جملة مفارقات لافتة وذات دلالة:
مذكرات التوقيف السورية تكشف المنطق المختل لـ "حزب الله" ومعارضي المحكمة!
فادي شامية
في الثالث من الشهر الجاري أصدر قاضي التحقيق الأول في دمشق مذكرات توقيف غيابية بحق 33 شخصية لبنانية وعربية وأجنبية، (الشخصيات اللبنانية عددها 26) بناءً على دعوى رفعها اللواء جميل السيد بحقهم أمام القضاء السوري. (أُسقط من الأسماء؛ الإعلامية في قناة الجديد زهرة البدران، بعد توسطها لدى جميل السيد، كما أسقط اسم النائب وليد جنبلاط الذي سبق أن صدرت بحقه مذكرة توقيف غيابية في العام 2006 بناءً على تغيير مواقفه السياسية).
ثمة أسباب كثيرة تجعل من هذه المذكرات بلا أساس قانوني:
أولاً: خالفت المذكرات أصول التعاطي القضائي مع لبنان، إذ لم يتبلّغ المعنيون أي مذكرة توقيف، خلا ما سمعوه عبر الإعلام من مكتب اللواء جميل السيد.
ثانياً: خالفت نصوص الاتفاقية القضائية الموقعة بين البلدين في العام 1951، لا سيما ما يتعلق بآلية التعاطي القضائي.
ثالثاً: تجاوزت المذكرات الحصانات النيابية والقضائية والأمنية، التي يوجب القانون اللبناني احترمها.
رابعاً: لم تراعِ المذكرات السورية الصلاحية المكانية لكل من القانونين اللبناني والسوري معاً، على اعتبار أن المدعي والمدعى عليهم –غالبيتهم- لبنانيون، وأن الفعل (سواء الإفادات التي يعتبرها السيد كاذبة أو القدح والذم بحقه) محل الدعوى، وقع على الأراضي اللبنانية، وأن القانون الجزائي السوري نفسه يعتمد –كما اللبناني- على عامل المكان كأساس للصلاحية، انطلاقاً من مبدأ سيادة كل دولة على أراضيها.
خامساً: لا ملفاً قضائياً مودعاً لدى القضاء اللبناني من نظيره السوري يسمح بإصدار مذكرات توقيف. (اضطر مصدر قضائي للتوضيح للإعلام أمس الأول أن القضاء اللبناني رد على نظيره السوري في1/3/2010، أي قبل أن تتحول هذه المذكرات إلى مذكرات توقيف، معتبراً أن القضاء السوري لا اختصاص له).
سادساً: ليس ثمة دولة ذات سيادة يمكنها أن تقبل تنفيذ مذكرات صادرة بحق "دولتها كلها"، ذلك أن مذكرات التوقيف اشتملت على أسماء تشغل حالياً -أو شغلت سابقاً- مواقع دستورية في الدولة اللبنانية هي المخولة تنفيذ مذكرات التوقيف والسهر على سير العدالة أصلاً (من المطلوبين للقضاء السوري: المدعي العام التمييزي الحالي، والمحقق العدلي في جريمة اغتيال الرئيس رفيق الحريري، والمحقق العدلي الثاني في اغتيال الحريري، ومفوض الحكومة لدى المحكمة العسكرية، والمدير العام لقوى الأمن الداخلي، ورئيس غرفة العمليات فيها، ورئيس "شعبة" المعلومات الحالي والسابق، والمسؤول عن الأمن القومي في "شعبة" المعلومات، والمساعد الثاني السابق لمدير استخبارات الجيش اللبناني، ونائب حالي، ونائب سابق، ووزيران سابقان للداخلية والعدل، وشخصيات أخرى...!).
