شيوعه فساد ومواجهته جهاد:
الظلم أقصر الطرق لنهاية الأمم!
فادي شامية- اللواء الإسلامي-الاثنين18 تشرين الأول 2010 الموافق 10 ذو القعدة 1431 هـ
يعتبر البحث في قيام الحضارات وسقوطها، مفهوماً تطبيقياً لمعنى الاستخلاف، من وجهة النظر الإسلامية، فقد وردت كثير من الآيات لتوضح أن اللّه استخلف الإنسان في الأرض ليعمرها بإصلاح العمل وإحسانه، وإقامة العدل وضبط ميزانه، والابتعاد عن الظلم والبغي والفساد بكل ألوانه. قال تعالى: ﴿وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضَى لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُمْ مِنْ بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْنا يَعْبُدُونَنِي لا يُشْرِكُونَ بِي شَيْئا﴾.
الظلم نهايته هلاك: سنة كونية!
لقد شدد الإسلام على الربط بين العدل وبين قيام الحضارة، وبين الظلم وبين سقوطها. قال تعالى: ﴿وَكَمْ قَصَمْنَا مِنْ قَرْيَةٍ كَانَتْ ظَالِمَةً وَأَنْشَأْنَا بَعْدَهَا قَوْما آخَرِينَ﴾، بل جعل الإسلام من هذا الارتباط سنةً كونية.
ومن المعلوم أن السنن الكونية تتصف بالحيادية، أي أن النتائج تبنى على الأسباب، بغض النظر عن المعتقد، وبدون اعتبار لأمة من الأمم، قال تعالى: ﴿قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِكُمْ سُنَنٌ فَسِيرُوا فِي الأَرْضِ فَانْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ﴾، وقال: ﴿يُرِيدُ اللَّهُ لِيُبَيِّنَ لَكُمْ وَيَهْدِيَكُمْ سُنَنَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَيَتُوبَ عَلَيْكُمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ﴾.
وعلى هذا الأساس؛ اهتمت طائفة من العلماء بدراسة هذه السنن الكونية، نذكر منهم على سبيل المثال لا الحصر؛ ابن سعد (230ﻫ/845م)، وابن مسكويه (421ﻫ/1030م)، والبيروني (440ﻫ/1048م)، ابن حبان (469ﻫ/1077م)، الذي حلّل تحليلاً رائعاً سقوط قرطبة، وبيّن الأسباب التي أدت إليه. وقد توّج ابن خلدون (808ﻫ/1405م) هذا الفقه الحضاري بكتابه الفريد، المعروف اختصاراً باسم "مقدمة ابن خلدون"، وقد أَصَّلَ فيه لنظرية الدورة الحضارية التي تولى تطويرها مفكرون لاحقون.
هذه السنن الكونية تفيد بأن كل أمة شاع فيها الفساد والظلم عرضت نفسها للزوال ولعقاب الله لها، قال تعالى: ﴿ وَكَمْ أَهْلَكْنَا مِن قَرْيَةٍ بَطِرَتْ مَعِيشَتَهَا فَتِلْكَ مَسَاكِنُهُمْ لَمْ تُسْكَن مِّن بَعْدِهِمْ إِلَّا قَلِيلًا وَكُنَّا نَحْنُ الْوَارِثِينَ﴾، وقال تعالى: ﴿ وَإِذَا أَرَدْنَا أَن نُّهْلِكَ قَرْيَةً أَمَرْنَا مُتْرَفِيهَا فَفَسَقُواْ فِيهَا فَحَقَّ عَلَيْهَا الْقَوْلُ فَدَمَّرْنَاهَا تَدْمِيرًا﴾.
