اعتباراً من شهر تموز الماضي، مقولة أن الجميع يتحدث بذلك، وأن "اتهام حزب الله بات حديث الصالونات السياسية"، ثم عاد ليقول في خطابه الأخير في 28/10/2010 إن "القرار الظني الذي يقولون إنه سيطلع، مكتوب منذ 2006... وأنا تبلغت به -ليس قبل كم شهر (بضعة أشهر)-، لقد تبلّغت به في (العام) 2008، الآن لن أدخل في التفاصيل، حتى لا نزعج البلد أكثر"!.
والجديد في هذا الكلام؛ أن نصر الله نفسه ينسف المبررات التي ساقها سابقاً عن رفضه المحكمة، لأن كلام أشكنازي صدر في تموز 2010، وتقرير "ديرشبيغل" صدر في أيار 2009، فيما نصر الله يقول إنه يعلم مضمون القرار الاتهامي منذ العام 2008!، والأغرب أنه قال: إن القرار الاتهامي مكتوب منذ العام 2006، أي في عز مرحلة الاتهام السياسي لسوريا!.
اللافت فيما سبق كله أن "حزب الله"، ولغاية الأمس القريب، ظل متعاوناً مع طلبات التحقيق الدولي، رغم أنه موقن بأن مدعي عام المحكمة سيصدر تقريراً اتهامياً "هو نفسه الذي نزل في دير شبيغل"،- كما يقول نصر الله-، فما السر في ذلك؟!
الراجح أن "حزب الله" كان يريد من جراء تعاونه مع طلبات التحقيق الدولي اكتشاف توجهات هذا التحقيق، وأنه عندما وصل إلى مرحلة "اليقين" من أن القاضي بلمار سيتهم أفراداً من "حزب الله"، أوقف تعاونه مع طلبات مكتب المدعي العام. وهذا يعني أنه -وخلافاً للأسباب التي ساقها نصر الله حول قناعته بتوجهات التحقيق الدولي- فإن العامل الحاسم في تكوّن هذه القناعة؛ هو معطيات "حزب الله" نفسه:
1- في 13 آذار الماضي؛ كشف السيد حسن نصر الله في مقابلة مع المنار عن قيام لجنة التحقيق الدولية بـ "الاستماع إلى اثني عشر شخصاً؛ هم إما عناصر أو مقربون من حزب الله، بصفة شهود لا بصفة متهمين في قضية اغتيال رئيس الحكومة اللبنانية السابق رفيق الحريري". نصر الله لم يمانع في ذلك، لكن من الطبيعي والمؤكد -في مثل هذه الحالات-أن يقوم جهاز أمن الحزب، بالاستماع إلى هؤلاء وتحليل الأسئلة التي وُجهت إليهم، ما يعطي الحزب المذكور صورة عن توجهات التحقيق والأدلة التي يبحث عنها، مهما حاول المحققون التمويه.
2- في 24 أيلول الماضي؛ كشف نائب أمين عام "حزب الله"، الشيخ نعيم قاسم، في حديث لمجلة الأفكار عن تلقي "حزب الله"، بعد عيد الفطر، طلباً جديداً من المحكمة الدولية للاستماع إلى إفادات مجموعة ثانية من مناصري الحزب، لافتاً إلى أن "الرد على هذا الطلب معلق في الوقت الحاضر". كان هذا قبل نحو شهر ونيف، وأهميته أنه أعطى الحزب دفعة جديدة من المعطيات التي تمكّنه من استكشاف القرار الاتهامي.
3- يمكننا أن نفترض أيضاً أن جهاز أمن "حزب الله"، القوي جداً، يعمل على تقصي أخبار المحققين، ومعرفة تحركاتهم، في لبنان وخارجه، خصوصاً أن السيد نصر الله أعلن أن "المحكمة إسرائيلية"، وأن "كل المعطيات والمعلومات تصل إلى أجهزة أمنية غربية وإلى إسرائيل". والطبيعي والحال هذه مراقبة هؤلاء، واستقاء أخبار التحقيق الذي يجرونه، خصوصاً أن الموضوع أكبر بكثير من مجرد عميل إسرائيلي. (لاحظ أن نصر الله نفسه قال في كلمته الأخيرة، إن "معلومات وصلته قبل إلقائه الكلمة مباشرة"، عن ضغوط لتعجيل صدور القرار الاتهامي قبل كانون الأول القادم).
