الكلمة الطيبة التي أزعجتهم!
فادي شامية
لم يكن البلد في حالٍ حسن، عندما أطل عليه هلال رمضان، لكن للشهر العظيم احترامه، وليس مناسباً أن يكون الكلام فيه مشابهاً للكلام فيما سواه من الشهور، والحديث النبوي يقول: "الصِّيَامُ جُنَّةٌ (وقاية)، فإِذا كانَ يومُ صومِ أحدِكم فلا يَرفُثْ (لا يقول القول الفاحش) ولا يَصخَب، فإِن سابَّهُ أحدٌ أو قاتَلهُ فلْيَقُلْ إِني امرؤٌ صَائِم".
على عادة والده الشهيد، أطلق سعد الحريري سلسلة الإفطارات الرمضانية، وأعلن في أولها الالتزام بـ "الكلمة الطيبة". لم يكن الحريري يقصد من "الكلمة الطيبة" أنه لن يتفوه بكلام بذيء، لأن الإعلام لم يسبق أن سجّل عليه ذلك، بل كان يقصد -كما أوضح لاحقاً- الالتزام بـ"الحوار الهادئ، والارتفاع بمستوى الخطاب السياسي، إلى المرتبة التي تليق بالحياة الديمقراطية، وتعزز من فرص الاستقرار في البلاد".
في اليوم التالي -أو في مساء اليوم نفسه- تنادى الشتّامون للبحث في الأمر. هم أصلاً لا يحسنون الكلام الطيب، ولا يطيقون الصيام عن "الرفث" شهراً كاملاً، ثم إن أمامهم استحقاقات تدعوهم إلى مزيدٍ من الفجور... فاجتمع رأيهم على تفويت فرصة أن يسمع اللبنانيون في شهر رمضان كلاماً نظيفاً.
في اليوم الخامس من رمضان (15 آب) قال أحدهم: "كل من يريد أن يكون كلباً عند الـ سي. آي. إي سنريه شيئاً لم يره من قبل... هناك لبنانيون خائفون، ولكن أطمئنهم أنه لن يحصل شيء. هناك 40 أو 50 واحداً هم أدوات الفتنة، وعندما يتم وضعهم في صناديق السيارات، سيتم التعرف عليهم... لن تحصل اغتيالات، ولكن الناس هي التي ستُحاسِب. لن يبقى هؤلاء يلبسون الكرافاتات ويتكلمون من على شاشات التلفزيون... بلمار كذاب، ومحتال وأهبل... منذ 5 سنوات ونصف قلت إن هذه المحكمة متل هونيك شي (صرماية)... والذي يتفاعل مع قرار الفتنة بدا تندعس رقبتو وينهان ويتبهدل ويتكسر". أضاف واصفاً الرئيس الحريري: "مين هوي سعد الحريري؟! أقول لك (يا سعد الحريري) بكل هدوء احمل حالك وفلّ؛ استقل... بتروح سنة بعد سنة وبترجع، ونكون قطعنا هذه المرحلة"!.
وفيما كان الحريري يواصل "الكلام الطيب" أياماً بعد هذا الكلام، إذا بالنار تندلع في برج أبي حيدر. ثلاثة قتلى، وخمسة عشر جريحاً، وحرائق ودمار، والسبب "خلاف فردي" بين حليفين!. ينزل رئيس "حكومة الوحدة الوطنية" إلى الشارع، يتفقد الأضرار، ويتضامن مع الناس المكلومة، و"يطالب" ببيروت عاصمة منزوعة السلاح... فينزعج أحد النواب الكرام ويقول: "ثمة من يستفيد من هذه الحادثة (اشتباكات برج أبي حيدر) للتوصل إلى إجراءات من شأنها غلّ أيدي المقاومة في الدفاع عن نفسها في ما لو صدر القرار الظني باتهامها". (يعني نريد السلاح ونرغب باستعماله أيضاً على نحو ما جرى سابقاً!)... ثم يسمع الحريري عتاباً: "لقد وضعت الملح على السكّين، وحرّكته في جرحنا، وهذا ليس تصرف رجال الدولة، ولا رجال السياسة، ولا حتى رؤساء أحزاب"!... يسأل الحريري نفسه والناس من حوله: "حين تصبح بيوت الناس وممتلكاتهم عرضة للانتهاك، هل المطلوب أن نقف متفرجين من دون أن يكون لنا الحق بإبداء الرأي؟"... "يتمتم" أمام زواره: أنا أحمل السكين؟ كيف و"أنا لا أعرف كيف تُحمل السكين؟ أنا ابن رفيق الحريري، ورفيق الحريري هو رجل الدولة الأول... هل يعقل أن تقع المشاكل على الأرض ثم ممنوع الكلام عنها؟!".
يطوي الحريري الصفحة: "ما قلناه قد قلناه... ونريد الحفاظ على الاستقرار"، لكن جوقة الشتيمة والتزوير تواصل. يحركون له نائباً سابقاً في مسقط رأس العائلة ليقول: "حكواتي قريطم (الحريري) هو رأس الفتنة الأول في لبنان"!. ثم يصرّح أحدهم: "الحريري لعب دوراً تحريضياً كبيراً... وإذا عاد الاقتتال إلى لبنان ستعود الدبابات السورية إليه"!. وبعد يومين يواصل: "يا حريري حلّ عنا بقا؛ مات النبي وانحلت القصة... تريد المحكمة الدولية فاذهب وحدك إليها... أنت كنت شاهد زور، ومن هم حولك شهود زور، ولو كان يوجد مواطنون لكانوا دعسوهم بالصرامي"!.
