ملاحظات حول هيئة الحوار الثالثة: الظروف لا تسمح بتوقّع إنجازات
المستقبل - الجمعة 12 آذار 2010 - العدد 3592 - شؤون لبنانية - صفحة 6
فادي شامية
في 2/3/2006 انعقدت طاولة الحوار الأولى بدعوة من الرئيس نبيه بري. هذه الطاولة انتجت توافقاً إجماعياً على موضوعات؛ المحكمة الدولية، ونزع السلاح الفلسطيني خارج المخيمات وتنظيمه داخلها، وترسيم الحدود مع سوريا. لكن ما تلى من مواقف وأحداث أظهر أن التوافقات كانت ظاهرية أكثر منها حقيقية. فمحاولات إعاقة قيام المحكمة الدولية استمرت لحين قيامها وفق البند السابع من ميثاق الأمم المتحدة. وترسيم الحدود مع سوريا ونزع السلاح الفلسطيني خارج المخيمات لم يُنفّذا بعد، رغم مرور نحو أربع سنوات، بل ثمة من حاول في الجلسة الأولى لـ"هيئة الحوار"، بنسختها الثالثة، نقض الاتفاق حول السلاح الفلسطيني خارج المخيمات!. ومع أن نتائج طاولة الحوار الأولى لم تكن مشجعة، إلا أنها أخّرت الصدام الحاد بين اللبنانيين (الذي عاد ووقع عام 2008).
في 16/9/2008 دعا الرئيس المنتخب ميشال سليمان إلى عقد طاولة الحوار الثانية، بأعضائها الـ14 الذين شكّلوا هيئة الحوار الأولى، لمناقشة البند الوحيد المتبقي، وهو سلاح "حزب الله"، الذي يُبحث في إطار ما سُمي "الاستراتيجية الدفاعية". ولم تـُفضِ هذه الطاولة إلى اتفاق، لكنها أسهمت في تكريس أجواء التهدئة.
في 9/3/2010، وبعد إجراء انتخابات نيابية جديدة، انعقدت "هيئة الحوار الوطني" بدعوة من الرئيس ميشال سليمان، الذي أجرى تغييرات في أسماء المشاركين رافعاً العدد إلى 19 مشاركاً. ولم يكن يتوقّع أي من المشاركين، ولا المتابعين، ولا المواطنين، أي مفاجآت؛ فموازين القوى، والظروف الإقليمية والمحلية لا تسمح بتوقع أي نتائج. ومع ذلك يبقى الحوار أفضل من عدمه، خصوصاً أن الموضوع المطروح لا حل له إلا بالحوار.
ملاحظات حول الحوار (3)
وإذا كان من الصعب توقّع نتائج عملية للحوار في المدى المنظور، فإن ذلك لا يمنع من إيراد جملة ملاحظات حول النسخة الثالثة من الحوار الوطني.
الملاحظة الأولى: هي رفض الحوار حول "الاستراتيجية الدفاعية" من الأساس، من قبل مجموعة "أصوات" حليفة لـ"حزب الله"، وصولاً إلى حد التهجّم على صاحب الدعوة للحوار، أي رئيس الجمهورية. فالرئيس عمر كرامي أعلن عدم تشرّفه بالحوار مع "مجرم". والوزير السابق عبد الرحيم مراد أبدى استغرابه لـ"الأسلوب المشبوه الذي اختير فيه أعضاء طاولة الحوار". كما وصف الوزير السابق وئام وهاب "هيئة الحوار" بـ"الكرنفال الذي عُقد وسُمي مؤتمراً للحوار"، أضاف: "هذا اللقاء لن يصدر عنه شيء، لا اليوم ولا غداً ولا بعد مئة سنة!.. هناك أمور أخرى تهم اللبنانيين أكثر من أن تسمع موقف هذا الشخص أو ذاك من موضوع المقاومة"!. بدوره قال الوزير السابق عاصم قانصوه: "ما يُسمى بهئية الحوار الوطني لا اعتبرها هيئة حوار، (وهي جاءت) بناءً على طلب الأميركيين وبان كي مون، وقد حصلت لإلهاء الشعب اللبناني وهي تضم بعض الأشخاص المؤيدين لخط الإسرائيلي والأميركي في البلد". أما "الرفيق" كمال شاتيلا فقد أعلن من بيت الرئيس السابق إميل لحود: "أن الهيئة منحازة"!. ويأتي كل هذا الكلام مع أن التعديلات التي أدخلها الرئيس سليمان على هيئة الحوار تضمّنت - للمرة الأولى- إدخال ثلاثة من أشرس المدافعين عن سلاح "حزب الله" هم النواب: أسعد حردان وطلال إرسلان وسليمان فرنجية!.
