عندما ينطق زعيمٌ بهذه المغالطات في جلسة واحدة!
فادي شامية
ربما لم يسمع اللبنانيون، منذ سنوات، زعيماً يرد على لسانه هذا الكم من المغالطات، التي نطق بها العماد ميشال عون، في ختام اجتماع تكتل "التغيير والإصلاح"، يوم الثلاثاء. قد يظن من لم يسمع ما صرّح به عون أن المقصود بالمغالطات ذلك الاختلاف في وجهات النظر بين عون وخصومه، لكن الواقع أن ما قاله عون لا يضعه في مواجهة مع خصومه، بقدر ما يضعه في مواجهة مع حقائق الأمور!.
بعد تجاوز النبرة المتوترة لعون، باعتبار أن ليس في ذلك جديداً، إلا قوله "نحن هادئون، فلا يطلب أحد منا التهدئة"!، وبعد تخطي كلامه التوضيحي فيما يتعلق بموقفه من السنّة وعدم مهاجمتهم، باعتبار أن هذا التبرير حق له، بغض النظر عن الموافقة أم لا، وبعد تفهم أسباب دفاعه عن ممارسات حليفه، على اعتبار أن "الجنرال" لم ير مسلحين في المطار، كما جاء على لسانه، وبعد الاستماع الواجب لمطالبه، بغض النظر عن الموقف منها... يـُصدم السامع بجملة من المغالطات التي أوردها عون، في مقاربته لملفات حساسة للغاية؛ أهمها أربعة:
1- قال عون في مؤتمره الصحفي: "غصباً عنكم يجب أن يخضع شهود الزور للتحقيق، وتوضيح القضية قبل صدور القرار الظني (الاتهامي)، إذ لا يجوز قانوناً إكمال الدعوى (يقصد التحقيق في قضية اغتيال الرئيس الحريري والجرائم المرتبطة بها) بعدما تبين أن هناك شهوداً زور...فالأمر يستوجب الاقتصاص من المجرم إلا إذا تبين أثناء المحاكمة وجود شاهد زور فيمكن عندها تأخير الحكم حتى يُحقق معه ويحاكم". انتهى كلامه الحرفي.
ولعل النقطة الأبرز فيما قاله عون -إضافة إلى مغالطاته القانونية التي سنوضحها-أنه يريد تعليق صدور القرار الاتهامي لحين التحقيق مع "شهود الزور"، وليس مجرد التحقيق معهم ومحاكمتهم بمسار منفصل عن التحقيق الدولي، بدعوى أن القانون يوجب ذلك!. عون تحدث في هذه المسألة -بلسان قانوني لا سياسي-؛ عن شهود، رامياً إياهم بالزور، وعن محاكمة، وعن حكم، وهذا كله غير موجود بعد!، إذ لم يصدر قرار اتهامي يتيح بدء المحاكمة، ومن باب أولى أنه لم يصدر حكم، لأن الحكم يكون في ختام المحاكمة، كما لم يشهد أحد أمام المحكمة، وتالياً لم تحكم المحكمة على صدقية أية شهادة!.
ربما يقول قائل إن تعابير "الجنرال" لم تكن مضبوطة قانوناً (رغم أنه سطّر "اجتهاداً" قانونياً فريداً) وإنه كان يقصد بكلامه عن المحاكمة؛ التحقيق الدولي، لكن حتى هذه "لا تمشي" قانوناً، لأن من يعتبره عون شاهداً، لم يعتبره المدعي العام القاضي الدولي دانيال بلمار كذلك، وتالياً فكل الكلام عن صدقية هذه الشهادة يصبح ساقطاً، لأن الشاهد –قانوناً- هو من يحال إلى المحكمة بصفة شاهد، فيقف أمام قوس العدالة ويشهد، (وثمة فارق بين من تستمع إليه لجنة التحقيق بصفة شاهد ومن يحال على المحكمة بصفة شاهد)، وهذا لم يحصل بعد، فكيف سوّغ عون لنفسه ربط استمرار التحقيق في أساس القضية بالتحقيق مع الذين يعتبرهم شهوداً، إذ حتى لو اعتبرناهم شهوداً –بمعنى أن لجنة التحقيق استمعت لهم- فكيف نحكم على صدقية إفادتهم، طالما أن القرار الاتهامي لم يصدر بعد، أي لم يصدر حكم في الأساس بعد؟!. (المادة 408 عقوبات/لبناني تعرّف شاهد الزور بأنه "كل من شهد أمام سلطة قضائية، أو قضاء عسكري، أو إداري، فجزم بالباطل، أو أنكر الحق، أو كتم بعض أو كل ما يعرفه من وقائع القضية التي يُسأل عنها". المادة 409 عقوبات/لبناني: "يعفى من عقوبة شاهد الزور الشاهد الذي أدى الشهادة في أثناء تحقيق جزائي إذا رجع عن الإفادة الكاذبة قبل أن يختم التحقيق ويقدم بحقه إخبار. والشاهد الذي شهد في أية محاكمة إذا رجع عن قوله قبل أي حكم في أساس الدعوى ولو غير مبرم").