رغم المعطيات القانونية المتقدمة، ورغم أن هذه المذكرات شكّلت نكسة للعلاقات بين لبنان وسوريا (رغم الجهود الهائلة التي يبذلها الرئيس الحريري لتعافي هذه العلاقات)، ورغم أن مذكرات من هذا النوع من شأنها جرح الشعور الوطني للمواطنين في أي بلد في العالم (لنتخيل لو أن القضاء اللبناني أصدر مذكرات توقيف تجاه شخصيات سورية بهذا المستوى عن أفعال ارتكبت فوق الأراضي اللبنانية إبان وجود الجيش السوري فيه؛ كيف سيكون حال الشعور الوطني في سوريا) رغم ذلك كله، فقد وظّف فريق الثامن من آذار هذه المذكرات في معترك حربه على المحكمة الدولية... لكن بقدر ما استخدم هذا الفريق مذكرات التوقيف السورية سياسياً، بقدر ما بان اختلال منطقه السياسي، لأن هذا الاستخدام السياسي كشف –من حيث لم ينتبه هذا الفريق- عن مفارقات لافتة، إذ لو افترضنا جدلاً جواز مقارنة أهمية ومصداقية المذكرات السورية بالقرار الاتهامي المرتقب للقاضي دانيال بلمار، فسيبرز لدينا جملة من هذه المفارقات ذات الدلالة، أهمها:
أولاً: في الوقت الذي أعلن فيه السيد حسن نصر الله أن حزبه "منزه عن الاختراق"، وأنه يرفض "تسليم نصف واحد من حزب الله" (خطابه في "يوم الجريح" في 16/7/2010)، فقد تعامل إعلام الحزب المذكور، وممثلوه، مع مذكرات التوقيف السورية على قاعدة أن فريق الرئيس سعد الحريري (مستشاره الإعلامي، ومدير قناة أخبار المستقبل، وسياسيون وإعلاميون قريبون منه) متورط فعلياً فيما ينسبه إليه اللواء جميل السيد، وأن على الرئيس الحريري أن يتخلى عن هذا الفريق، في مفارقة لافتة، مؤداها أن فريقنا منزه وفريقكم متورط!.
ثانياً: في الوقت الذي قال فيه نائب أمين عام "حزب الله" الشيخ نعيم قاسم: "إننا نرفض أي قرار يتهم حزب الله، ومجرد الاتهام مرفوض، ونعتبره جائراً وظالماً" ( مقابلة بتاريخ 30/9/2010)، وإن الحزب أوقف تعاونه مع التحقيق الدولي وأنه لن يسمح للمحققين بالاستماع إلى أي أحد من "حزب الله" بعد اليوم، وإن الوفاء للشهداء في الحزب يقتضي الدفاع عن سمعة حزبهم... فإن إعلام الحزب نفسه، وحلفائه، طلب من الرئيس سعد الحريري أن يقبل الاتهام الموجه إلى فريقه السياسي، وخضوع هذا الفريق للقضاء السوري، لـ "يتبين المتورط من غير المتورط"، بمعنى أن على الحريري أن يتخلى عن فريقه وأن يكون بلا وفاء له، على عكس ما يتصرف "حزب الله"، أي أن ما لا يرضاه الحزب لنفسه يريد من الحريري أن يرضاه لنفسه!.
ثالثاً: في الوقت الذي يطالب فيه "حزب الله" الرئيس سعد الحريري إعلان موقف مسبق "يرفض" فيه القرار الاتهامي الذي سيصدره القاضي دانيال بلمار، بناءً على تحقيق استمر خمس سنوات، فإنه يطالب الرئيس سعد الحريري بإعلان موقف مسبق "يقبل" فيه مذكرات التوقيف السورية، التي تفتقر إلى أي أساس قانوني!.