الملاحظة الثانية: هي الترحيب اللافت من فريق 14 آذار بإعادة إطلاق الحوار، وتجاوز هذا الفريق ملاحظاته الجدية التي كان قد طرحها، من قبيل عدم تمثيل كتلة زحلة بالقلب، وعدم تسمية الشيخ بطرس حرب في عداد الهيئة، وعدم إشراك ممثل لجامعة الدول العربية، وصولاً إلى الكلام الإيجابي الذي قاله أقطاب هذا الفريق خلال الجلسة الأولى (مداخلة الدكتور جعجع مثلاً)، وذلك من أجل تأمين أجواء مريحة لحوار بنّاء.
الملاحظة الثالثة: هي تأكيد "حزب الله" على لسان مسؤوليه على تحييد سلاحه عن أي بحث، وتركه المجال لحلفائه كي يطرحوا موضوعات أخرى بهدف تشتيت الحوار عن هدفه، علماً أن الرئيس نبيه بري نفسه كان قد أعلن بعد انتخاب العماد سليمان، في 20/8/2008، ما يأتي: "تم انتخاب الرئيس، وبقي موضوع الاستراتيجية الدفاعية الذي يجب أن يكون الموضوع الأساسي والأول على طاولة الحوار... وإن الاستراتيجية الدفاعية هي التي سيتم في إطارها بحث قضية سلاح حزب الله، التي ستؤدي حتماً الى بحث أمور أخرى".
طروحات تفرغ الحوار من مضمونه!
وإذا كانت مواقف الأطراف المعنية بالحوار معروفة سلفاً، وإذا كان من حق كل طرف إبداء الحجج التي تدعم موقفه، إلا أن الحوار (3) شكّل مناسبة لإطلاق عددٍ من "الأطروحات الاستبعادية" للحوار نفسه، إذ مؤدى أي من هذه الطروحات حسم نتيجة الحوار سلفاً. أهم هذه الأطروحات ثلاث:
الاستراتيجية الدفاعية لا تعني البحث في السلاح: يقول الوزير محمد فنيش إن "المطروح على طاولة الحوار كيف نستفيد من الإمكانات التي أثبتت التجربة أنها قادرة أن تحمي الوطن وتحرر الأرض وتصد العدوان، (وليس) ما يريد البعض إيحاءه بأن المشكلة في سلاح المقاومة، وبأننا نذهب إلى طاولة الحوار لنعرف متى ننزع هذا السلاح". ووفق الوزير فنيش - وغيره من قيادات "حزب الله"- فإن المطروح على طاولة الحوار تحت عنوان الاستراتيجة الدفاعية هو مباركة "التجربة التي أثبتت أنها قادرة أن تحمي الوطن" وبحث سبل تعزيزها، وذلك خلافاً لجميع المداولات التي أفضت إلى إطلاق مصطلح "الاستراتيجية الدفاعية" عام 2006، -انطلاقاً من أن "حزب الله" يقول إن هذا السلاح هو للدفاع عن لبنان-، وخلافاً لما دأب "حزب الله" نفسه على إعلانه من أنه لا يجوز الحديث عن السلاح إعلامياً لأن مجال البحث به هو طاولة الحوار. وخلافاً للمنطق أيضاً، إذ كيف يتحاور المتحاورون حول استراتيجة دفاعية، لا حوار فيها على "السلاح الدفاعي" لجهة حق الإمرة عليه؟. وأي استراتيجية دفاعية هذه التي تبحث في السياسة، والاقتصاد، والطائفية، وأي شيء... إلا السلاح؟
