تقرير كاسيزي أقوى دليل على تقدّم عمل المحكمة الخاصة بلبنان:
حرارة القرار الاتهامي المنتظر تُسخن الأجواء اللبنانية الداخلية!
فادي شامية- الأمان
رغم توالي المؤشرات على تقدّم عمل فريق التحقيق الدولي، واقتراب المدعي العام من رفع قراره الاتهامي إلى المحكمة الخاصة بلبنان، وكثرة التسريبات الصحيحة وغير الصحيحة عن عمل هذا الفريق، إلا أن أقوى المؤشرات "الحقيقية" على هذا التقدّم يبقى التقرير، الهام جداً، الذي صاغه، رئيس المحكمة الخاصة بلبنان، القاضي الإيطالي أنطونيو كاسيزي، مطلع شهر آذار الماضي.
ماذا قال كاسيزي؟
في تقريره المرفوع إلى الأمين العام للأمم المتحدة، والبالغ 74 صفحة "فولسكاب"، قال كاسيزي: "إن مكتب المدّعي العام يواصل تحسين قدرته على إدارة واستثمار أكثر من 12 ألف دليل، و200 ألف صورة، وأكثر من 200 تقرير عن الأدلة الجنائية في مسارح الجرائم، من أجل استخدامها في عملية التحقيق والإجراءات القضائية" (ص 60). أضاف: "أُرسِل ما يزيد عن 240 طلباً للمساعدة إلى النائب العام التمييزي في لبنان، ونُظمت 53 مهمة ميدانية، كما وُجِّه أكثر من 60 طلباً للمساعدة إلى 24 دولة، في حين أُنجزَت 62 مهمة على أراضيها، وأُجريت مقابلات مع 280 شاهداً".
التقرير حسم صحة ما ورد تقارير التحقيق الدولي السابقة، منذ ديتليف ميليس وحتى التقرير الأخير للقاضي دانيال بلمار، لجهة ترابط: "الاعتداء الذي وقع في 14 شباط 2005 بالاعتداءات الأخرى"، أي أن الذي اغتال الرئيس الحريري هو نفسه من نفّذ جرائم الاغتيال والتفجير التالية!. مؤكداً أن "الإدعاء لن يبدأ إلا بعد أن يُحضِّر مكتب المدّعي العام دعوى يمكن أن تصمد أمام التدقيق القضائي" (ص 56)، ما يعني أن تحديد الجهة التي نفذت أو أدارت الجرائم في لبنان، باتت معروفة، وأن ما تقوم به لجان التحقيق منذ مدة، هو تدعيم الأدلة والقرائن، كي تكون قوية أمام التدقيق القضائي، وهذا ما عاد وأكده كاسيزي بقوله: "أحرز مكتب المدعي العام تقدّماً ملموساً في تحضير القضية التي سوف تُقدِّم مرتكبي الجريمة إلى العدالة، وقد تحقّق ذلك بالرغم من انضباط مَن يقفون وراء الاعتداء، وتطورهم" (ص 61). ويذكر كاسيزي أنه قد جرى "سحب بعض الأدلة والمعلومات غير الموثوق بها، بعد استعراضٍ مستفيض للمواد التي تمَّ جمعها طيلة فترة التحقيق". وأن التحقيق "بات أكثر اقتناعاً بأن مرتكبي الاعتداء هم الأشخاص الذين استخدموا الشبكة المحددة" (المقصود الشبكة الهاتفية التي استُخدمت في الجريمة، وقد سبق للرائد في "شعبة المعلومات"، الشهيد وسام عيد أن فككها)، وأن "مرتكبي الاعتداء نفذوه بالاشتراك مع مجموعة أكبر". وأن التحقيق "اقترب من تحديد هوية الانتحاري المشتبه به، من خلال حصر أصله الجغرافي وإعادة بناء ملامح وجهه جزئياً" (المعلوم من تقارير التحقيق السابقة أن اغتيال الحريري وقع عبر تفجير شاحنة مفخخة يقوده انتحاري عراقي الأصل- لا علاقة له بأحمد أبي عدس الذي راح ضحية الجهة التي دبّرت العملية- وأن الجهة التي نفذت كانت تدار لصالح جهة سياسية أخرى).
دلائل ميدانية أخرى
على أهمية تقرير كاسيزي، فإن ثمة العديد من الدلائل الميدانية الأخرى التي سجلها شهر آذار المنصرم، والتي تشير إلى تقلص المسافة بين المجرمين الحقيقيين، وبين الاتهام المدعّم بالأدلة الدامغة، إذ يبدو أن التحقيق الدولي قد دخل في المرحلة النهائية، التي يريد من خلالها استكمال وتدعيم قرار الاتهام، بأدلة قوية.
وقد لفت في هذا الإطار، وصول فريق من المحققين الدوليين مؤخراً إلى لبنان، في مهمة وُصفت بالخاصة، إضافة إلى تكثيف عمل لجان التحقيق في بيروت، واستماعها إلى المزيد من الشهود، بينهم عناصر من "حزب الله". ( كانت محطة N.T.V ذكرت الأسبوع الماضي أن فريقاً من المحققين الدوليين طلب الاستماع إلى ستة عناصر من "حزب الله"، ذكرت المحطة أسماء أربعة منهم، هم: عبد المجيد غملوش، الحاج سليم، مصطفى بدر الدين، وقاسم سليمان. وقد فصّلت محطة OTV بدورها المسألة فقالت إن مفاوضات دارت مع قيادة هؤلاء لإيجاد تسوية للموضوع).