ثمة من سيتطوع للدفاع عن عون بالقول إن الرئيس سعد الحريري اعترف بوجود "شهود زور ضللوا التحقيق"، لكن هذا "المتطوع" لم يقرأ –ولا يريد أن يقرأ- تتمة كلامه الذي يؤكد على المحكمة، وعدم تعطيلها تحت أي ذريعة، وطبعاً عدم ربط مسارها بملف الذين ضللوا التحقيق (وليس المحاكمة كما جاء على لسان عون)، أو حاولوا تضليله -على وجه الدقة-.("أقرب" توصيف قانوني لهؤلاء هو أنهم مفترون وفق المادة 403 عقوبات/لبناني، لكن محاكمتهم أمام القضاء اللبناني تبقى غير ممكنة إلا بعد رفع السرية عن ملف الجريمة، وبعد توافر باقي شروط المحاكمة).
2- يهاجم عون جهاز المعلومات: "فرع المعلومات غير شرعي، ويرتكب كل التجاوزات التي ترتكب في الدولة، وبالتالي يجب حلّه ومحاكمة مسؤوليه"! ثم يسأل: "مع من يتعاون؟، من يعطيه ميزانية؟، من أين يأخذ أوامره؟، وأين هو مرسوم إنشائه؟ إنَّه قوة فالتة على ذوقها". انتهى كلامه الحرفي.
وبغض النظر بأنه لا يمكن منطقاً اعتبار مكافحة الجريمة المنظمة، والجريمة الإرهابية، والتجسس لصالح العدو، تجاوزاً يستحق المحاكمة، وبغض النظر في المقابل عن أي تجاوز للقانون ممكن أن يعتري عمل هذا الجهاز الأمني الفاعل أثناء ممارسته عمله، فإن المغالطة التي وقع فيها عون تساؤله عن أصل شرعية الجهاز (تساؤله عن وجود مرسوم لإنشائه وعن ميزانيته وأوامره!)، إذ ينبغي لزعيم بحجم عون أن يعرف أن هذا الجهاز تابع لقوى الأمن الداخلي، وهو تالياً تحت وصاية وزير الداخلية، وأنه أُنشئ بموجب المرسوم رقم 1157 تاريخ 2/5/1991 المعدل بالمرسوم رقم 3904 تاريخ 6/8/1993، أي منذ نحو عشرين عاماً تقريباً، وأن أحداً –غير عون- لم يشكك في أصل نشأة الجهاز، وإنما في قيامه بمهمات خارج مرسوم إنشائه، علماً أن هذا الواقع لا يختلف كثيراً عن واقع مخابرات الجيش، التي أنشئت لأهداف عسكرية، ثم توسع عملها، مع الأخذ بعين الاعتبار أن ما يحول دون تصحيح الوضع القانوني القائم فعلياً هو الفريق السياسي الذي ينتمي إليه عون، لأسباب سياسية لا علاقة لها بالأمن، والمصلحة الوطنية!.
3- دفاعاً عن حليفه "حزب الله" ادعى عون أن المطار لم يُستباح بالقوة المسلحة وأنه لم ير مسلحين! ومن باب الرد بالمثل قال: "أُخبرنا بأن أحد المحكومين أتى عبر المطار من الخارج، وحضر احتفالاً في بيروت، ثم غادر عبر المطار أيضاً، في الوقت الذي يوجد عليه حكم قضائي، وهو مفتري على رئيس الجمهورية". انتهى كلام عون الحرفي.
كان عون يقصد السفير جوني عبدو، الذي حضر إلى بيروت منتصف تموز الماضي، لحضور زفاف نجله، قبل أن يغادر سريعاً إلى فرنسا- كما بات معلوماً-، ليس خوفاً من القضاء، ولكن خوفاً على حياته ممن قتل رفاقه الشهداء.
لم ينتبه عون أنه بلسانه أسقط طروحات حلفائه الذين أنكروا على القضاء حقه في الاستماع لجميل السيد على خلفية تهديده رئيس الحكومة، بدعوى أن القضاء لم يتحرك عندما تعرض الرئيس إميل لحود لحملات سابقة (مع أنها لم تصل على حد التهديد بالقتل)، لكن عون نفسه أثبت أن القضاء تحرك لمحاكمة هؤلاء -أو بعضهم على الأقل- وأن جوني عبدو أحدهم، كما أن الأمر يتعدى ذلك، فعون قال إن عبدو محكوم، وفاته أن أحكام محكمة المطبوعات، (السجن شهراً بسبب القدح والذم بحق الرئيس لحود في مقال في صحيفة "المستقبل" منشور بتاريخ 24/2/2006)، لا تجيز الحبس الاحتياطي في حكم غير مبرم (وفق المادة 28 من قانون المطبوعات المعدلة عام 1994)، وتالياً ليس ثمة مذكرة توقيف بحق الرجل لأن عبدو سبق أن تقدم باعتراض أمام محكمة المطبوعات نفسها، واسترد خلاصة الحكم، ما جعل المحكمة المختصة تعيّن جلسة لبدء المحاكمة من جديد، وفاقاً لأحكام القانون.
