حكم المسلمون الهند منذ أن فُتِحت على يد الغزنويين سنة 392هـ / 1001م، وتتابعت الدول في حكمها فترة بعد فترة، حتى ألقت بمقاليدها إلى الأسرة المغولية؛ فنهضت بأعباء الحكم، وأقامت حضارة شاهدة على ما بلغته من تقدم وازدهار، ثم وفد الإنجليز إلى الهند تجارا، فأكرم الحكام المسلمون وفادتهم، وساعدوهم في تجاراتهم، وشيئًا فشيئًا اتسع نفوذهم، وعهد إليهم الحكام المسلمون القيام على بعض الأعمال، ولم يكن وجودهم خطرا يهدد الدولة في فترة قوتها، حتى إذا ضعفت أسفر الإنجليز عن وجههم القبيح، وسيطروا على الهند، وعلى حكامها المسلمين الذين بلغت دولة الهند في عهدهم مبلغا كبيرا من الضعف والجهل وانتشار الفساد واللهو.
وبعد وفاة السلطان المسلم أورانكزيب عالمكير رحمه الله أصيبت الدولة المغولية بنكسة على إثر وفاته، وظهر للعيان أن صرح المجد الإسلامي لا يمكن أن يقوم ويستقر على كتف ملك حازم مثل عالمكير فقط، بل لا بد من الوعي الإسلامي الصحيح بين عامة المسلمين، وذلك لا يتأتى إلا بإصلاح نظام التعليم وترويج العلوم الإسلامية والاعتناء بتربية جيل جديد يتزود من العلم النافع ويتحفز للعلم الصالح ويتفانى في سبيل خدمة الإسلام وإصلاح حال المسلمين.
تلك هي المهمة الكبرى التي انبرى لها الشاه ولي الله الدهلوي، فإنه هو الذي بذل مجهودات جبارة لإحياء العلوم الإسلامية وأسس مدرسة تخرج منها علماء جاهدوا في سبيل الله بأموالهم وأنفسهم، كما أنه اتخذ خطوات جريئة لبث تعاليم الإسلام بين الجماهير المتمرغين في الجهل والمحرومين من التوجيه الديني الصحيح، وكذلك وجه النصح للأمراء والحكام داخل البلاد وخارجها بغية دعم روح الائتلاف بين المسلمين، ومع أنه لم ينجح في الحقل السياسي، إلا أنه هو الذي أنقذ الأمة الإسلامية في الهند من الانهيار الخلقي إلى جانب الانحلال السياسي.
نسبه
علّامة الهند، بل عالم عصره ومحدِّثه، والمجتهد المسند المصنِّف، شيخ الإسلام، قطب الدين، أبو محمد الشاه أحمد ولي الله بن عبد الرحيم بن وجيه الدين الشهيد بن معظم بن منصور بن أحمد بن محمود بن قوام الدين المعروف بقاضي قاذن، العُمري الدهلوي. المشهور بـ " شاه ولي الله الدهلوي".
ينتهي نسه رحمه الله إلى عمر بن الخطاب الفاروق رضي الله عنه من جهة الأب، وإلى الإمام موسى الكاظم رحمه الله من جهة الأم، فأم جدّه وجيه الدين حسينية النسب.
مولده
ولد الإمام شاه ولي الله الدهلوي في بَهلْت (فَلْت) بمدينة دهلي بالهند في يوم الأربعاء (14 من شوال 1114هـ/ 2 من مارس 1703م) قبل وفاة السلطان أورانك زيب عالمكير (أحد سلاطين دولة المغول المسلمين في الهند) بأربع سنوات.
أسرته ونشأته
ولد الشاه ولي الله في أسرة نبيلة تنتمي إلى عمر الفاروق من جهة الأب وإلى الامام موسى الكاظم من جهة الأم، ونشأ في بيت علم وصلاح؛ وقد ذكر عن نفسه أن جده الثالث عشر واسمه شمس الدين قدم إلى الهند في بداية الفتح الإسلامي، وتوطن فيها، وأقام مدرسة، وتولى منصب الإفتاء، ولم يزل هذا المنصب في أولاده يتوارثونه جيلًا بعد جيل، وهذا يدل على أنهم كانوا من أهل بيت علم وأئمة هدى.
كان أبوه الشاه عبد الرحيم أحد العلماء الكبار الذين اشتركوا في تدوين الموسوعة الفقهية المسماة "الفتاوي العالمكيرية"، على المذهب الحنفي، التي أشرف السلطان أورنجزيب على إخراجها. إلا أنه كان بالطبع نفورا من بلاطات الأمراء، فأبى أن ينخرط في الخدمة الحكومية، وآثر العزلة في بيته، والعكوف على التدريس في المدرسة الرحيمية التي لعبت دورا هاما في تربية النشء الجديد وبث الوعي الإسلامي الصحيح بين الطبقات الشعبية.
وبكّر في الطلب وهو ابن خمس، وحفظ القرآن ابن سبع، وأخذ العلوم عن والده الشيخ عبد الرحيم، وقرأ عليه الرسائل المختصرة بالفارسية والعربية، وشرع في شرح الكافية للعارف الجامي وهو ابن عشر سنين، وتزوج وهو ابن أربع عشرة سنة، وقرأ تفسير البيضاوي، وأجيز بالدرس وفرغ من التحصيل وهو في الخامس عشر من سنه، وتوفي أبوه سنة 1131هـ / 1719م، وكان أحمد ولي الله في السابعة عشر من عمره.
