البعد المذهبي في المواقف الأخيرة:
"حزب الله" يقول إنه متنبه لـ"وأد الفتنة".. لكن أداءه يدفع إليها!
فادي شامية
الأمور ذات المنطق المقلوب أكثر من أن تعد في لبنان. على سبيل المثال -لا الحصر- فقد أصبح تساؤل رئيس الحكومة عن جواز استعمال السلاح في أزقة بيروت، وتعريض حياة الناس وممتلكاتهم للخطر، كلاماً "يثير الفتنة... وهو ليس تصرف رجال الدولة، ولا رجال السياسة، ولا حتى رؤساء الأحزاب"! أما إزهاق حياة ثلاثة مواطنين، وجرح آخرين، وحرق بيوت، ومحال، ومسجد، فهذا ليس من الفتنة في شيء!.
مثل ذلك يقال أيضاً عن استباحة مطار بيروت، فحينما يُبرر المستبيحون فعلتَهم يقولون: "لقد أنقذنا لبنان من فتنة"!. وفي سياق هذا المنطق يصبح تمرّد جميل السيد على القضاء وتحقيره، احتراماً له، وتصبح دعوة ميشال عون الناس "ليتمشكلوا" مع قوى الأمن الداخلي، ويرفضوا إطاعة القضاء، محاولة منه للإصلاح لا للعصيان، وقس على ذلك...
يوم السبت الماضي قال نائب الأمين العام لـ "حزب الله" الشيخ نعيم قاسم: "حزب الله متنبه لوأد الفتنة ومنع دعاتها من إن يجدوا مجالاً لترويجها". قاسم كان يقول ضمناً إن خصومنا السياسيين يثيرون الفتنة ونحن نئدها...، فهل ينطبق هذا التوصيف على الواقع أم أنه شاهد آخر على المنطق المقلوب في هذا البلد؟!.
في الواقع كان قاسم –كما باقي مسؤولي "حزب الله"- يتمسكون بمواقف وتصريحات صدرت من خصومهم السياسيين، في معرض التنبيه من الفتنة، في حين بغض هذا الفريق الطرف كلياً عن أدائهم الذي يشتكي منه الفريق الآخر، بما يعني أن "حزب الله" وحلفاءه باتوا يعتبرون صرخة الموجوع ترويجاً للفتنة، وتحذير الخائف على وطنه دعوةً لها! أما الفعل المسبب للفتنة –فوفق المنطق المقلوب إياه- بات "هو الذي يحمي الوحدة الوطنية"!.
إن الغوص الموضوعي، في أسباب التوتر السياسي والمذهبي الراهن، يشير إلى وقائع صلبة لا ينفع التذاكي إزاءها:
1- بات من الواضح أن الهدف من التصعيد الأخير إسقاط المحكمة الدولية، أو الإطاحة بالسلطة القائمة ديمقراطياً وتوافقياً، والإتيان بسلطة جديدة ترفض التعامل مع المحكمة، مع ما يعني ذلك من تأجيج للصراع السياسي، وإيقاظ لحساسيات مذهبية يعرفها الجميع، إذ لا يخفى أن الشهداء -موضوع التحقيق الدولي-جميعهم من لون سياسي واحد، وأن رفيق الحريري –كما نجله اليوم- هو زعيم وطني وزعيم سياسي لطائفته أيضاً، شأنه شأن كل الزعماء الكبار في لبنان.
2- لا يمكن لـ "حزب الله" التنصل من التهجم المستمر على "شخص" رئيس الحكومة، ذلك أن أسلوب الشتيمة المنظمة التي يعتمده الحزب من خلال بعض الشتامين، يتخطى الأدبيات المفروضة بين المعارضة والموالاة –إن صحت التسمية-. والشتامون هؤلاء ليسوا مجرد حلفاء للحزب المذكور فحسب، ولكنهم يطلون دورياً من نافذة إعلامه -أو الإعلام الحليف-، وعندما يستعمل واحدهم عبارات مبتذلة بحق رئيس الحكومة لا يجد من يقول له: "عيب؛ التزم أصول اللياقة عندما تتكلم". وعليه فإن من حق جمهور الحريري أن يُستفز، سيما وأن الفريق الآخر لم يتحمل مجرد "سكتش" هزلي بحق زعيمه (للمفارقة أن معده شخص "عونيّ الهوى") فنزل هذا الفريق إلى شوارع مناطق الفريق الآخر وعاث فيها خراباً، ثأراً لكرامة واحترام زعيمه!. (هل تخيلّ أحد ماذا يمكن أن تكون ردة الفعل لو استعمل أحد مع السيد حسن نصر الله، أسلوب الخطاب نفسه الذي استعمله جميل السيد مع الشيخ سعد الحريري!).
