الحسابات الفلكية في إثبات الأشهر القمرية
فادي شامية- الخميس,29 تموز 2010 الموافق 17 شعبان 1431 هـ
اعتمد الإنسان منذ القدم على الحسابات أساساً لتحديد التقاويم وحساب الأشهر وبدايتها، واتخذت الحضارات القديمة الأشهر القمرية أساساً لتقاويمها كالبابليين والمصريين والصينيين والإغريق، وكان ذلك أحد الأسباب الرئيسة التي دفعت علم الفلك إلى الأمام في تلك الحضارات. ولقد كانت القبائل العربية تُعنى بالرؤية من أجل تحديد الأشهر الحرم في أوقات الخصومات والحروب المستعرة بينهم ومن أجل مواسم الحج.
السعي وراء الحسابات الفكية مسعى قديم
منذ ما قبل الإسلام والجهود العلمية منصبة على وضع معايير علمية للتنبؤ بإمكان رؤية الهلال، ولعل أشهر هذه المعايير ما كان معمولاً به حتى بداية القرن الماضي، وهو ما يسمى معيار الاثنتي عشر درجة، والمقصود بهذا المعيار من الناحية العملية أن رؤية الهلال تكون ممكنة مساء التاسع والعشرين من الشهر القمري، إذا كان غروب القمر يتأخر عن غروب الشمس بمقدار 12 درجة، أي بمقدار 48 دقيقة من الناحية الزمنية. وعلى هذا الأساس، وضعت الجداول من قِبَل علماء الفلك المسلمين )الأزياج، كزيج الخوارزمي وغيره). ويعتمد هذا المعيار كما هو واضح على علاقة هندسية بين مواقع القمر والشمس والمشاهد من حيث الزمان.
هناك معيار آخر، يعرف بمعيار انخفاض الشمس، بحيث تكون رؤية الهلال ممكنة إذا كان انخفاض الشمس تحت الأفق الغربي عند غروب القمر يساوي مقداراً معيناً يبلغ نحو 9 درجات. يعتمد هذا المعيار كما هو واضح على درجة لمعان ضوء الشمس وأثره في الأفق بعد الغروب.
في العام 1977 أحدث "فرانس برون" الباحث في المرصد الفلكي للجامعة الأمريكية في بيروت تطوراً نوعياً في هذه المسألة، حين تطرّق إليها من منظار فلكي فيزيائي، فركّز على الظروف الحقيقية والخاصة بالمشاهد والتي لوحظ فيها قدرة العين البشرية على التقاط صور الأجسام الساطعة. وفي العام 1984، قام الفلكي الإسلامي الماليزي، محمد الياس، باقتراح معيار جديد حاول فيه التوفيق بين المعايير القديمة ومعيار برون السالف، من خلال رسمه للخط الزمني القمري أو International Lunar Dateline ( I.L.D.L )، وقد قسم العالم بناء لذلك إلى 3 مناطق تتحد في رؤية الهلال وهي: الأمريكيتان، وأوروبا وأفريقيا وغرب آسيا، وشرق آسيا والمحيط الهادي. كما نشر الدكتور حميد مجول النعيمي، ومجموعته بقسم الفلك – كلية العلوم – جامعة بغداد في الثمانينيات دراسات في غاية الأهمية حول هذا العلم.
ومع التطور التقني الراهن، باتت هذه المواقيت اليوم علماً يقينياً سهلاً، وأصبح بالإمكان أن نحسب المواقيت الزمانية لمنازل الهلال إلى ما دون الثانية، والمواقيت المكانية إلى ما دون الأنملة، كما أصبح بالإمكان القول إن الحسابات الفلكية أكثر مصداقية ودقة بملايين المرات من رؤية العين البشرية.
ولعل رفض الفقهاء في الماضي؛ الاعتماد على الحسابات، يعود بالدرجة الأولى إلى اختلاطها بالتنجيم والشعوذة، لكن الحسابات اليوم وسيلة يقينية، تقوم على أسس علمية مجردة، هدفها تحديد إمكانية الرؤية من عدمها، وبالتالي يستحيل من الناحية العلمية أن يولد الهلال في المكان والزمان الذي تقول الحسابات الفلكية بعدم إمكانية ولادته فيه، وإذا ما نصت الحسابات الفلكية على إمكانية الرؤية فهذا معناه ولادة الهلال يقيناً، على أن يبقى أمر مشاهدته من قبل الناس أمراً مرهوناً بهم وبالظروف المساعدة أو المعيقة لهم. يضاف إلى ذلك الاحتمال الكبير لوقوع الخطأ عبر المشاهدة نتيجة ازدياد الأبخرة، والغازات، والسحب الدخانية على اختلاف أنواعها ودرجاتها من دخان وضباب وبخار ماء، وغشاوة ضبابية، ولطخة، وسخام، ونفثات غازية متقطعة... وكلها تحمل عوامل توجب على الجهات الشرعية التشدد أكثر بالأخذ بالرؤية.
لماذا تضارب نتائج الحسابات الفلكية أيضاً؟!