وكانت صحيفة " L'Orient-Le Jour" اللبنانية قد ذكرت أن المحققين استمعوا إلى ناشر صحيفة السفير، طلال سلمان، والإعلامي في الصحيفة نفسها عماد مرمل. (كان الرئيس الحريري قد أعطى مرمل، قبيل اغتياله، تصريحاً، بهدف توضيح موقفه ودوره المفترض من القرار 1559 الصادر في أيلول 2004).
وإضافة إلى تكثيف الاستماع إلى الشهود، فإن فريقاً آخر من المحققين الدوليين، كان قد شرع الأسبوع الماضي، ولعدة أيام، في أخذ صور ثلاثية الأبعاد لمسرح الجريمة، وقد قالت الناطقة باسم مكتب المدعي العام في المحكمة الدولية راضية عاشوري: "إن هذا التصوير ضروري للتحقيق".
التسخين على حرارة القرار الاتهامي المرتقب
على وقع هذه التطورات، ثمة تسخين ملحوظ للسجال الداخلي المتعلق بالمحكمة الدولية. والحقيقة أن المواقف المتسارعة التي أطلقها الوزير السابق وئام وهاب، تارة للتحذير من اتهام "المقاومة"، وتارة للتنبؤ بأن القرار الاتهامي سيسمّي عماد مغنية متهماً في جريمة اغتيال الحريري، وصولاً إلى تهديده المبطّن لقوات "اليونيفيل"، فيما لو صدر قرار عن المحكمة يتهم "حزب الله"، كل هذه المواقف أسهمت في تسخين الأجواء مبكراً، على اعتبار أن المحكمة، لم تصدر أية إشارة تدين "حزب الله"، أو أي من قياداته، بل رفضت على الدوام تأكيد أو نفي أي من الكلام الإعلامي المثار حول هذا الموضوع. كما لم يتهم مؤخراً أي من الأطراف السياسية اللبنانية "حزب الله" أو غيره بالجريمة إطلاقاً.
إلا أن ذلك لا ينفي التباين في النظرة إلى عمل المحكمة، إذ لا يزال فريق كبير من اللبنانيين غير مؤمن بحيادية وموضوعية المحكمة المذكورة، حتى بعد إطلاقها الضباط الأربعة. ويعتبر هذا الفريق أن المحقق الأول ديتليف ميليس قد سيّس التحقيق وحرّفه، معتمداً على شهود زور، ومتعاوناً مع مجموعة من الشخصيات اللبنانية، (وأنه هو من سرّب رواية ديرشبيغل أيضاً)، وأن المحققين من بعده لم يتخلصوا من التسييس، وأن دانيال بلمار أمام امتحان لإثبات صدقية المحكمة من خلال "المسارات التي سيسلكها في التحقيق، وما يقدم من شهود ومن شهادات ومن معطيات" وفق تصريح الأمين العام لـ حزب الله في الأول من أيار 2009.
هذا الموقف كان قد عبّر عنه النائب من "حزب الله" علي فياض عندما قال قبل أيام - مستبقاً الإطلالة الأخيرة للسيد حسن نصر الله- "إن حزب الله سيتعاطى مع ما يُحكى عن تورّط عناصر منه في ملف اغتيال الرئيس رفيق الحريري على أنها موضوع رواية إسرائيلية". (وهو ما أوردته صحيفة الأخبار القريبة من "حزب الله" أيضاً قبيل إطلالة السيد نصر الله الأخيرة، حيث قالت إن "اتهام الحزب سيقود حتماً إلى 7 أيار سياسي"!).
وبالمقابل، فإن فئة واسعة جداً من اللبنانيين ما تزال تراهن على عدالة وحيادية المحكمة، ويمثل الرئيس سعد رفيق الحريري، عصب هذه الفئة، وهو قال قبل أيام بحسم واضح: "المحكمة ذات صدقية كبيرة بالنسبة إلى لبنان الذي طالب بقيامها...وهي تعمل جدّياً من خلال الإثباتات والحقائق". أضاف: "إن أي مس بأمن لبنان سيتلقّى ضربة من حديد من القوى العسكرية ومن حكومة الوحدة الوطنية. لا مجال للعب بأمن لبنان، وسنقف بصرامة ضد أي محاولات لإجهاض المحكمة الدولية أو المس بأمن لبنان".
هذا التباين، دفع العديد من المراقبين إلى التخوف على الوضع الأمني في لبنان، الذي يعيش هدنة سياسية وأمنية هشة، خصوصاً أن لموضوع المحكمة أبعاداً سياسية ومذهبية أيضاً. وإذا كان من المرجح –وفق الجميع- أن تتزايد بشكل مضطرد السجالات السياسية حول هذا الموضوع، إلا أن ما يعتبر أخطر من ذلك بكثير، حدوث إشكالات أمنية تخرّب الاستقرار النسبي للبلد، وتسعّر من الخلافات المذهبية بين اللبنانيين، عندها سيكون من الصعب التكهن بمسار الأمور.