نحو تجديد الفقه السياسي الإسلامي: الدولة في مفهوم الوسطية السياسية
فادي شامية
النظرة الوسطية إلى مفهوم الدولة الإسلامية
بحسب الدكتور محمد سليم العوا، فإن المعلم الأول من معالم الوسطية السياسية اليوم، يتمثل في ضبط مفهوم الدين والدولة، والنظر إليها على أنها مسألة اجتهادية، توجب على العلماء المؤهلين للبحث السياسي، استمرار الاجتهاد في كل عصر في المسائل السياسية التي تتصل بسلطات الدولة الثلاث، أو بعلاقات الدولة الإسلامية بغيرها من الدول.
يقول العوا: "لفظ الخلافة لا يعني في مدلوله السياسي أو الدستوري أكثر من حقوقه وواجباته، على نحو يشير إلى محاولة الصحابة الذين ابتكروا نظام الخلافة السعي إلى محاولة اتباع المثال الأعلى الذي كان قائماً في بداية نشوء الدولة الإسلامية"، ويؤكد العوا أن نموذج الدولة الإسلامية ليس فيه نص قرآني صريح لا يحتمل في تأويله الاختلاف، وليس فيه نص من السنة صحيح الورود، قطعي الدلالة؛ وأن الدولة مرادفة لكلمة الشريعة التي أثبتتها نصوص صريحة قطعية الورود والدلالة1.
بدوره يقول الدكتور عبد المنعم أبو الفتوح: "إن الدولة الإسلامية على مدار تاريخها لها معالم مميزة، ويحدَّدُ مفهومها بأنها الدولة التي أغلب سكانها من المسلمين. وهي دولة مدنية وليست دينية، يحكمها المدنيون المتخصصون في مختلف النواحي، لكنها مع هذا إسلامية في شتى المناحي الاقتصادية أو الأيديولوجية"2.
أما الدكتور راشد الغنوشي فيرى أن "الدولة الإسلامية هي نظام سياسي اجتماعي تتحدَّد هويته من خلال الالتزام بمرجعية النص - من كتاب وسنة - بوصفه المصدر الأعلى للتشريع، والالتزام بالشورى مصدراً للشرعية، أي اعتبار الأمة مصدر شرعية الحكم والحاكم. وبخصوص الخلافة على منهاج النبوة، وفق الوسع والاجتها،د فهي هدف لكل المسلمين الواعين بدينهم، وهو ليس هدفاً خيالياً"ً3.
ومفاد ذلك كله أن الأشكال المؤسساتية، والآليات الدستورية، والاجتهادات التشريعية والسياسية للفترة الراشدية، كلها نتاج بشري محكوم بالسياق التاريخي والظروف الحضارية والمناخ الثقافي لعصرها. ويجب ألا تتحول إلى جزء من الدين يلزم به المسلمون على اختلاف عصورهم4. وهكذا تتحدد العلاقة بين مفهومي الأمة والدولة بالنظر إلى الأخيرة على أنها "البنية السلطوية للأمة التي توجه الفعل السياسي وتحدده وفق منظومة المبادئ السياسية الإسلامية5.
وبالعودة للإمام حسن البنا، الذي يعد في طليعة المستنيرين بالوسطية، فإنه قد جعل الخلافة مطلباً لحركة "الإخوان المسلمين"، إلا أنه لم يشغل بالخلافة إلا في إشارات قليلة يحكمها تقدير صريح بأنها مسألة مؤجلة، وإن كانت مسألة شرعية، لا سبيل لإسقاط التكليف الشرعي بأمرها6.
