مناقشة هادئة في ملاحظات نصر الله واقتراحاته للمحكمة الدولية
فادي شامية - - اللواء- السبت,3 نيسان 2010 الموافق 18 ربيع الآخر 1431 هـ
لا يزال التباين في النظرة إلى عمل المحكمة الخاصة بلبنان، قائماً بين القوى السياسية المختلفة، ما بين مؤيد ومشكك· فريق الرابع عشر من آذار أبدى منذ البداية ثقته التامة بكل ما يصدر عن المحكمة الدولية، والرئيس سعد الحريري كان حاسماً في تصريحه الأخير، عندما قال: "المحكمة ذات صدقية كبيرة بالنسبة إلى لبنان··· وسنقف بصرامة ضد أي محاولات لإجهاض المحكمة الدولية"· بالمقابل فقد شكّك "حزب الله”" وحلفاؤه على الدوام في عمل المحكمة، والإطلالة الحوارية الأخيرة للسيد حسن نصر الله، فصّلت ملاحظاته على التحقيق الدولي والمحكمة الدولية، وصولاً إلى إيراد نصر الله لجملة من "الملاحظات" تتبعها "اقتراحات" بهدف "ترميم الثقة" بالتحقيق الدولي· (رغم أنه قال:"هناك اعتبارات تجعلنا نتعاون" - وذلك أمر إيجابي- بغض النظر عن الملاحظات التي ذكرها).
ملاحظات نصر الله
في مقابلته، مساء الأربعاء الماضي، قال نصر الله: “نحن لدينا مجموعة ملاحظات أساسية حول موضوع لجنة التحقيق"
السرية:
يقول: "أي لجنة تحقيق يفترض أن تلتزم بالسرية؛ سرية الشهود، سرية التحقيقات، وهذا لم تلتزم به لجنة التحقيق نهائياً"· يضيف نصر الله: "أقول للسيد بلمار عندكم في مكتب المدعي العام، وفي المحكمة موظفون كبار وغير كبار··· يقومون بتسريب هذه المعلومات"، ومما لا شك فيه أن التسريبات تضر فعلاً بسمعة وحيادية لجنة التحقيق وبالمحكمة الدولية، خصوصاً إذا صدقت المعلومات المنشورة في الإعلام أو المتداولة في الصالونات السياسية، (وهذا لم يحدث دائماً، إذ توقّع كثيرون أموراً تتعلق بالضباط الأربعة، أو اتهامات سيحملها تقرير بلمار ما قبل قيام المحكمة الدولية، ولم تصح توقعاتهم، كما أن نصر الله نفسه ذكر في مقابلته الأخيرة أن كلاماً كُتب العام الماضي مفاده أن القرار الظني سيصدر خلال ثلاثة أسابيع، ولم يحدث ذلك!) لهذا شدد القاضي دانيال بلمار مؤخراً، وفي أكثر من بيان صادر عنه، على أن التحقيق الدولي غير معني بكل ما يُحكى في الإعلام، وتالياً فهو يتعامل معه على أنه غير موجود·
لكن اللافت في ما خص إثارة علاقة "حزب الله" بجريمة اغتيال الحريري مؤخراً أن حلفاء "حزب الله" الإعلاميين والسياسيين هم من سرّب المعلومات، وجعلها معلومة، فيما اعتبره متابعون خطة مدروسة من قبل الحزب نفسه، وقد نقلت صحيفة الشرق الأوسط عن مصدر في "حزب الله"، يوم الأربعاء الماضي: "أن التسريبات استبقت مخططاً كبيراً كان يجري التحضير له لاتهام الحزب بالضلوع فيها"، وفي كل الأحوال يستحسن التذكير بالوقائع الآتية:
1- أول من تكلّم مؤخراً عن سيناريو تحضّره المحكمة الدولية لاتهام "حزب الله" هو الوزير السابق وئام وهاب، حليف “حزب الله”· الرجل لم يذكر هذا التوقّع مرة واحدة، وإنما كرّره مرات ومرات، وصولاً إلى قوله إنّ المحكمة ستتهم عماد مغنية أيضاً، وكان وهاب نفسه أول من أطلع الرأي العام على استدعاء التحقيق الدولي لستة عناصر من “حزب الله” بصفة شهود·
2- تولّت جريدة الأخبار، القريبة من “حزب الله” في الأسبوع الأخير من آذار الماضي، تنظيم حملة مفادها أن المحكمة مسيّسة، وأنها تحضّر لاتهام “حزب الله” بالجريمة·
3- ذكرت محطة N.T.V القريبة من “حزب الله”، أنّ فريقاً من المحقّقين الدوليين طلب الاستماع إلى ستة عناصر من “حزب الله”، ذكرت المحطة أسماء أربعة منهم، هم: عبد المجيد غملوش، الحاج سليم، مصطفى بدر الدين، وقاسم سليمان·
4- أوردت محطة OTV التابعة للعماد ميشال عون، معلومات تفصيلية حول مفاوضات دارت بين لجنة التحقيق الدولي و”حزب الله” لإيجاد تسوية للموضوع· المحطة نفسها كانت قد كشفت في 23 آذار الماضي عن استدعاء المحكمة الدولية لشاهد، وأن هذا الشاهد قام بالتخفّي، حفاظاً على أمنه، لكن المحطة المذكورة، روت تفاصيل تخفّيه، والمسالك التي سلكها، في إشارة تتعدى التسريب، إلى شبهة التعامل مع جهة تراقب الشهود (كتبت صحيفة الأخبار في اليوم التالي تفاصيل ما أوردته OTV ).
