في مفاهيم "الوسطية الإسلامية":
المسالمة -لا المقاتلة- هي الأصل في علاقة المسلمين مع غير المسلمين
فادي شامية - الجمعة,11 حزيران 2010 الموافق 28 جمادى الآخرة 1431 هـ
يثير "الغلاة" من المسلمين، وبعض المفكرين الإسلاميين، بين الحين والآخر، إشكاليةً تتعلق بطبيعة الجهاد في الإسلام، مفادها أنه ذو طبيعة هجومية، بغض النظر عن وقوع الاعتداء على المسلمين من عدمه، انطلاقاً من اعتقادهم بأن عِلَّة القتال هي الكفر المجرد، وليس العدوان.
وثمة من يورد أدلة من القرآن (فَاقْتُلُواْ الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدتُّمُوهُمْ) ، ومن السنة (أُمرتُ أن أقاتل الناس حتى يقولوا: لا إله إلا الله)، ومن السيرة النبوية، والفتوحات الإسلامية، وأقوال بعض الفقهاء السابقين.
هل أن الجهاد في الإسلام ذو طبيعة هجومية فعلاً؟!
إن محاولة الاستدلال على هجومية الجهاد بالآية المسماة آية السيف السابقة، محل نظر كبير، إذ ليس صحيحاً أن آية السيف، قد نسخت كل ما سبقها من آيات تتحدث عن الجهاد وعن العلاقة بغير المسلمين، وليس من تعارض بينها وبين باقي الآيات، بل لآيات العفو والصفح موضعها، ولباقي الآيات موضعها، في تقرير حكم من لا عهد لهم، ومن نقض العهد. أما الأحاديث الواردة في الحض على قتال الكافرين أو الناس عموماً فإنما هي عموم، يراد به خصوص مشركي العرب، الذين صدوا عن سبيل الله وأخرجوا المسلمين من ديارهم، والأحاديث بنصها، حتى مع هذا الخصوص، تفيد أن القتال هو لدفع الشر الذي مثّله هؤلاء للدعوة، وإلا لكانوا وغيرهم سواء.
أما بالنسبة لحديث "بعثتُ بالسيف، حتى يعبد الله وحده لا شريك له، وجعل رزقي تحت ظلِّ رمحي..." فهو مجروح السند، لا يسلم أحد من رواته بما ينقله من مرتبة الصحة إلى مرتبة الضعف. كما أن متنه يعارض ما جاء في القرآن الكريم من أن الرسول e بُعث رحمةً للعالمين.
أما الاستدلال بغزوات النبي e وسراياه فهو استدلال سقيم، فمن تأمَّل سيرة النبي e تبيَّن له أنه لم يُكره أحداً على دينه قط، وأنه إنما قاتل مَن قاتله، وأما مَن هادنه فلم يقاتله ما دام مقيماً على هدنته، لم ينقض عهده؛ بل أمره الله تعالى أن يفيَ لهم بعهدهم ما استقاموا له. ومثل ذلك يقال عن الفتوحات الإسلامية.
أي علاقة تحكم المسلمين بغير المسلمين؟!
الواضح من النصوص الشرعية ودلالاتها أن الأصل في العلاقة مع غير المسلمين هو السلم، وأنه يحكم المسلمين مع غيرهم من المخالفين لهم في العقيدة مبدآن:
الأول: هو الدعوة بالحكمة والموعظة الحسنة لقوله تعالى: }ادْعُ إِلِى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُم بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَن ضَلَّ عَن سَبِيلِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ{ .
الثاني: عدم إكراه أحد على تغيير عقيدته، أو إجباره على اعتناق الإسلام لقوله تعالى: }لاَ إِكْرَاهَ فِي الدِّين{ِ. وقوله: }َفمَن شَاء فَلْيُؤْمِن وَمَن شَاء فَلْيَكْفُرْ {.
وفي الواقع؛ ما أكثر النصوص الشرعية الداعية إلى إيثار السلم ونبذ الحرب، وتقرير كون الأصل في العلاقات الدولية هو السلام لا العدوان، وأن الباعث على القتال إنما هو مقاومة أشكال الحرابة والبغي والفساد، وليس المخالفة في الدين.
ومن روائع التوجيه والتربية في هذا المجال؛ أن الإسلام يُحبِّب إلى المسلم كلمة السلام، ويجعلها واحدة من أسمائه الحسنى، ويسمّي الجنة دار السلام، ويفرض على المسلم ألا يتمنى لقاء العدو، بل يفرض على المسلمين هدنة إجبارية – حال الحرب- لمدَّة أربعة أشهر، أي ثلث العام، وهي الأشهر المعروفة بالأشهر الحرم، وهي: ذو القعدة وذو الحِجَّة ومحرم ورجب.