ويرى المفكر الإسلامي الجزائري مالك بن نبي (1905-1973) أن آية: ﴿إِنَّ اللَّهَ لا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِم﴾، هي المحور الكبير الذي تقوم عليه مسألة قيام الحضارات وسقوطها، أي أن الحضارة لها مقومات داخل نفس المجتمع قبل أن تعكس نفسها في شكل الواقع، ولذلك تبدأ عملية السقوط عندما تتغير النفوس وتخلد إلى غرائزها، فترتكب الأخطاء وتتراكم لتتحول إلى أمراض اجتماعية كانتشار الجريمة، والفواحش، والظلم، والغفلة لدرجة يصبح فيها الناس مهيئين لمناقشة أعراض أمراضهم، دون مناقشة طبيعة الأمراض نفسها وجذورها، لذا فإنهم كلما يفرغون من أزمة يغرقون في أزمات أخرى، وهكذا يظل الناس يراوحون أمكنتهم، بل يتراجعون وهم يحسبون أنهم يتقدمون، فإذا استفحل الفساد واستشرى الظلم وفسق الناس عن أمر ربهم، حق عليهم قول الله تعالى: ﴿فَدَمَّرْنَاهَا تَدْمِيرا﴾.
ويؤكد بن نبي أن سقوط الحضارة ناتج أساساً عمّا تكسبه أيدي الناس، لقوله تعالى: ﴿وَمَا أَصَابَكُمْ مِنْ مُصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ وَيَعْفُو عَنْ كَثِيرٍ﴾، ويأتي الظلم بوصفه أحد أبرز الكسوب السيئة التي ترتكبها الحضارة بأي شكل من الأشكال. وما أهلك الله عز وجل أمّة إلاّ بيَّن سبب هلاكها، الذي يكون دائماً جماعياً وليس فردياً، كما أن الهلاك يكون متعلقاً بطبيعة الفساد الذي يستشري في أمة من الأمم، ولذلك فهو يتغير في أشكاله وألوانه، من الصاعقة إلى الغرق، والفيضان، والريح، والقحط، والأمراض، والفتن، وضعف الهمم، والهوان، والتبعية الرخيصة. ويأتي الظلم على رأس الأسباب المفضية إلى الهلاك، قال تعالى: ﴿وَمَا كُنَّا مُهْلِكِي الْقُرَى إِلا وَأَهْلُهَا ظَالِمُونَ﴾.
فيمن سبق عبرةٌ لنا
ثمة قصص كثيرة قصها الله علينا في القرآن الكريم للاعتبار، وللابتعاد عن الظلم الذي أهلك من كان قبلنا. قال تعالى: ﴿ أَلَمْ يَأْتِهِمْ نَبَأُ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ قَوْمِ نُوحٍ وَعَادٍ وَثَمُودَ وَقَوْمِ إِبْرَاهِيمَ وِأَصْحَابِ مَدْيَنَ وَالْمُؤْتَفِكَاتِ أَتَتْهُمْ رُسُلُهُم بِالْبَيِّنَاتِ فَمَا كَانَ اللّهُ لِيَظْلِمَهُمْ وَلَـكِن كَانُواْ أَنفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ﴾.
وفي قصة فرعون مع بني إسرائيل أبلغ دلالة؛ فقد بلغ الظلم في آل فرعون أنهم ذبحوا أبناء بني إسرائيل واستحيوا نساءهم، فقضت سنة الله عز وجل بإزالة ملكهم، ورفع الأمة المستضعفة، فولد موسى -عليه السلام- وتربى في قصر فرعون، كما تربى كثير من العظماء في قصور الطغاة، فلما كبر آتاه الله الوحي والعلم والحكمة، فنصح فرعون بلطف، ولكن فرعون لم ينتصح له كعادة الظالمين والمتجبرين في كل العصور، ثم جاءت النذر والإنذارات لفرعون وآله، فتعاقبت عليهم المجاعات، والسنون، ونزل عليهم الدم، وآذتهم كثرة القمل والضفادع، وأكل حرثهم الجرذان، ومسخوا مسخاً غريباً، حتى كان منهم الخنازير والقردة وعبدة الطاغوت، ثم أغرقوا في اليمِّ وهو مليم، فهلك فرعون وآله، هلاك استئصال، وتلك هي عاقبة الظالمين.