5- تحدّث الوزير السابق ميشال سماحة، وفي عدة مرات في الأسبوعين الأخيرين، عن اتهام قريب لـ “حزب الله”، وقد توّج ذلك بكلام قاله بالتزامن مع مقابلة نصر الله الأخيرة، جاء فيه حرفياً: “هذه المحكمة تريد أن تُدخل الفتنة إلى لبنان”·
وعليه فإن التسريب المشكو منه، صادر في الحقيقة عن حلفاء “حزب الله” السياسيين، وليس عن جهة أخرى، خصوصاً أن نصر الله قال في مقابلته الأخيرة إن استدعاء عناصر من “حزب الله” للتحقيق لم يكن جديداً، وهو حصل في العام 2008، ولم يُثر أحد الموضوع حينها، ما يعني أن خصوم “حزب الله” السياسيين لم يوظّفوا المسألة سياسياً، إلى أن أعلنها المقرّبون من “حزب الله”، بتنسيق مع الحزب نفسه أو بدون تنسيق·
عدم المهنية:
يقول نصر الله: “عندما تريد (أي) لجنة تحقيق العمل بشكل مهني، على جريمة اغتيال غير واضحة، تضع كل الفرضيات··· ولكن لجنة التحقيق الدولية منذ اليوم الأول وضعت فرضية واحدة”·
في هذه الملاحظة يفترض نصر الله أن التحقيق الدولي اعتمد على سيناريو واحد فقط، فيستنتج أنه غير مهني، لكن كيف يستقيم هذا الافتراض، إذا كان المحقق الثاني سيرج براميرتس قد قال في تقريره الرابع، الصادر في كانون أول 2006، ما نصه: “إنّ اللجنة تواصل عملها على سيناريوهات عدّة، في فحصها لدوافع اغتيال الحريري”، وفي التقرير نفسه يذكر العديد من الدوافع التي تشير إلى جهات مختلفة· مع التذكير بأن سوريا وفريق الثامن من آذار، كان قد أثنى، في وقت سابق، على مهنية براميرتس، بل إن مندوب سوريا في مجلس الأمن حينها أشاد “بما تميّز به تقرير المحقق الدولي سيرج براميرتس من موضوعية وحرفية”، وكان وزير الإعلام السوري محسن بلال قال في 25/11/2006: “إن سوريا تثق بمهنية المحقق الدولي براميرتس”·
وإذا انتقلنا إلى تقرير رئيس المحكمة الخاصة بلبنان، القاضي الإيطالي أنطونيو كاسيزي، المرفوع إلى الأمين العام للأمم المتحدة نهاية شهر شباط الماضي، نقرأ: “إن مكتب المدّعي العام يواصل تحسين قدرته على إدارة واستثمار أكثر من 12 ألف دليل، و200 ألف صورة، وأكثر من 200 تقرير عن الأدلة الجنائية في مسارح الجرائم، من أجل استخدامها في عملية التحقيق والإجراءات القضائية”·
أضاف: “أُرسِل ما يزيد عن 240 طلباً للمساعدة إلى النائب العام التمييزي في لبنان، ونُظمت 53 مهمة ميدانية، كما وُجِّه أكثر من 60 طلباً للمساعدة إلى 24 دولة، في حين أُنجزَت 62 مهمة على أراضيها، وأُجريت مقابلات مع 280 شاهداً”، مؤكداً أن “الإدعاء لن يبدأ إلا بعد أن يُحضِّر مكتب المدّعي العام دعوى يمكن أن تصمد أمام التدقيق القضائي”، ويضيف كاسيزي أنه قد جرى “سحب بعض الأدلة والمعلومات غير الموثوق بها، بعد استعراضٍ مستفيض للمواد التي تمَّ جمعها طيلة فترة التحقيق”·
وعليه، وبما أن التحقيق الدولي يتحدث عن سيناريوهات عديدة، وبما أن رئيس المحكمة يقول إن المدعي العام سحب الأدلة غير الموثوق بها، فهذا يعني أن مكتب المدعي بات قريباً من إنجاز قراره الاتهامي، الذي يجب أن يكون قوياً ومتماسكاً ومدعماً بالأدلة، وعندها يتبين للسيد نصر الله وللعالم، ما إذا كانت المحكمة مهنية أم لا، أما طرح فرضيات لم تتأكد، والبناء عليها للحكم على المحكمة بعدم المهنية، فإنّ فيه مجازفة في الاتهام·
شهود الزور :