ويحرص الإسلاميون المعاصرون، وخاصة الذين يستندون إلى فكر حسن البنا وتراث "الإخوان المسلمين"، على التشديد على الفواصل والتمايزات بين مفهوم الدولة الإسلامية ومفهوم الدولة الدينية، باعتبار أن الثانية غريبة عن تعاليم الإسلام وتجربته السياسية، بل نجد نصوصاً للبنا نفسه تشيد بالدستور المصري الوضعي، فيقول: "إن الباحث حين ينظر إلى مبادئ الحكم الدستوري، التي تتلخص في المحافظة على الحرية الشخصية بكل أنواعها، وعلى الشورى واستمداد السلطة من الأمة، وعلى مسؤولية الحكام أمام الشعوب ومحاسبتهم على ما يفعلون، وبيان حدود كل سلطة من السلطات. هذه الأصول كلها يتجلى للباحث أنها تنطبق كل الانطباق على تعاليم الإسلام ونظمه وقواعده في شكل الحكم. ولهذا يعتقد الإخوان المسلمون أن نظام الحكم الدستوري هو أقرب نظم الحكم القائمة في العالم كله إلى الإسلام، وهم لا يعدلون به نظاماً آخر"7.
قضايا متعلقة بالدولة
ثمة قضايا تتعلق بالدولة، يجب التوقف عندها في معرض الطروحات الوسطية، والفيصل في ذلك، النظر إلى التصرفات النبوية وتمييزها بين نوعين؛ تصرفات ذات طبيعة تشريعية، وتصرفات ذات طبيعة غير تشريعية؛ فالتصرفات التشريعية، هي ما صدر عن الرسول r مما هو للاتباع والاقتداء. وهذه التصرفات التشريعية تنقسم بدورها إلى قسمين:
1ـ تصرفات بالتشريع العام، وهي تتوجه إلى الأمة كافة إلى يوم القيامة. وهي إما تصرفات بالتبليغ أو تصرفات بالفتيا.
2ـ تصرفات بالتشريع الخاص، وهي مرتبطة بزمان أو مكان أو أحوال أو أفراد معينين، وليست عامة للأمة كلها. ويدخل ضمنها التصرفات بالقضاء، والتصرفات بالإمامة، والتصرفات الخاصة. وهي ملزمة لمن توجهت إليهم فقط، وليس لغيرهم. ويسميها بعض العلماء التصرفات الجزئية أو التشريعات الجزئية أو الخطاب الجزئي.
أما التصرفات غير التشريعية، فهي تصرفات لا يقصد بها الاقتداء والاتباع، لا من عموم الأمة ولا من خصوص من توجهت إليهم. كالتصرفات الجِبِلِّية، والتصرفات العادية، والتصرفات الدنيوية، والتصرفات الإرشاديةن والتصرفات الخاصة به r8.
ولهذا التقسيم فوائد عديدة في الفقه، وفي التعامل مع الأحاديث النبوية، وإن كان ما يعنينا في هذا المقام، ما له علاقة بالدولة9.
ومثال ذلك قوله r: "من قتل قتيلاً فله سلبه"، فهذا توجيه مرتبط بمصلحة مؤقتة، لأن تلك الحالة كانت تقتضي ذلك، ترغيباً في القتال، وفقه الواقع يجعل الحكم اليوم مختلفاً. ومثل ذلك يقال عن شرط النسب القرشي للخليفة أو رئيس الدولة الإسلامية في عصرنا اليوم، ذلك أن الاجتهاد المبني على فهم الواقع يفيدنا أن المسألة كانت متصلة بزمان نشأة الإسلام والظروف القبلية التي أحاطت به، ما يعني أن هذا الشرط ليس أبدياً10.
إن التصرفات النبوية في مسائل الإمامة، بما هي تصرفات بالسياسة الشرعية، تفتح باباً واسعاً لتجديد الفقه السياسي، وإعادة النظر -من زاوية جديدة- في كثير من قضاياه. كما تمكّن من إرساء وعي منهجي في مجال السياسة الشرعية، وإشاعته بين المشتغلين بالإحياء الإسلامي نظراً وتطبيقاً.
ومن الطروحات التي قررها "فقهاء الوسطية" الأساس الشرعي للدولة الذي يعود للأمة أو الشعب، وأكبر دليل على ذلك أن الرسول r نفسه توفي ولم يعين أو يوصي لأحد بعده بالحكم. فترك الأمر للناس، ليس فقط ليختاروا الشخص الذي يريدون، ولكن أيضاً بالنهج الذي يرتضون11.