4- أخيراً، فإن نفوذ "حزب الله" القوي داخل الدولة اللبنانية؛ في الوزارات والأجهزة الحكومية والأمنية، يسمح له بمعرفة وتحليل طلبات لجنة التحقيق الدولية، والسيد نصر الله نفسه أخبرنا في كلمته الأخيرة أن التحقيق الدولي حصل معلومات عن طلاب الجامعات في لبنان، وعن "داتا" الاتصالات من العام 2003, وعن قاعدة بيانات DNA، وعن بصمات 893 شخصاً... كما أخبرنا عن استماع محققين لعدد من الأطباء –غير الدكتورة شرارة التي هاجم عيادتها أكثر من مئة من "الأهالي" التابعين للحزب المذكور، وعرفوا عن أية أرقام هواتف يبحث المحققون-... ولا شك أن هذه المعطيات جميعها مكّنت "حزب الله" من تكوين قناعة لديه عن توجهات القرار الاتهامي.
إذاً؛ "حزب الله" لديه قناعة غير قابلة للجدال – مبنية على معطيات، لا تسريبات أو تصريحات إعلامية - بأن بلمار سيصدر قراراً يتهم فيه أفراداً ينتمون إليه، أو قريبون منه. ويبدو أن "حزب الله" أبلغ حلفاءه بذلك – أو أنهم توصلوا على القناعة نفسها بطرقهم الخاصة-، فقد قال وزير الخارجية السوري، وليد المعلم في 28 أيلول الماضي لصحيفة "وول ستريت جورنال": "إن المحكمة الخاصة بلبنان سوف تُقدم قريباً، وفق المعلومات التي وصلت إلى سوريا، على اتهام عناصر في حزب الله باغتيال الرئيس رفيق الحريري". بدوره قال الرئيس الإيراني أحمدي نجاد خلال زيارته الأخيرة إلى لبنان: "نجد أن يد الغدر الآثمة قد امتدت إلى صديق عزيز وشخصية غيورة على وطنها (رفيق الحريري)، ثم نرى بعد ذلك كيف تلفّق الأخبار، لتوجيه الاتهام إلى بقية الأصدقاء (حزب الله)".
إزاء ما سبق كله، وإذا كان "حزب الله" متأكداً إلى هذه الدرجة من أن القرار الاتهامي ستكون هذه صورته، ومتأكداً بالمقابل من براءته من أي اختراق، فماذا يجب عليه أن يفعل؟
لا شك أن "حزب الله"، بما يملك من سلاح وأمن ونفوذ، بإمكانه ترهيب اللبنانيين، وربما إجبارهم على وقف التعامل مع المحكمة الدولية، بحجج شتى؛ إما لأن المحكمة "إسرائيلية" وتستهدف سلاح المقاومة أو سمعتها، وإما لوجود "شهود زور"، وإما لأن التحقيق الدولي "يستبيح البلد وخصوصيات الناس"، وإما من أجل الدفاع عن "الأعراض والشرف" (حادثة عيادة الدكتورة شرارة نموذجاً)، لكن ذلك كله لن يؤدي إلا إلى عكس المقصود، لأن القوة يمكن أن تجبر فئةً أو تقنعها، بأن المحكمة باتت عبئاً ينبغي التخلص منه، لكن القوة لا تجبر الناس على الاقتناع ببراءة من يستخدم القوة لإيصالهم إلى هذه القناعة، خصوصاً أن القوة تؤثر على علاقة لبنان بالمحكمة، لا على المحكمة، التي ستكمل طريقها وستصدر قراراً اتهامياً سيقرؤه ويطلع على أدلته وقرائنه اللبنانيون جميعهم.
ما زال بالإمكان اتباع سبيل مختلف، فالمحكمة نفسها تسهّل لمن ستتهمه أن يجري تحقيقات مضادة لبراءة ساحته، وثمة مكتب دفاع بات مشكلاً برئاسة القاضي فرانسوا رو لهذه الغاية، ولمراقبة قرارات المحكمة والطعن بها عند الضرورة، وذلك بهدف توفير أسمى درجات العدالة.
ما زال "حزب الله" قادراً على "تحطيم" المحكمة الدولية فعلياً، إذا أثبت تهافت أدلة التحقيق بعد صدور القرار الاتهامي. بلمار نفسه قال ذلك: "إن أصدرتُ قراراً ظنياً بدون أن أدعمّه بالدليل، سوف تنهار البنية بكاملها". بلمار أمام الامتحان الصعب، لا "حزب الله"، ولا غيره، ومن الآن وحتى صدور القرار الاتهامي، يجب على "حزب الله" – في حال أراد سلوك طريق منتج-أن يبذل جهداً معاكساً لما يقوم به اليوم. عليه أن يقنع اللبنانيين بالوقوف إلى جانبه، فيما لو طال الاتهام أفراداً منه ("المحكمة لا تدين كيانات سياسية أو حزبية أو تنظيمية")... وعليه أن يدرك أن استعمال القوة في هذا الموضوع لا تجديه نفعاً.