ولكم في القصاص حياة!
فادي شامية - 1 تشرين الأول 2010 الموافق 22 شوال 1431 هـ
لم يفرض الشارع العقوبة في أحكامه إلا لصلاح الناس، وحمايتهم من المفاسد، واستنقاذهم من الجهالة، وإرشادهم من الضلالة، وكفهم عن المعاصي، وليس صحيحاً أن إهمال العقوبة من شأنه حفظ الاستقرار في المجتمع، وليس صحيحاً أن القول: "عفا الله عما مضى" من شأنه إتاحة المجال أمام بداية جديدة على أسس صحيحة، لأنه وإن قام بناءٌ جديدٌ يبدو حسناً، فإنه لا يلبث أن ينهار عند أول هزة يتعرض لها.
القصاص والحياة!
قال تعالى في سورة البقرة: ﴿وَلَكُمْ فِي الْقِصَاصِ حَيَاةٌ يَاْ أُولِيْ الأَلْبَابِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ﴾ في أوجز وصف وأبلغه. وهذا خطاب موجه للإنسانية كلها، ومعناه: لا يقتل بعضكم بعضاً، لأن القصاص إذا أقيم وتحقق الحكم فيه، ازدجر من يريد قتل الآخر، مخافة أن يـُقتص منه، فبذلك يحيا الاثنان معاً، ويحيا المجتمع بعد ذلك.
يقول محمد صادق الرافعي؛ قال تعالى "ولكم في الْقِصَاصِ حياة"، ولم يقل "في القتل"، فقيّده بهذه الصيغة، التي "تدل على أنه جزاء ومؤاخذة، فلا يمكن أن يكون منه المبادأة بالعدوان، ولا أن يكون منه ما يخرج عن قدر المجازاة، قلّ أو كثر". كما أنه تعالى لم يقل "في الاقتصاص" بدلاً من القصاص؛ "لأن الاقتصاص شريعة الفرد، والقصاص شريعة المجتمع، ومن إعجاز لفظة القصاص هذه أن الله تعالى سمى بها قتل القاتل، فلم يسمه قتلاً؛ لأن أحد القتلين هو جريمة واعتداء، فنزه -سبحانه- العدل الشرعي حتى عن شبهه بلفظ الجريمة؛ وهذا منتهى السمو الأدبي في التعبير". أما كلمة "حياة" فقد جاءت منونة، لتدل على عدم التقييد؛ فقد يكون في القصاص حياة عائلية، وقد يكون فيه حياة اجتماعية، وقد يكون فيه حياة سياسية... وقد اقتضت بلاغة القرآن هنا أن تكون نتيجة القتل حياةً وليس قتلاً.
مفهوم العقوبة
العقوبة هي الجزاء المقرر لمصلحة الجماعة على عصيان أمر الشارع. وهي تقوم على جملة أصول:
1- هدف العقوبة هو منع الفعل قبل وقوعه، ومنع تكراره بعد وقوعه، لأن العقوبة تزجر غيره عن التشبه به وسلوك طريقه. ويؤصل الفقهاء هذا الهدف بالقول: "العقوبات موانع قبل الفعل، زواجر بعده".
2- جوهر العقوبة ليس الانتقام، وإنما التأديب والإصلاح، تبعاً لنوع الجرم، ويؤصل الفقهاء ذلك بالقول: "العقوبات تأديب واستصلاح وزجر، يختلف بحسب اختلاف الذنب".
3- حد العقوبة هو مصلحة الجماعة، فإذا اقتضت مصلحة الجماعة التشديد شُددت العقوبة، وإذا اقتضت مصلحة الجماعة التخفيف خُففت العقوبة، وهذا المبدأ يكمّل الهدف الذي وضعت العقوبة من أجله.
ولقد قام مفهوم العقوبة في الشريعة الإسلامية –خلافاً لكثير من القوانين الوضعية- على أصلين متضاربين، جمعت بينهما الشريعة بطريقة تزيل تناقضهما الظاهر؛ حيث أخذت بهما معاً ضمن نظام عقابي دقيق. هذان المبدآن هما: مبدأ حماية الجماعة ومبدأ العناية بشخص المجرم.
أخذت الشريعة الإسلامية المبدأ الأول (حماية الجماعة) على إطلاقه، لكنها أفسحت المجال للمبدأ الثاني (العناية بشخص المجرم) في كل ما لا يمس كيان المجتمع، وقد نشأ عن الجمع بين المبدأين على هذه الصورة أن أصبح لكل مبدأ حيز ينطبق فيه ومدى ينتهي إليه.