ومفهوم الأمة، مفهوم سياسي وعقدي ذو مكانة خاصة في الفكر السياسي الإسلامي، باعتباره تجمعاً عقدياً قيمياً، ناجماً عن تفاعل أفراد ٍ من البشر مع مبادئ كلية وقيم عامة، تتجاوز الخصوصيات الطبيعية، التي تمايز بين الناس من لون أو عرق أو لغة أو إقليم. وهو لا ينفي أهمية الاعتراف بالروابط الإقليمية والقومية وتأثيرها على تكوين الهوية الفردية والتعاون الاجتماعي، لكنه يعتبرها روابط وسيطة لا ترقى -في أهميتها وقيمتها- إلى مستوى الرابطة العليا القائمة على وحدة المقصد والمعتقد، والمتمثلة في الوحدة الإسلامية التي تجمع الشعوب الملتزمة بالمبدأ الإسلامي، فالولاء النهائي للمسلم هو ولاء الأمة الإسلامية، لكنه ولاء لا ينفي قيام ولاءات ثانوية ترتبط على أساس قومي أو قطري.
كما أن مهمة الخلافة في الأرض مناطة في الحقيقة بالأمة الإسلامية، وليس بالحاكم المسلم، الذي يعتبر موظفاً مسؤولاً من قبل الأمة في تنفيذ ذلك. كما لا يصح اعتبار طريقة اختيار الخليفة ولا الإجراءات السياسية التي سادت العهد الراشدي فعلاً تأسيسياً يجب على الأجيال اللاحقة من المسلمين اتباعه12.
التعددية السياسية
يتفرع عن "النظرة الوسطية" لمفهوم الدولة "القبول" بالتعددية السياسية في ظل نظام إسلامي، كأصل من الأصول التي "تسلّم" بها المدرسة الوسطية في الفكر الإسلامي المعاصر، وهي تعني في جوهرها التسليم بالاختلاف حقاً للمختلفين. ويبقى بعد ذلك الوسائل التي "تبتدعها" الأمة لتحفظ لنفسها حقها في العيش تحت لواء القيم الإسلامية، ولتحول بين الحاكمين والاستبداد، وهذه الوسائل تختلف بداهةً من عصر إلى آخر13.
على هذا الأساس فلا مناص من قبول الأشكال الحديثة للتعبير عن حق الاختلاف؛ كالأحزاب السياسية، وحقها في المعارضة والموالاة، والتأييد والرفض، والتظاهر، والإضراب.
وحتى تكون المشاركة فاعلة ينبغي تطوير مؤسسة الشورى التي تجد جذورها في العهد الراشد، انطلاقاً من أن الشورى حق أصيل للأمة باعتبارها محل التكليف القرآني، لقوله تعالى: ﴿وأمرهم شورى بينهم14﴾، وباعتبارها محل مهمة الشهود، وهي التي تشكل الإرث النبوي للجماعة المسلمة.
ولتأصيل مبدأ "إلزامية الشورى"، لا بد من دراسة وتحليل الممارسات الشورية في العهد النبوي والراشدي، ومناقشة الأسس التي اعتمد عليها بعض الفقهاء والمفكرين الإسلاميين للقول بعدم إلزامية الشورى، على اعتبار أن هذا القول، أي عدم إلزامية الشورى، من شأنه تهديم كثير من المبادىء التي انبنت عليها النظرة الوسطية لمفهوم الدولة، وما يتفرع عنها من مسائل.
إن الفقه السياسي الإسلامي بحاجة اليوم، أكثر من أي وقت مضى، إلى المزيد من الدراسة والبحث من قبل العلماء وأهل الاجتهاد والمختصين، سيما أننا نرى في الأوساط الإسلامية طروحات متطرفة، يحاول مروجوها إسنادها إلى اجتهادات، سادت في عصور معينة – وهي ليست من أصول الدين على كل حال- من قبيل تقسيم الدنيا إلى دارين؛ دار سلم ودار حرب، وهو تقسيم انبنى على واقع العالم في ذلك الحين، ولم يعد يصلح لزماننا، والله تعالى أعلم.