ومع أن الحسابات الفلكية أدق من الرؤية، بلا لا يقارن؛ فإننا ما زلنا نرى اختلافاً في الأمة فيما يتعلق بولادة الشهور، بل إن اختلافاً ما زال يقع حتى مع الذين يأخذون بالحسابات الفلكية أنفسهم.
إن هذه الاختلافات ناتجة عن استخدام الطرق المختلفة فيما بين الفلكيين لتعيين أوائل الشهور، وهي ليست ناتجة عن خطأ أو قصور في قدرة الحسابات نفسها، أي أن الاختلاف ليس بسبب الحسابات، ولكن بسبب اختلافٍ في التعاريف التي تقوم عليها الحسابات، فلو اتفق الفلكيون على طريقة الرؤية وحسبوا موقع القمر بناءً عليها، لاتفقوا جميعاً على مكان واحد وزمان واحد لغروب الهلال قبل أو بعد الشمس.
إذاً، إن الاختلافات الظاهرة لا تعود إلى خطأ أو قصور في الحساب ودقته، ولكن تعود إلى المعيار المعتمد من قبل الجهة القائمة على الحسابات، أو إلى القراءة غير المختصة لتقارير هذه الجهات، حيث أن الأغلب في التقارير الحسابية الفلكية أنها واحدة، لكن عرضها وقراءتها مختلف. أضف إلى ذلك تباعد البلاد الإسلامية فيما بينها، ما يتيح إمكانية الاختلاف العلمي المبرر بين المناطق المتباعدة على الكرة الأرضية.
وفي بعض البلاد الإسلامية يتم تعيين أوائل هذه الشهور القمرية بالحساب ولكن وفق معيار ولادة الهلال لا إمكانية رؤيته؛ ففي ليبيا مثلاً، المعتمد في إثبات هلال رمضان يقوم على أساس معيار لحظة الاقتران (المحاق)، وهو المعيار البابلي القديم، أي أن يكون المحاق قد حصل قبل وقت دخول صلاة الفجر، فإذا ما حدثت لحظة الاقتران قبل صلاة الفجر ثبت الشهر، بغض النظر عن حصول غيابه قبل الشمس أم بعدها، وذلك خلافاً للمجامع الفقهية كافة!.
وفي بلاد أخرى يُعتمد الزمن الذي يمكن أن يُرى فيه الهلال، وعندها تعتبر الأيام التي تلي أيام الرؤية أول الشهور المذكورة- وهي الطريقة الشرعية الصحيحة-، بينما تعتمد دول أخرى على الرؤية فقط كما في السعودية، حيث المعتمد هو الرؤية البصرية بعيداً عن الجدال الفلكي بحيث يشهد من يرى الهلال أمام مجلس القضاء الأعلى، ويبنى الحكم بناء لذلك، وهناك بلاد إسلامية أخرى (تركيا على سبيل المثال) تعتمد على قرار اللجنة الفقهية للمؤتمر الإسلامي الذي عقد في مدينة "إسطنبول" عام 1978م بشأن شروط رؤية الهلال، وهي:
1 - ألا تقل زاوية ارتفاع الهلال عن الأفق في لحظة غروب الشمس عن 5 درجات قوسية.
2 - ألا يقل بعد القمر الزاوي عن الشمس عن 8 درجات قوسية.
وعندما تـُظهر الحسابات الفلكية تطابق هذه الشروط أو أحسن منها، فسوف يتم اعتبار اليوم التالي لتوفر هذه الشروط هو بداية ذلك الشهر القمري.
وعموماً فإن الإشكالات الناتجة عن المعايير المختلفة في الحسابات الفلكية، وطريقة عرض النتائج مسألة تحتاج إلى حسم، وهو أمر ليس بالصعب أبداً، إذ ينبغي للجهات المسؤولة عن إعداد التقاويم أو تحديد بدايات الأشهر القمرية في الدول الإسلامية اعتماد معيار يأخذ إمكانية رؤية الهلال بعين الاعتبار، بحيث يشترط غياب الهلال بعد غروب الشمس كدلالة على دخول الشهر، فلو غرب الهلال قبل الشمس لما اعتبر ذلك دليلاً لدخول الشهر حتى وإن كان الهلال قد ولد فلكياً قبل الغروب، لتعذر الرؤية.
ولتحديد بداية الشهر القمري وفق المعيار الإسلامي، يجب تحديد الشروط اللازمة التي تسمح للعين المجردة بتمييز هلال الشهر الجديد، وهناك عوامل كثيرة تؤثر على عملية الرؤية هذه أهمها: عمر الهلال وبعده الزاوي عن قرص الشمس، وارتفاع الهلال عن مستوى الأفق وقت الغروب.
وقد تم التأكيد على هذه الشروط من قبل الدكتور محمد إلياس، والدكتور حميد مجول النعيمي، والدكتور مسلم شلتوت، وغيرهم. وفي حال تطبيق هذه الضوابط فإن الإشكالية المؤسفة (الاختلاف في بدايات الشهور) التي ترافق ولادة هلال رمضان وشعبان من كل عام تكون قد حلت... عسى أن يكون ذك قريباً.