لا ضرورة لبحث قرار السلم والحرب لأنه بيد إسرائيل: يستبعد الحليف الاستراتيجي لـ"حزب الله"، ميشال عون، أي بحث في قرار السلم والحرب انطلاقاً من أن: "قرار السلم والحرب بيدّ إسرائيل المُعتدية دائماً وليس بيدّ الحكومة أو حزب الله". نقطة الارتكاز في طرح عون أن إسرائيل كيان معتدٍ، أما مؤداه فهو بقاء فريق مسلح خارج المؤسسات الدستورية للدولة اللبنانية، وتالياً عدم جدوى البحث فيمن يملك قرار السلم والحرب؛ الدولة أم "حزب الله". لكن إذا كان صحيحاً أن إسرائيل كيان معتدٍ دائماً، فإن غير الصحيح أبداً تخلّي الدولة عن قرار الدفاع وتوقيته وأسلوبه إلى حزب أو فريق في الوطن، لمجرد وجود دولة معتدية على الحدود، وإنما الصحيح هو تنظيم الدولة - أي دولة- لسياسة الدفاع (السلم والحرب). وبمعنى أكثر عملية، فإن "أطروحة" عون تعني أنه يجب على أي دولة اعتدت عليها إسرائيل أن تتخلى عن جزء من سيادتها لصالح جهةٍ مُقاوِمَة. وإذا كان الحال كذلك؛ كيف يفسر عون احتفاظ الدولة السورية - وهي محقة على كل حال - بحقها في الرد على اعتداءات إسرائيل عليها (الاعتداءات الجوية الأخيرة مثلاً) في الزمان والمكان المناسبين!. أليس من مقتضيات إدارة الصراع أن تقرر الدولة - أي دولة - متى تحارب ومتى تسالم، مستفيدة من كل عوامل القوة لديها، أم أن لبنان حالة خاصة بين الدول؟.
عدم جواز مناقشة موضوع السلاح في ظل التهديدات الإسرائيلية: هذه العبارة كرّرها غير متحدث، على اعتبار أن هذا النقاش يشكّل خدمة مجانية لإسرائيل. لكن وبما أن إسرائيل دولة معتدية على طول الخط، فمعنى ذلك أن لا إمكانية لبحث موضوع السلاح على طول الخط!، في حين أن المنطق يقتضي الإسراع في بحث وضع السلاح خارج الدولة، مع تزايد التهديدات الإسرائيلية لا العكس، لسبب بسيط، هو أن التهديدات تطال الدولة اللبنانية نفسها، والبنية التحتية التي يستفيد منها الجميع في البلد، فكيف تكون الدولة مسؤولة من جهة، وهي لا تملك السلطة على السلاح من جهة أخرى؟. ثم هل أن وضع كل المقدرات الدفاعية في تصرف الدولة -التي يشارك فيها الجميع، خصوصاً في ظل حكومة التوافق الوطني الحالية-، تجريد للبنان من قوته؟ أم أنها قوة للبنان؟ أليست الشراكة الوطنية تعني حكماً الشراكة في أحد أخطر الملفات وهي السياسة الدفاعية؟. ثم أليس ارتباط هذا السلاح بدول إقليمية من شأنه - بالحد الأدنى- أن يطرح إمكانية التعارض بين المصلحة الوطنية والمصالح الإقليمية، فمن يقرر - والحال هذه - متى تبدأ مصلحة لبنان ومتى تنتهي؟ فئة من المواطنين أم جميع المواطنين وفق مبدأ الشراكة الوطنية؟.
في السياق نفسه، ثمة ملاحظة جديرة بالاهتمام، إذ ثمة توجه واضح لتوصيف الحوار حول السلاح باعتباره بحثاً في نزعه، بما يوحي لـ"مؤيدي السلاح" بوجود رغبة في تجريد "حزب الله" من سلاحه ورميه في البحر خدمةً للعدو، في حين أن المطروح فعلياً هو البحث في حق الإمرة على هذا السلاح، بما يحفظ قوة لبنان ويفتح المجال أمام الجميع ليشاركوا في الدفاع عن بلدهم، من جهة، ويطمئن جميع اللبنانيين لجهة الأدوار الداخلية والإقليمية للسلاح، من جهة أخرى. هذا هو بالضبط جوهر الموضوع الممنوع مناقشته الآن، مع أنه النقاش الوحيد الذي يخدم البلد ومستقبله... قبل فوات الأوان.