من جهة أخرى، لا يمكن الاقتناع بأن هدف الجهاد الإسلامي هو محو الكفر من العالم، فهذا الهدف فضلاً عن كونه غير واقعي، فإنه يناقض ما قرره القرآن من أن اختلاف الناس في أديانهم وعقائدهم، وانقسامهم إلى مؤمنين وكافرين، واقع بمشيئة الله . قال تعالى: } وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ لَآمَنَ مَنْ فِي الْأَرْضِ كُلُّهُمْ جَمِيعاً أَفَأَنْتَ تُكْرِهُ النَّاسَ حَتَّى يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ{ وهكذا يظهر أنه لو شاء الله لهدى الناس جميعاً، لكنه جعل اختلافهم بمشيئته وحكمته.
أما أقوال بعض الفقهاء الأوائل؛ بأن حالة الحرب هي أصل في تعامل المسلمين مع غيرهم، فهي أقوال مبنية على تقسيمهم للعالم إلى دارين؛ دار سلم ودار حرب، وهو تقسيم كان يستند إلى الواقع كتقريرٍ له وترتيب للأحكام عليه، أكثر مما يستند إلى الدليل الفقهي المجرد، على اعتبار أن هؤلاء العلماء أنفسهم من مالكية، وحنابلة، وحنفية، والإمام الشافعي في قوله الثاني، ينيطون القتال بالحرابة وليس بالكفر.
وهكذا يظهر أن الجهاد في الإسلام، هو وسيلة للدفاع عن المسلمين والمستضعفين، وليس وسيلة للهجوم. قال ابن تيمية في شرحه لقوله تعالى: }وَقَاتِلُواْ فِي سَبِيلِ اللّهِ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَكُمْ وَلاَ تَعْتَدُواْ إِنَّ اللّهَ لاَ يُحِبِّ الْمُعْتَدِينَ{: "هو تعليق للحكم بكونهم يقاتلوننا، فدلّ على أن قتالنا لمن لا يقاتلنا أنه عدوان"، ويدل عليه بعد هذا قوله: }فَمَنِ اعْتَدَى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُواْ عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدَى عَلَيْكُمْ{.
وعليه، فإن القتال في الإسلام ليس غاية بحد ذاته، بل "هو وسيلة اضطرارية لحماية دعوته ولرد الظلم الذي يقع على أبنائه"، وهو مشروع للدفاع عن الدعوة والنفس والأرض، وليس وسيلة إيذاء للمخالفين في العقيدة أو للسيطرة عليهم، لأن الأصل في ذلك أن } لاَ إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ{، ولكن كما يوجه الإسلام أبناءه لعدم إكراه المخالفين في العقيدة على اعتناق الإسلام، يحضهم بالمقابل على قتال الذين يريدون إكراه الناس على الكفر، عبر وقوفهم بوجه الدعوة الإسلامية ومنع انتشارها، أو قتال أولئك الذين يريدون إفتان الناس في دينهم وإجبارهم على اعتناق الكفر، أو التضييق عليهم بمنعهم من ممارسة شعائرهم ظلماً وعدواناً.. قال تعالى: } كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتَالُ وَهُوَ كُرْهٌ لَّكُمْ وَعَسَى أَن تَكْرَهُواْ شَيْئًا وَهُوَ خَيْرٌ لَّكُمْ وَعَسَى أَن تُحِبُّواْ شَيْئًا وَهُوَ شَرٌّ لَّكُمْ وَاللّهُ يَعْلَمُ وَأَنتُمْ لاَ تَعْلَمُونَ{.
موقع الجهاد في عالم اليوم
إن "الظروف التاريخية، وليس النصوص الشرعية، هي ما دعا عدداً من الفقهاء القدامى إلى القول بفرضية جهاد الطلب لغزو ديار الكافرين، إذ كانت الأمة مهددة باستمرار من جيرانها الأقوياء؛ الفرس والروم، حيث لم تكن قوانين دولية تقوم على تبادل الاعتراف بين الدول ومنع العدوان، كما هو اليوم، رغم تجاوز الأقوياء لها".
أما الآن، وفي ظل الاعتراف الدولي بحقوق الإنسان، ومنها حقه في حرية الاعتقاد والدعوة إليه، وإقامة مؤسساته وحماية الأقليات، فإنه ينتفي مسوّغ أساسي من مسوغات جهاد الطلب، أي الغزو من أجل الدعوة إلى الإسلام، وما كان يهدف إليه من إزاحة عقبة الأنظمة الطاغوتية التي كانت تمنع الشعوب من أن تفكر أو تؤمن بخلاف الفرعون الذي لم يتردد في الاستنكار على بني إسرائيل أن يؤمنوا بالله قبل أن يأذن لهم.