رابعاً: في الوقت الذي يرفض فيه "حزب الله" صدور مذكرة قضائية يستمع بموجبها القضاء اللبناني للواء جميل السيد –مجرد استماع-، لتبيان مدى انطباق الوصف الجرمي على التهديدات التي أطلقها، بل يمنع بقوة السلاح تنفيذ هذه المذكرة، فإنه يطالب اللبنانيين أن يقبلوا تنفيذ مذكرات توقيف صادرة عن قضاء غير قضائهم، وعن أفعال لا تخص القضاء الذي أصدرها، (بغض النظر إن كانت الاتهامات صحيحة أم لا)!.
خامساً: في الوقت الذي تعلن فيه الماكينة الدعائية لـ "حزب الله" وحلفائه أن المحكمة الدولية مسيسة، مع أنها تلتزم أرقى معايير العدالة، وقضاتها من جنسيات مختلفة وفيهم قضاة لبنانيون، والتاريخ القضائي لأكثرهم معروف ومتميز على مستوى العالم، فإن الماكينة الإعلامية ذاتها تعاملت مع مذكرات التوقيف السورية على أساس أنها متوافقة مع أحكام القانون، ومبررة... والأهم؛ أنها قضائية بحتة لا دخل للسياسية فيها!. (رغم فارق التشبيه بين معايير العدالة في القضاء العربي عموماً والقضاء الدولي!).
سادساً وأخيراً؛ فإنه في الوقت الذي يعلن فيه اللواء جميل السيد أن حل الأزمة الراهنة في لبنان هو بيد الرئيس سعد الحريري (مقابلته الأخيرة على قناة العربية)، وأن جوهر هذا الحل هو القبول بمطالب "حزب الله" ورفض القرار الاتهامي قبل صدوره، فإن فريق الثامن من آذار يرفض الموافقة على أن سبب الأزمة هو الحرب التي أعلنها السيد حسن نصر الله على المحكمة الدولية، علماً أن لا قراراً ولا اتهامات صدرت عن القضاء الدولي بعد، ولا تهديدات ولا مطالب صدرت عن الرئيس سعد الحريري أبداً (المفارقة الإضافية هنا أن التهديدات تصدر من طرف يقول هو أنه المتهم، فيما الضحية صامتة، على نحو المثل القائل يرضى القتيل ولا يرضى القاتل، بغض النظر عمن هو القاتل).
المفارقات كثيرة جداً، وهي تكشف المنطق المختل لـ "حزب الله" وحلفائه، وأنكى من ذلك كله، أن من يطالب الحريري بـ"إدانة" المحكمة الدولية، ليس لديه بديل مقبول لمعرفة الحقيقة والعدالة سوى نسيان جريمة اغتيال الحريري (كما ينظّر النائب وليد جنبلاط حالياً، ضارباً بنفسه مثلاً؛ كيف تعامل مع اغتيال والده)، وأكثر من ذلك فإن أحداً في لبنان أو العالم ليس بمقدوره تقديم ضمانات جدية لوقف مسلسل الاغتيال السياسي في لبنان، إذا ما تخلى اللبنانيون عن المحكمة، بدليل أن نسيان وليد جنبلاط (نفسه) لجريمة اغتيال والده لم يحل دون اغتيالات إضافية، فكيف والحال أن التقارير الغربية تتحدث عن وجود مؤشرات لتنفيذ اغتيال محتمل للرئيس سعد الحريري؟!.
لقد ثبت بالدليل الواضح أن لا قعراً مرئياً للتنازلات المطلوبة من الرئيس الحريري، وأنه كلما قدّم تنازلاً، معتقداً أنه يقفل بهذا التنازل ملفاً، اتضح أن المطلوب تنازلات أخرى بناءً على التنازل السابق (حديثه الشهير إلى صحيفة الشرق الأوسط على سبيل المثال لا الحصر).
من أجل ذلك ليس أمام الرئيس الحريري اليوم إلا الصمود – وهذا مطلب الغالبية الساحقة من مؤيديه أيضاً- وإلى جانب الصمود قليلٌ من الحزم، وكثيرٌ من الروية والحكمة، والباقي متروك لعناية الله بهذا الوطن المعذّب!.