وقد قسّمت الشريعة الجرائم الماسة بكيان المجتمع إلى قسمين:
1- جرائم الحدود: وهي الجرائم التي نص الدليل على عقوبة محددة لها، ليس للقاضي أن ينقص منها أو يزيد فيها، وهي سبعة جرائم: الزنا، والقذف، والشرب، والسرقة، والحرابة، والردة، والبغي. ويلاحظ زيادة "طبيعة" الزجر في أكثر هذه العقوبات، ما يقلل من إمكانية التنفيذ (نتيجة للشروط الصعبة- في جريمة الزنا على سبيل المثال)، بهدف حماية المجتمع، بحيث لا يطبق الحد إلا في الحالات التي يجب بترها حماية للمجتمع من أن تشيع فيه الفاحشة.
2- جرائم القصاص: وتشمل جرائم القتل، والجرح، سواء كانت عمداً أو خطأً، وهي على وجه التحديد: القتل العمد، والقتل شبه العمد، والقتل الخطأ، والجرح العمد، الجرح الخطأ.
ودون ذلك جرائم أقل خطراً على المجتمع تسمى عقوبات تعزيرية، تعاقب عليها الشريعة بعقوباتٍ، ومتروك تقديرها للحاكم.
جريمة القتل
جريمة القتل جريمة مريعة، نص الشارع في شأنها على عقوبة من نفس جنسها؛ "القصاص"، الذي يعني القتل أيضاً للقاتل جزاء فعلته، لأن "القتل أنفى للقتل" ولأن "في القصاص حياة"، ولأن "العفو –حق ولي الدم- لا يكون عفواً حقيقاً إلا عند المقدرة"، أي أنه يتحقق عندما يتمكن المتضرر من القصاص من الجاني قدرة حقيقة، أعطاه إياها الشارع، عند ذلك فقط يكون عفوه عن طيب خاطر وقناعة منه، لا عن قهر وإكراه، سرعان ما يتحوّل إلى أحقاد تجر مزيداً من الجرائم.
والقصاص في الشريعة هو العقوبة الأصلية للقتل والجرح العمد، وهو عقوبة مقدرة وعقوبة متلفة، أي أنها تتلف نفس الجاني. ومع ذلك فإن القتل في هذه الحال ليس انتقاماً، وهو لا يبرر إهدار كرامة الجاني، ولا إهدار عصمته، بحيث لو جاء أجنبي (شخص آخر) وقتل الجاني، فإنه يؤاخذ بجريمة القتل، استقلالاً عن الجريمة الأصلية، ذلك أن إقامة الحدود واستيفاء العقوبات هو حق للسلطان وحده (السلطة الشرعية)، والقول بغير ذلك يقود إلى تحكيم شريعة الغاب، التي يسيطر فيها القوي، ويهضم فيها حق الضعيف، وتسود فوضى الدماء المهلكة.
إنه في الوقت الذي أعطت الشريعة الحق لولي الدم أو أولياء الدم (الوارث أو الورثة) في القصاص، فإنها أعطت الجاني فسحة العفو، إذا رضي ولي الدم بذلك، لكن ذلك لا يمنع –في حالة العفو- من تنفيذ عقوبة تعزيرية يقدّرها الحاكم (السجن مثلاً)، خصوصاً في الجرائم الكبرى، حمايةً لحق المجتمع (الحق العام في الاصطلاح القانوني اليوم)، وهو قول الإمام مالك، وأبي حنيفة، والشافعي، وأحمد.
خلاصة القول؛ إنه إذا كان العدل أساس الملك، فإن الثواب والعقاب هما ميزان العدل، والمجتمع الذي لا يـُؤخذ فيه على يد الظالم، ولا يعاقب فيه المجرم، هو مجتمع مريض، لا تلبث أمراضه أن تتفاقم إلى حد الموت؛ فإحقاق الحق يفترض العقوبة، والعقوبة حق المجتمع، الذي إن تخلى عنه، بدافع الرحمة أو الخوف، فإنه يكون قد جنى على نفسه من حيث يدري أو لا يدري... من أجل ذلك، ولأن الله هو الحكيم العليم، فقد قال: ﴿وَلَكُمْ فِي الْقِصَاصِ حَيَاةٌ يَاْ أُولِيْ الأَلْبَابِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ﴾.