ثم سارت حركة التاريخ ودارت الحضارة دورتها وجاءت نوبة بني إسرائيل، فبعد أن نصرهم الله على فرعون بهلاكه، آتاهم الملك وأورثهم الأرض، ولكن هذا الاستخلاف كان منوطاً بسنة الاستقامة والعمل الصالح، ولما كان انحراف بني إسرائيل في تاريخ الإنسانية كانحراف الفراعنة أو أشد، نزعت من أيديهم الوراثة، وسلبوا التمكين والملك بنفس السنن العادلة، وسلطت عليهم سهام المؤمنين تارة، وسهام الجبابرة أمثالهم تارة أخرى، وأخرجوا من ديارهم وشردوا في الأرض مرات ومرات في بؤس وشقاء، وضربت عليهم الذلة والمسكنة إلى يوم القيامة!.
وتنطبق هذه السنة الكونية أيضاً على شعوب ودول في العصر الحديث، كما في سالف العصور، وفي الشرق والغرب؛ أصبها الكبر فتغطرست وتجبرت على الأمم الأخرى، وساد الظلم بين أبنائها فأهلكها الله. قال تعالى: ﴿ فَأَمَّا عَادٌ فَاسْتَكْبَرُوا فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَقَالُوا مَنْ أَشَدُّ مِنَّا قُوَّةً أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّ اللَّهَ الَّذِي خَلَقَهُمْ هُوَ أَشَدُّ مِنْهُمْ قُوَّةً وَكَانُوا بِآيَاتِنَا يَجْحَدُونَ﴾.
ويفصّل سيدنا محمد r في الارتباط بين الهلاك وبين الظلم بقوله: "إنما هلك من كان قبلكم؛ أنهم كانوا إذا سرق فيهم الشريف تركوه، وإذا سرق فيهم الضعيف قطعوه".
مواجهة الظلم جهاد
لما كان الظلم داخل الشعوب والأمم يوشك أن يهلكها فقد أوجب الله – وليس أباح فقط- مقاومة هذا الظلم. قال تعالى: }ولا تَرْكَنُوا إِلَى الَّذِينَ ظَلَمُوا فَتَمَسَّكُمُ النَّارُ وَمَا لَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ مِنْ أَوْلِيَاءَ ثُمَّ لا تُنْصَرُونَ{. يقول العلامة يوسف القرضاوي، في كتابه الجديد "فقه الجهاد": و"يستفاد من هذه الآية أن الإسلام يطلب من المسلم أمرين أساسيين؛ ألا يظلم، وألا يكون عوناً لظالم، فإن أعوان الظالم معه في جهنم". ويضيف: "سواء كان الظلم من الأغنياء للفقراء، أم من الرؤساء للمرؤوسين، أم من الرجال للنساء، أم من الكبار للصغار، فكله حرام ومنكر يجب أن يقاوَم ويجاهَد، بما يقدر عليه الإنسان من اليد، واللسان، والقلب".
عن ابن مسعود، قال رسول الله e: "ما من نبي بعثه الله في أمة قبلي، إلا كان له من أمته حواريُّون وأصحاب، يأخذون بسنته، ويقتدون بأمره، ثم إنها تخلف من بعدهم خُلُوف، يقولون ما لا يفعلون، ويفعلون ما لا يُؤمرون، فمَن جاهدهم بيده فهو مؤمن، ومَن جاهدهم بلسانه فهو مؤمن، ومَن جاهدهم بقلبه فهو مؤمن، وليس وراء ذلك من الإيمان حبة خردل".
وهكذا أوجب الرسول eمجاهدة الظلمة والطغاة على كل مسلم، بما يقدر عليه؛ من اليد، أو اللسان، أو القلب، وهي المرتبة الأخيرة - التي مَن تركها لم يبقَ معه شيء من الإيمان-، وإن قَلَّ. والمطلوب في هذه المرتبة أن يَكره الظلم والمنكر بقلبه، ويكره مرتكبي الظلم، ومقترفي المنكر، وهذه لا يملك أحد أن يمنعه منها، لأن قلب المؤمن لا سلطان لأحد عليه
|
تابع أيضا :
مواضيع ذات صلة |