يتكرّر الحديث عن شهود الزور في الإعلام منذ مدة، دون أن يحدد الفريق الذي يتبنّى هذه النظرية من هم شهود الزور على وجه التحديد، وما هي الشهادات الحاسمة التي أدلوا بها، والأهم من ذلك، أن أحداً من هؤلاء، لم يقل للرأي العام دليله، على أن فلاناً من الناس كان شاهد زور، لأن هذا القول يفترض العلم بما أدلى به هذا الشاهد من جهة، والعلم بالحقيقة من جهة أخرى، وبما أن الشاهد المعني لم يقل الحقيقة فهو شاهد زور· فإذا كانت المحكمة نفسها لم تقل بعد إنها امتلكت الحقيقة كاملة، فكيف لمن هو خارج المحكمة أن يدّعي أن فلاناً من الناس كان شاهد زور؟! ألا تعتبر هذه النظرية من أساسها تدخلاً بشؤون المحكمة؟ أليس المنطق يفترض انتظار القرار الاتهامي للمحكمة، ليصار بعده إلى تحديد مَنْ أدلى بشهادة كاذبة، وفق السيرورة القضائية المعروفة؟ (عقوبة شهود الزور وفق قانون المحكمة الخاصة بلبنان - المواد 151 وما بعدها - هي سبع سنوات من السجن).
يقول هؤلاء إن محمد زهير الصديق، شاهد زور، وهو مسمى عندهم شاهداً ملكاً، (أياً من التقارير الدولية لم يُطلق عليه هذه الصفة).
قد يكون هذا الأمر صحيحاً، وقد لا يكون· المحكمة وحدها هي من يحدد، وأي كلام غير صادر عن المحكمة يعادل التسريب الذي يطعن بصدقية ومهنية المحكمة الدولية، وعليه، فإن الأجدى لسلامة التحقيق والمحاكمة انتظار القرار الاتهامي، ليتضح بعد ذلك من هي الجهات التي حاولت تضليل التحقيق؟!
الاعتقالات والصفقات:
من بين الملاحظات التي يوردها نصر الله في مقابلته الأخيرة على التحقيق الدولي “الطريقة التي تم فيها اعتقال الناس”، متسائلاً: “على أي أساس قامت؟ وعلى أي أساس بقي الناس في السجون”، وهو يقصد الضباط الأربعة، وموقوفين آخرين، وملاحظة نصر الله هذه جديرة بالتوضيح، فمن الناحية القانونية البحتة، ثمة فارق بين قانون أصول المحاكمات اللبنانية ونظام التقاضي في المحكمة الدولية، ما سمح بتوقيف هؤلاء كل هذه المدة، فالتوقيف استند إلى المادتين 108 و363 من قانون المحاكمات الجزائية، اللتين بموجبهما لا يـُقيّد القاضي في الملفات “ذات الخطر الشامل” والمحالة على المجلس العدلي، بمدة للتوقيف الاحتياطي، (وهو القانون الذي كان الضباط الأربعة قد ضغطوا لتعديله بهذا الاتجاه قبل استشهاد الحريري، فكان من موافقات القدر أن طُبّق عليهم!)· أما نظام المحكمة الدولية، فإنه يمنع التوقيف بلا مدة محددة· لذلك، وبعد قيام المحكمة، كان أمام المدعي العام القاضي دانيال بلمار أحد خيارين؛ إما اتهام هؤلاء وإما إطلاقهم·
يقول رئيس المحكمة الخاصة بلبنان أنطونيو كاسيزي في تقريره الأخير: “تنص المادة 4، الفقرة (2) من النظام الأساسي للمحكمة على أن تطلب المحكمة الخاصة من السلطات اللبنانية في غضون شهرين من تسلم المدعي العام مهماته، التنازل عن اختصاصها لكي تتخذ المحكمة قراراً بشأن اتهام الأشخاص الموقوفين في لبنان رهن التحقيق في قضية اغتيال الحريري أو إخلاء سبيلهم، فتقدم المدعي العام ? وهو كان قد تسلم مهماته في الأول من آذار 2009 ? فوراً في 25 آذار 2009، بطلب إلى قاضي الإجراءات التمهيدية، لكي يلتمس هذا الأخير من السلطات اللبنانية التنازل عن اختصاصها في هذه القضية· استجابت السلطات اللبنانية لهذا الطلب وأبلغت المحكمة أنه تم توقيف أربعة أشخاص في لبنان في إطار قضية الاعتداء على الحريري· وما بين 27 آذار و29 نيسان 2009، أصدر قاضي الإجراءات التمهيدية أربعة أوامر بشأن هذه المسألة، أدت، وفقاً لطلب المدعي العام، إلى إخلاء سبيل الأشخاص الأربعة الموقوفين بسبب عدم توافر ما يكفي من الأدلة لتبرير إبقائهم قيد الاحتجاز”·