3- لا يمكن لنواب "حزب الله" تغييب الصفة الطائفية، لصالح الصفة الدستورية، لأي موقع، عندما يريدون، وتعويم العكس عندما لا يريدون، وتالياً لا يمكن لأحد نوابهم اعتبار ذلك (الأخذ بالصفة الطائفية والدستورية معاً) تهديداً جوهرياً لبنية النظام السياسي، ودعوى مبطنة لاستبدال النظام البرلماني الديمقراطي الذي توافق عليه اللبنانيون بنظام الإمارة"، إذ إن فريق النائب نفسه هو الذي ملأ الدنيا تنظيراً في الديمقراطية التوافقية، التي أفضت إلى الثلث المعطل -مموهاً-خلافاً لقواعد النظام البرلماني الديمقراطي، وهي التي أفضت (الديمقراطية التوافقية) إلى احترام الغالبية النيابية إجماع الطائفة الشيعية الكريمة على مرشح واحد ليكون رئيساً لمجلس النواب، خلافاً لمعادلات الأكثرية والأقلية، وهي التي تعيق اليوم التعيينات الإدارية، لأن تركيبة البلد تفرض مراعاة حصص ومواقع الطوائف، خلافاً لقواعد النظام البرلماني الديمقراطي!.
4- ليس صدفةً أن تكون المواقع كلها، التي تتركز عليها الهجمات في نظامنا الطائفي، يشغلها مسلمون سنة؛ رئيس الحكومة، ومفتي الجمهورية، ووزيرة المال، وأمين عام مجلس الوزراء، ومدعي عام التمييز، والمدير العام لقوى الأمن الداخلي، ورئيس "شعبة" المعلومات... (مطلوب أن يذهب هؤلاء إلى السجن أو يستقيلوا)، وإذا كانت هذه "الصدفة" غير حاضرة في المواقف السياسية لئلا تتأجج الفتنة أكثر، فإنها حاضرة لدى الناس في الشارع، ويستطيع أي صحفي عادي أن يسمعها من الألسنة الغاضبة، وأن يراها في قسمات الوجوه الواجمة!.
5- في مطلق الأحوال، فإن "حزب الله" لا يخفي هويته المذهبية، بل هو يستعملها -كلما دعت الحاجة- ليقول للطرف الآخر إنني أمثل غالبية الشيعة في لبنان، وإن تجاوُز هذه القيمة التمثيلية في بلد كلبنان يعني الإطاحة بالعيش المشترك. أليس هذا هو المنطق الذي استُعمل للحكم على حكومة السنيورة الثانية بأنها "فاقدة للشرعية والميثاقية والدستورية"، فلماذا ينكر إذن على الآخرين حقهم في صفتهم التمثيلية داخل طوائفهم، خصوصاً إذا كان الرئيس سعد الحريري يمثل منفرداً داخل طائفته أكثر مما يمثل "حزب الله" منفرداً داخل طائفته، مع فارق أن "تيار المستقبل" يضم لبنانيين من مختلف الطوائف اللبنانية، مؤمنين برسالة غير طائفية واحدة، سطّرها مؤتمر التيار مؤخراً.
أخيراً، وفي معرض تظهير أسباب التوتر المذهبي –بلا لف أو دوران- يلفت كثيراً ذلك الربط -غير المفهوم- الصادر عن لسان النائب محمد رعد أمس، فبعد كلامه عن "الصخب الإعلامي"، و"حالات الاهتراء"، ينتقل للحديث عن اتفاق الطائف على أساس أنه قد "تم التوافق في السابق على تسوية الطائف، وربما للبعض ولنا ملاحظات كثيرة على هذه التسوية، لكننا ارتضينا عملنا بموجبها طوال السنوات الماضية، وما شهدناه أن البعض يحاول أن ينتقي ويستنسب ويجتزئ بنوداً من اتفاق الطائف ليطبقها في ما لا يؤمن في الكثير من البنود الأخرى"، مؤكداً أن "الاستنساب والانتقائية في تطبيق الطائف هو خروج عن منطق الدولة التي يريدها اللبنانيون، ...والازدواجية في اعتماد المعايير لن تحقق استقراراً في هذا البلد"... فما هو الرابط بين التوتر على خلفية المحكمة الدولية وبين ازدواجية المعايير في اتفاق الطائف يا ترى؟!