من الانتخابات النيابية وحتى اليوم:
من يـُؤثِـر مصلحة البلد ومن يستأثر لمصلحته؟!
فادي شامية
في 11-11-2007، وفي ذروة الجدل السياسي حول انتخاب رئيس جديد للجمهورية، قدّم السيد حسن نصر الله اقتراحاً بإجراء انتخابات نيابية مبكرة، على أن يسلم الفريق الخاسر بنتائجها، ويكف عن إعاقة الفريق الذي يمتلك أغلبية، ولو مطلقة -أي دون الثلثين-، بل ويساعده على امتلاك أغلبية الثلثين التي يحتاج إليها في القضايا الكبرى أو المصيرية!. نصر الله قال يومها: "تعالوا نتعاهد ونقول؛ نجري انتخابات مبكرة ونلتزم. من يحصل على الأغلبية المطلقة الحقيقية، تسلّم له الأقلية من الآن. أنت حقك أن تنتخب الرئيس، ونحن ننزل إلى المجلس ونكمل لك نصاب الثلثين لتختار الرئيس الذي يعبّر عن (الأغلبية)".
كان نصر الله حينها يعتبر أن الأغلبية النيابية وهمية، وهي ستسقط في أول انتخابات، ففي الخطاب نفسه قال: "هم فازوا بالتزوير والخداع وبالوعود. هؤلاء النواب خدعوا الناس. كذبوا على الناس. غرروا بالناس فأخذوا وسرقوا أصواتهم... تعالوا لنجري انتخابات صادقة، شفافة واضحة، لا أحد يخدع الآخر، ولا أحد يزور على الثاني".
في 7 حزيران الماضي جرت الانتخابات، فتبين أن نظرية "الأغلبية الموهومة" التي استند إليها نصر الله لتبرير شلّ البلد لمدة عامين تقريباً، لم تكن إلا وهماً، إذ جددت الغالبية النيابية نفسها بانتخاباتٍ، لا حلفاً رباعياً فيها، كما في السابق، ولا خداع أو تزوير. لكن نصر الله الذي كان مستعداً لإكمال نصاب الثلثين للأغلبية "لتختار الرئيس الذي يعبر عنها"، على ما في ذلك من أهمية، بات غير مستعد على ترك حكومة الأغلبية تعيّن محافظاً أو موظفاً من الفئة الأولى، من خلال اجتراحه نظرية جديدة هي نظرية: "المشاركة الفاعلة"، التي تعني حصول فريقه الخاسر في الانتخابات على "الثلث المعطل" في أية حكومة قادمة!.
من الواضح اليوم أن كلام نصر الله السابق لم يكن إلا مناورة، هدفها دفع الغالبية النيابية للتنازل مسبقاً عن أغلبيتها، والقبول بإجراء انتخابات مبكرة، كان نصر الله يعتقد أن فريقه سيفوز فيها. ولعل هذا الاعتقاد استمر من حينها إلى منتصف ليل 7-8 حزيران 2009، أي إلى حين كذّبت الأرقام كل أطروحات، وإحصاءات، وخطابات، وتأكيدات النصر الموهوم.
وعلى رغم أن "تيار المستقبل" وحلفاءه كانوا متهمين من قبل "حزب الله" وحلفائه بالاستئثار بالسلطة، إلا أن هذا الفريق كان واضحاً في موافقته على أن يحكم الفريق الآخر منفرداً وبلا إعاقة إن فاز في الانتخابات، في حين كان "حزب الله" أكثر حيطة بعرضه الثلث المعطل على "14 آذار" في حال خسرت الانتخابات، وبذلك يضمن لنفسه المطالبة بهذا الثلث إن خسر هو – أي "حزب الله"- الانتخابات، وهو ما حصل فعلاً.
وعلى رغم أن الانتخابات كانت بين مشروعين مختلفين، أحدهما يمثله فريق 14 آذار والآخر يمثله فريق 8 آذار، إلا أن نتائجها في العمق أظهرت انقساماً إسلامياً حاداً، إذ صوتت غالبية ساحقة من الشيعة لصالح تحالف "أمل"-"حزب الله"، فيما أيدت الغالبية الساحقة من السنة "تيار المستقبل" بزعامة سعد الدين الحريري. وبما أن لبنان بلد توافقي، فقد أعلنت الغالبية النيابية -وهي في شقها الإسلامي ذات غالبية سنية- رغبتها في تشكيل حكومة ائتلاف وطني، بحيث تتمثل الطوائف ولا سيما الشيعة، من خلال تحالف "أمل" –"حزب الله"، وليس من خلال شخصيات شيعية في "تيار المستقبل" أو قريبة منه. أما في الشارع المسيحي فقد بدا الحرص على تمثيل مسيحيي الثامن من آذار واضحاً، وإن كانت مشكلة التمثيل المسيحي أقل حدة، على اعتبار أن الشارع المسيحي مقسوم بالتساوي تقريباً ولا يمكن نزع صفة التمثيل عن الشخصيات المسيحية المحسوبة على فريق الرابع عشر من آذار.