والأهم أن عون –الحريص على الإصلاح- أورد هذه الواقعة لتبرير استباحة المطار من قبل جهاز أمن "حزب الله"، علماً أن عبدو لم يخرج بسيارات بلا لوحات، ولم يتلقفه أحد من على باب الطائرة كما فعل أمن "حزب الله "مع جميل السيد، فضلاً عن أن القوة التي كُلفت بحمايته شرعية وتابعة لرئاسة الحكومة، وأكثر من ذلك فإن إثارة الموضوع على طاولة مجلس الوزراء من قبل فريق عون أثبت أن الرجل دخل بشكل عادي إلى المطار قبل أن تتولى القوة الأمنية الرسمية مواكبته، فأين هذا الواقع من العراضة الأمنية التي قام به "حزب الله"؟!
4- في معرض دفاعه عن خصمه اللدود (سابقاً) جميل السيد، قال عون على نحو لا يكاد يُصدق: "جميل السيد ُظلم وهو لبناني، وحالته مميزة، وقضيته تمس الحياة المشتركة في لبنان، وهي أكبر دعوى في هذا القرن" (يا للهول!)... كيف يسمح لنفسه وزير العدل (إبراهيم نجار)، -وأنا اسحب منه الثقة لعدم الكفاءة!-، أن يطلب من النيابة العامة جلب السيد. في الأساس الدعوى غير قائمة، لأنَّ الطرف الأول في النزاع مرتكب أيضاً لتجاوزات كبيرة مثل إعطاء إذن وتصاريح لفرع المعلومات غير الشرعي". انتهى كلام عون الحرفي.
عدة مغالطات قانونية سطّرها عون في أقل من دقيقتين في هذه الفقرة، فضلاً عن مبالغة لا تليق به، إذ اعتبر سجن جميل السيد أربع سنوات، في حجرة "خمس نجوم"، يصدر منها السيد تصاريح يومية، هو أكبر دعوى في هذا القرن!، والأهم أنه قطع بـ"مظلومية تامة" للسيد من أي شيء، لمجرد أن المحكمة الدولية أطلقت سراحه، وفقاً لنظامها الذي يفرض مدة محددة للتوقيف لا يمكن تجاوزها، علماً أن قاضي الإجراءات التمهيدية في المحكمة دانيال فرانسين، الذي لجأ إليه السيد للحصول منه على وثائق تُبين سبب توقيفه السابق، لم يبت براءة السيد، في قراره الصادر في 17/9/2010، وإنما أكد أنه نال "إخلاء السبيل" la mise en liberté، (وليس "منع المحاكمة")، لأن "المدعي العام لم يعتبر أن مصداقية المعلومات التي كانت في حوزته كافية لتبرير إصدار قرار اتهام" –كما جاء في قراره-. كما أن "منع المحاكمة" يحتاج إلى قرار صريح وواضح. وفي كل الأحوال، فإنه لو اعتبرنا جدلاً أن ظلامةً وقعت على جميل السيد فإن ذلك لا يبرر له تهديد أحد".
من جهة أخرى، فقد اعتبر عون أن البروفسور نجار بلا كفاءة مهنية!، لأنه حرّك النيابة العامة، بجرم التهديد بالقتل، فيما المعروف لأي طالب حقوق أن وزير العدل هو رأس النيابات العامة، وله حق الطلب من النائب العام التمييزي أن يحرك دعوى الحق العام، وفق المادة 14 من قانون أصول المحاكمات. والأنكى أن عون اعتبر القاضي سعيد ميرزا طرفاً في الدعوى، لمجرد تحريكه الحق العام -لا الدعوى الشخصية-بما يفضي إلى نتيجة غير منطقية، يستطيع بموجبها كل من يريد الإفلات من العدالة أن يدعي على النائب العام التمييزي، وبدعوى أنه خصمه، يرفض الخضوع للقانون!.
على كلٍ، فإن رد الوزير نجار كان مقتضباً ومهذباً: "لو طرح العماد عون السؤال على أعضاء كتلته القانونيين لكانوا أجابوا بكل كفاءة أنَّ الإحالة من قبل وزير العدل تكون موجهة إلى مرجع قضائي، لا إلى أشخاص يتولون هذا المنصب"، أي أنه نبّه عون والسيد معاً بأن لا خصومة شخصية في معرض تحريك الحق العام، وأن دعوى الحق العام يتولاها القضاء، نيابة عن الشعب اللبناني، لا القاضي سعيد ميرزا، نيابة عن نفسه.
إنه حينما ينطق زعيم بهذه المغالطات كلها في دقائق معدودة، فهو إما أنه يستخف بعقول الناس، وإما أنه لا يصلح أن يكون زعيماً فيهم!.