هذا من الناحية القانونية البحتة، أما من الناحية السياسية، فقد جاء إطلاق سراح هؤلاء في أدق توقيت سياسي، عشية الانتخابات النيابية الأخيرة، وبما سمح للطرف الآخر من استغلال الحادثة سياسياً وانتخابياً، وفي ذلك دليل قاطع على عدم تسييس المحكمة الدولية، أقله ضد الجهة التي يمثلها “حزب الله”·
بقي الناحية الإنسانية وشبهة الظلم الذي أصاب هؤلاء، فهذا بدوره ينتظر صدور الحكم عن المحكمة الدولية، لأن الحكم النهائي ببراءة الضباط أو عدمه ليس من صلاحية المدعي العام أو قاضي الإجراءات التمهيدية، بل من صلاحية المحكمة الدولية، والمحكمة الدولية لم تصدر حكمها بعد، وعلينا الانتظار، وبعد صدور الحكم يبنى على الشيء مقتضاه، وهذا أفضل للعدالة، وللمُخلى سبيلهم، على السواء· تقرير كاسيزي: دلالات هامة جداً
إنّ المناقشة الهادئة أعلاه هي من قبيل توضيح ملابسات هذا الملف الشائك منذ بدايته، لكنها تبقى في إطار التوضيح والاستدلال، أما الكلام الفصل فسيصدر عن المحكمة نفسها، مدعّماً بالأدلة، كما يعد رئيسها القاضي كاسيزي·
ومن المعلوم أن التقرير الأخير كان قد نُشر في الإعلام الشهر الماضي، وحمل دلالات هامة جداً، ومن أهم النقاط التي جاءت فيه، أنه حسم صحة ما ورد في تقارير التحقيق الدولي السابقة، منذ ديتليف ميليس وحتى التقرير الأخير للقاضي دانيال بلمار، لجهة ترابط:
“الاعتداء الذي وقع في 14 شباط 2005 بالاعتداءات الأخرى”، أي أن الذي اغتال الرئيس الحريري هو نفسه من نفّذ جرائم الاغتيال والتفجير التالية!، ما يعني أن تحديد الجهة التي نفذت أو أدارت الجرائم في لبنان، باتت معروفة، وأن ما تقوم به لجان التحقيق منذ مدة، هو تدعيم الأدلة والقرائن، كي تكون قوية أمام التدقيق القضائي، وهذا ما عاد وأكده كاسيزي بقوله: “أحرز مكتب المدعي العام تقدّماً ملموساً في تحضير القضية التي سوف تُقدِّم مرتكبي الجريمة إلى العدالة، وقد تحقّق ذلك بالرغم من انضباط مَن يقفون وراء الاعتداء، وتطورهم”· وأن التحقيق “بات أكثر اقتناعاً بأن مرتكبي الاعتداء هم الأشخاص الذين استخدموا الشبكة المحددة” (المقصود الشبكة الهاتفية التي استُخدمت في الجريمة، وقد سبق للرائد في “شعبة المعلومات”، الشهيد وسام عيد أن فككها)، وأن “مرتكبي الاعتداء نفذوه بالاشتراك مع مجموعة أكبر”، وأن التحقيق “اقترب من تحديد هوية الانتحاري المشتبه به، من خلال حصر أصله الجغرافي وإعادة بناء ملامح وجهه جزئياً”·
وإذا كان الأمر كذلك فما علينا سوى الانتظار قليلاً لنرى “الأدلة والقرائن”، وما إذا كانت مقنعة أم لا، وما سيقوله المدعي العام، وكيف سيتعامل معه مكتب الدفاع، عندها يبين الخيط الأبيض من الأسود، وتأخذ العدالة المفترضة مجراها، ويرتاح كل الذين يطالبون اليوم بالحقيقة، ومن ضمنهم “حزب الله”، الذي لم يتهمه أحد في الداخل، وقد قال الرئيس سعد الحريري ? ومعه كل حلفائه - في نيسان الماضي: “أنا سعد الحريري··· أرحب بأي قرار يصدر عن المحكمة الدولية”·· هذا هو الموقف الأصوب··· والذي يمنع الفتنة فعلاً·