أيام قليلة مضت بعد الانتخابات وجاء استحقاق انتخاب رئيس جديد لمجلس النواب. آثرت الغالبية النيابية مصلحة البلد، واحترمت قرار "الكتلة الشيعية"، التي أعلنت الرئيس نبيه بري مرشحها الوحيد. وهكذا تنازلت الغالبية عن صفتها الدستورية كغالبية نيابية، وتصرفت بروحية ميثاقية بعيداً عن حسابات الأقلية والأكثرية المعروفة في الأنظمة الديمقراطية، وانتخب "تيار المستقبل" -بالدرجة الأولى- الرئيس نبيه بري، وهو الركن الركين في فريق الثامن من آذار، احتراماً منه للعيش المشترك، ولرغبة طائفة كبرى في لبنان. غير أن أهم ما في هذا الموضوع أن انتخاب بري جاء بلا قيد أو شرط، وبلا تعهد من قبل بري بإدخال تعديلات على نظام مجلس النواب تعطل إمكانية إقفاله مرة ثانية، وحتى بلا أية مقايضة في ملف الحكومة!.
عندما جاء استحقاق تكليف رئيس جديد للحكومة تنكّر القسم الأكبر من فريق الثامن من آذار لإيجابية ما قامت به الغالبية النيابية في انتخابها للرئيس بري، فلم يسم سوى 15 نائباً من هذا الفريق سعد الحريري لتشكيل الحكومة، (هم الفارق بين من سمى الحريري- 86 نائباً- وبين أغلبية فريقه النيابية)، وقد جاءت تسميتهم له مشروطة بـ"حكومة وحدة وطنية"، علماً أن الحريري يمثل الغالبية الساحقة في الشارع السني، فضلاً عن كونه مرشح الأغلبية النيابية!. كان هذا الموقف بمثابة خطوة سلبية في حال الاحتقان السني-الشيعي الراهن، وقد كانت له آثار مؤسفة في شوارع بيروت. غير أن الأهم هو أن فريق الثامن من آذار، وبـُعيد تكليف الحريري تشكيل الحكومة راح يضع شروطاً عليه، فقسم يطرح النسبية في تشكيل الحكومة، وقسم يتحدث عن "المشاركة الحقيقية" أي بثلث معطل، وقسم يحاول تدوير الزوايا بالعودة إلى صيغة الوزير الملك!.
المخاطرة بالبلد لم تقف هنا، فقد أراد بعضُ الثامن من آذار تبرير ارتمائه في الحضن السوري بتسويق فرية الانقلاب على تفاهم سوري- سعودي قضى بزيارة الحريري إلى دمشق قبل تشكيل الحكومة، وقد أطلق البعض الآخر في فريق الثامن من آذار بناءً لذلك "بروباغندا" تهدف إلى خلق هوة بين "14 آذار" وجمهورها، بما ينسف نتائج الانتخابات النيابية. كان الواضح أن ثمة من أراد إذلال الحريري ثمناً لتسهيل تشكيله الحكومة، وثمة من منّى النفس بذلك، واستعجل الشماتة بناخبي "تيار المستقبل" على وجه التحديد، فأخذ يقول: هذا هو زعيمكم، لقد اعترف بأن خياراته كانت فاشلة، فأقر بحكم التاريخ والجغرافيا، أي بالعودة إلى الحضن السوري!.
إن من يتواضع رغم تحقيقه فوزاً كبيراً في الانتخابات (بفارق 14 نائباً وليس كما كان يروّج البعض من أن الفوز إن حصل فسيكون بأغلبية نائب أو اثنين) ويعلن التزامه بـ"حكومة وحدة وطنية تتمثل فيها الكتل النيابية الرئيسية، بحيث تكون متجانسة وقادرة على العمل والإنتاج"، وإن من يتنازل عن غالبيته النيابية، احتراماً لطائفة أرادت غالبيتها الساحقة الرئيس نبيه بري رئيساً لمجلس النواب، فينتخبه بلا شروط، لا يمكن إلا أن يكون مؤثراً مصلحة البلد على نفسه. أما المستأثر فهو من يحوّل أقليته النيابية إلى كتلة تعطيلية في كل استحقاق أو موقف، ويفرض من خلالها شروطاً على الفريق الآخر.
لعل المواطن البسيط يدرك اليوم أن بث أجواء التفاؤل الظاهر، ليست إلا إسلوباً يتبعه الرئيس المكلف لترك البلد يتنفس بعيداً عن الأزمات، ولكن هذا المواطن يدرك أيضاً أن أجواء التفاؤل هذه لا تستند إلى أسس حقيقية، وأنه إذا ما استمرت المراوحة في تشكيل الحكومة، فسنكون أمام أزمة سيتأثر بها الشارع، وستعزز إذاك أجواء الاحتقان المذهبي، وأن الخاسر سيكون لبنان... مرة جديدة.