يستكمل إعادة تموضعه وزيارة الشام محطة قد لا تكون الأخيرة :
جنبلاط: حماية الدروز أولاً
فادي شامية
منذ السابع من أيار 2008 وحتى اليوم، لا يزال الزعيم الدرزي وليد جنبلاط في حالة استدارة تدريجية، لإعادة التموضع، في موقع وسط - حتى الآن-، وبهدفٍ واضحٍ وأكيدٍ هو حماية الدروز أولاً، وحماية السلم الأهلي في لبنان ثانياً، بعدما اشتم رائحة البارود والنار، من الجبل إلى بيروت.
يمثـّل وليد جنبلاط نموذجاً للسياسة البراغماتية، ليس لأنها تقدّم المصالح على العواطف والمبادئ فقط، بل لأن الرجل مستعد أن يتحمل شخصياً أي إضرار أو "إذلال" قد يلحق به، وذلك من باب التضحية من أجل الوطن أو الجماعة!.
من وجهة نظر جنبلاط فإن المصلحة تقتضي منه في هذه المرحلة أن يسير على "درب الجلجلة"، وأن يعود إلى شعارات ظن متابعو حركته أن الزمن قد عفا عليها، وأن يتجاوز مشاعر جماعته، وحسابات حلفائه... وحتى قناعاته الشخصية!.
الارتباك الواضح في تصريحات جنبلاط الأخيرة، يعكس لديه عدم قناعة مخبوءة في كثيرٍ مما يقوم به "مضطرا"ً، بل ثمة مواقف ظاهرها يحمل فكاهة يتميز بها الرجل، وباطنها يحمل دلالات لا تخلو من ذكاء؛ على سبيل المثال لا الحصر؛ حديثه لـ "الأخبار" عن تحوّل الدروز والمسيحيين إلى "هنود حمر" في لبنان وأنه مسلّم بذلك خلافاً للمسيحيين، وتصريحه المتعلق بتحوّل الدروز إلى أسماك "جربيدي" عندما يتفاهم "الكبار"، والمسلسل الذي كتبه قبل أيام في صحيفة الحزب عن "وادي الذئاب اللبناني" حيث تغلب فيه المحسوبية والفساد (مستلهماً اسم مسلسل تركي يتحدث عن الإجرام الصهيوني)!
ثمة من يعتقد أن الزعيم الدرزي يخسر في السياسة بعدما بالغ في دفع أثمان عودته عن تموضعه السابق، وأنه يتحمل أكثر مما ينبغي في عملية "جلد الذات"، وأن الآخرين قد "تطاولوا" عليه، وزادوا من شروطهم، حتى قال أحدهم إن عدم إعلانه الندم على ما فات يقطع عليه الطريق إلى الشام!. وقال آخرون إن طريق دمشق تمر ببعبدا (منزل الرئيس السابق إميل لحود)، بعد خلدة (طلال إرسلان)، والضاحية (حزب الله)، والجاهلية (وئام وهاب) والرابية (ميشال عون)، فضلاً عن مصالحة "الحزب السوري القومي" في قلب الجبل.
"استشعارات" جنبلاط تقرأ من بعيد عاصفة إقليمية آتية، (مواجهة مع إيران، انتكاس في العلاقة السورية-السعودية، عدوان إسرائيلي على لبنان...) وأن الوضع اللبناني الهش سوف لن يصمد أمامها، وهو لا يريد للدروز أن يدفعوا ثمن ذلك، سيما بعدما رأى بأم العين استخدام السلاح في الداخل، وكيف كاد أن يُدخل البلد في حرب أهلية، سيكون الدروز فيها معزولين، في حال استمرت القطيعة مع الشام.
وباستدارته تلك، حاول الرجل أن يغازل حليفه اللدود نبيه بري، على أمل أن يخرج الأخير من حلفه مع "حزب الله" ويشكّل مع جنبلاط كتلة وسطية مؤثرة. فعَلها جنبلاط في 2 آب الماضي وأعلن من البوريفاج (منطقة المخابرات السورية السابقة) أنه خارج "فريق 14 آذار". صفّق له حليفه الرئيس بري، وحيّاه على شجاعته، لكنه بقي حيث هو، ولم يتقدم خطوة واحدة بعيداً عن الفريق السياسي الذي ينتمي إليه!.
لعل ذلك زاد من إحباط جنبلاط حتى وصل به الأمر إلى القول مؤخراً: "من أجل الحفاظ على السلم الأهلي سأضحي بكل شيء، بغض النظر إذا كانت القرارات شعبية أم لا. على المرء أن يذهب أحياناً عكس السير... الوراثة السياسية (طبيعية) هذا هو لبنان. لا اعتقد أن لدى تيمور خياراً غير الاستمرار بتحمل المسؤولية...أما أنا فقد اشتري منزلاً صغيراً في النورماندي (فرنسا) أو النرويج وأعكف على كتابة مذكراتي... أود أن أرى ذلك يتحقق، لكنني أود أيضاً، إذا ما انتقلت يوماً إلى النورماندي، أن أرى المختارة في أيدٍ أمينة مع ابني"!.
غير أن "سياسة الانحناء" هذه، أنجزت شيئاً ربما يغفل عنه كثيرون. فقد استطاع جنبلاط إعادة لمّ شمل "الإمارة الدرزية" تحت خيمته، مرسماً حدودها في مهرجان الشويفات الأخير. وهكذا يمكن القول إن السابع من أيار وما بعده قد رسم بـ "الدم" حدود الجبل مع الضاحية الجنوبية (المنطقة الغربية)، وإن جنبلاط قد اعترف لغريمه طلال أرسلان بقطاع غربي-ساحلي من النفوذ في خلدة، وإنه قد ترك منطقة نفوذ أصغر لوئام وهاب في الجاهلية، وإنه احتفظ لنفسه -ولتيمور من بعده- بقيادة عليا في المختارة، وصار الجميع متعاهداً على نصرة بني معروف من أي خطر، مع ارتفاع لافتٍ في حرارة العلاقة بين جنبلاط وأرسلان، وصل إلى حد البحث بإعادة توحيد مشيخة عقل الطائفة، بـ"إخراج مشرف"!.
قد لا تعجب مواقف جنبلاط كثيرين، ولا سيما من أبناء طائفته وحزبه، لكن الرجل يبقى الأكثر جرأة في خياراته ومراجعاته، وهو لا يقيم بالاً للعواطف أبداً. ثمة كلمة واحدة قالها جنبلاط قبيل خروجه من الرابية، تختصر كل ما سبق. فقد سأله أحد الصحفيين عن المحطة القادمة من المصالحات في إشارة إلى زيارة محتملة إلى منزل الرئيس السابق إميل لحود، فأجاب وليد بيك، مع تنهيدة معبرة: "كفى"!.