يعود الحريري إلى مستشاريه: يهاجمونني لأنني متمسك بالحقيقة والعدالة والمطالبة بنزع السلاح غير الشرعي من العاصمة... هذا فهمناه؛ لكن ما لا أفهمه: الحملة على جهاز أمني لكشفه عميلاً كبيراً؟ والأعجب أن يغطي "حزب الله" هذه الحملة بالصمت؟! هل صار كشف العملاء جرماً أيضاً؟!... وقبل أن يأتيه الجواب يـُدخِلون له تصريحاً جديداً من أحد النواب "البرتقاليين"، يصف فيه "شعبة" المعلومات (كلها)، ومدير عام قوى الأمن الداخلي أشرف ريفي بـ "الزعران" و"الميليشيا التي تخطت جميع الأعراف، إذ من المفترض أن تحمي الناس بدلاً من اختطافهم من منازلهم، وتشويه سمعتهم، على غرار ما فعلوا مع العميد فايز كرم (الموقوف والمعترف بالعمالة للعدو -حسب بيان قوى الأمن الداخلي-)"!.
بدا أن كل شيء بات مقلوباً، لا الكلمة الطيبة تنفع، ولا التنازلات تـُرضي... وربما دار في ذهن الحريري أن الصمت أنفع... فيغادر للاعتمار قبل العيد، لكن الضجيج وراءه لا يهدأ؛ هذا يطالبه بالتدخل في عمل المحكمة حتى يرى "رؤوساً تتدحرج"، وذاك يدعو لـ "إعادة النظر بـ 73 مشروعاً هرّبها (فؤاد) السنيورة"، ومن ضمنها النظام الأساسي للمحكمة، وذلك يصف حكومة الحريري بالـ "مافيا"... ثم يخرج في اليوم الثالث للعيد "طاووس" ما قبل "الاستقلال الثاني"، لـ "يبق البحصة": "يا حريري لقد سقط حقك بالمطالبة بالمحكمة الدولية"!، وفي مؤتمر صحفي -لهذا "الجنرال"- غني بالعبارات غير الطيبة، يضيف: "أنت تعرف مسبقاً و(فؤاد) السنيورة، ومن معك أنكم كنتم تزوّرون... أقسم بشرفي إن لم تعطني حقي، سآخذه منك يوماً ما بيدي"!.
وإذ يتناسى "الجنرال" الثاني ما فعله الأول بمناصريه يوم كان منفياً، فقد دعا للآتي:
1- تشكيل لجنة نيابية تحقق مع: مدعي عام التمييز سعيد ميرزا، ومدير عام قوى الأمن اللواء أشرف ريفي، ورئيس "شعبة" المعلومات العميد وسام الحسن.
2- عدم امتثال المواطنين لـ "شعبة" المعلومات "وأن يتمشكلوا (يتقاتلوا) معها على حسابي، لأنها غير شرعية، ونحن لها بالمرصاد، (كما أدعوهم) ألا يستجيبوا لأوامر سعيد ميرزا (أعلى موقع قضائي في لبنان)!".
ولمن صم الذهول أذنيه فلم يسمع، كرر هذا "الجنرال" في اليوم التالي مطالبه، متعهداً بالتصعيد "لأن الدولة ساقطة"!. وقبل أن يتساءل أحد عن سر ما يجري؛ كشف النائب إياه السر: "لا استقرار راسخاً، ولا علاقات لبنانية سورية سليمة، قبل حل ميليشيا (لاحظ التعبير) شهود الزور الأمنية والسياسية والإعلامية والقضائية، وقبل محاسبتها ومعاقبتها". (أي حل الدولة ومعاقبتها كلها).
انجلى العيد حزيناً عن مشهد مرعب؛ الجوقة التي ظلمت رفيق الحريري وتآمرت عليه عادت للعمل من جديد، وقد انضمت إليها وجوه صفراء وشعارات برتقالية... والمسلسل ينذر بالمزيد. سعد الحريري ما زال على صمته منذ تصريحه الشهير لـ "الشرق الأوسط". نواب "المستقبل" والحلفاء يقاتلون بأيدٍ مغلولة، والناس ما بين مذهول، وخائف، وغاضب، وشامت... وحدها شقيقة الشهيد ذهبت إلى حيث يستكثرون على المظلوم قبراً يحميه... هناك قرأت قوله تعالى: ﴿أَلَمْ تَرَ كَيْفَ ضَرَبَ اللّهُ مَثَلاً؛ كَلِمَةً طَيِّبَةً كَشَجَرةٍ طَيِّبَةٍ، أَصْلُهَا ثَابِتٌ وَفَرْعُهَا فِي السَّمَاء، تُؤْتِي أُكُلَهَا كُلَّ حِينٍ بِإِذْنِ رَبِّهَا، وَيَضْرِبُ اللّهُ الأَمْثَالَ لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ، وَمَثلُ كَلِمَةٍ خَبِيثَةٍ كَشَجَرَةٍ خَبِيثَةٍ اجْتُثَّتْ مِن فَوْقِ الأَرْضِ مَا لَهَا مِن قَرَارٍ.....﴾ إلى أن أوقفتها الدموع... وبعض الغضب أوله دموع!.
ملاحظة: كل ما هو وارد بين مزدوجين صادر حرفياً عن لسان قائله.