وانصرف إلى دراسة اللغتين الفارسية والعربية، وتلقى علوم القرآن والحديث والفقه على المذهب الحنفي على أكابر علماء الهند، كما درس الطب والحكمة، والمنطق والفلسفة، ومال إلى الزهد والتصوف في هذه الفترة المبكرة، وأمدته هذه الروح الشفافة بطاقة هائلة، وإقبال على العبادة والطاعات، ونزع الله من قلبه حب الدنيا وزينتها؛ فالتفت القلوب حوله وأطلق عليه الناس "شاه ولي الله"؛ أي ولي الله الكبير.
جلوسه للتدريس
وبعد وفاة والده في سنة (1131هـ / 1719م) جلس للتدريس على كرسي الرئاسة بالمدرسة الرحيمية التي كان أبوه يشرف عليها ويرعاها، وهو في هذه السن المبكرة، يشفع له نبوغه وتمكنه من العلوم الشرعية، فأقبل عليه طلاب العلم يتلقون على يديه الفقه والحديث.
رحلته للحج
إلا أن حب الاستزادة من العلم والاطلاع على أحوال العالم الإسلامي في الخارج جذبه إلى الرحلة، فرحل بعد ذلك في طلب العلم والحديث، وغادر دهلي ثامن ربيع الثاني سنة 1143هـ، فذهب لرحلة الحج، وبعد أن قضى مناسكها، لازم الحرم المكي وجاور هناك. ومعه خاله وابنه محمد عاشق، وغيرهما من أصحابه، فأقام بالحرمين عامين كاملين، وقرأ على علمائهما، واستفاد منهم، وطالع كتبًا كثيرة، منها كتب الحديث، وآثار شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله.
وفي بلاد الحرمين كانت دعوة الشاه ولي الله الدهلوي إلى تطهير الدين من أدران البدع والتخفيف من حدة الخلافات المذهبية في الأحكام الجزئية والتخلي عن التعصبات الطائفية، وقد وجد الشاه ولي الله من العلماء الذين اتصل بهم أثناء إقامته بالحرمين الشريفين تأييدا لفكرته وتقوية لنزعته إلى تجديد العلوم الإسلامية؛ بغية الإصلاح الديني وتوحيد صفوف المسلمين في ميادين العمل المختلفة. وقد أيقن الشاه ولي الله بضرورة العمل الجدي في هذا الصدد إلى حد أنه رأى رسول الله صلى الله عليه وسلم في المنام يكلفه بهذه المهمة الشريفة ويبشره بالنجاح في إصلاح حال الأمة، فكانت النتيجة أنه رفض ما تقدم به إليه أقاربه من النصح بإطالة مدة إقامته بالحجاز هربا من الاضطرابات في الهند، وآثر الرجوع إلى وطنه ليساهم حسب طاقته وجهده في إصلاح الأحوال. فعاد لبلاده محملًا بزاد كبير، وصقلت علومه، واتسعت مداركه، ورجع إلى دهلي في رابع عشر رجب سنة 1145هـ/ 1722م.
وبدأ يمارس مهام منصبه كرئيس للأساتذة في المدرسة الرحيمية، وكانت أول مدرسة تهتم بتدريس الحديث هناك، واشتهر أمره، وكثرت تلاميذه، وارتحلوا إليه من أنحاء الهند وخارجها، وضاقت بهم المدرسة، فمنحه الملك السلطان محمد شاه مدرسة كبيرة وأوسع داخل دهلي، فانتقل إليها وافتتحها بنفسه، واشتهرت باسم "دار العلوم"، تخرج فيها أعداد كبيرة من العلماء ممن حملوا علم الشيخ، ونشروه بين الناس. إلا أن همه كان منصرفا إلى التجديد وإحياء الدين والنهوض بالأمة الإسلامية نهضة كي تقوى على قمع الأعداء قبل فوات الأوان والاستمرار في حياة العز والكرامة. وبورك له في جهوده، ونشر العلم والإرشاد والتصنيف إلى أن توفي، وانتشر به العلم والحديث والاهتمام بهما في دياره، وجدد معالم الإسلام هناك، ورزقه الله بذريته طيبة أكملت المسيرة من بعده.
وكان من عادته أن يقرأ مقرئه عليه كل يوم ركوعًا من القرآن وهو يفسّره، وكان آخر دروس الشيخ ولي الله: {اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى} [المائدة: 8]، ومن هناك شرع ابنه عبد العزيز، وآخر دروسه كان: {إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ} [الحجرات: 13]، ومن هناك شرع سبطه إسحاق بن أفضل.
شيوخه
ويعد والده الشيخ عبد الرحيم أبرز مشايخه: الذي كان عالمًا جليلًا وفقيهًا، وكانت قد انتهت إليه الرئاسة في علم الحديث في عصره، فاهتم بتعليم ابنه وتربيته منذ الصغر، ودرس على أبيه معظم الكتب. قال المترجم آخر رسالته القول الجميل (ق30/أ طوكيو): "وأما العلوم الظاهرة من التفسير والحديث والفقه والعقائد والنحو والصرف والكلام والأصول والمنطق: فقد تعلمنا من سيدي الوالد رضي الله عنه".
ومنهم محمد أفضل السيالكوتي: المحدّث في دهلي، كان يختلف أثناء الدراسة على والده، فانتفع به في الحديث، وحصل على إجازته، وأجاز له مشكاة المصابيح وصحيح البخاري وغيره من الصحاح الست. ومنهم أبو طاهر محمد بن إبراهيم الكردي المدني: هو عمدته في الراوية وعلم الحديث. ومنهم عمر بن بن أحمد بن عقيل السقاف، سبط عبد الله البصري، قرأ عليه أول السنن الكبرى للبيهقي، وكذلك قرأ عليه طرفًا من مسند الشافعي. ومنهم التاج محمد القلعي المكي: ذكر في الإتحاف أنه سمع منه أطراف الستة والدارمي وموطأ محمد والآثار، وأجازه عامة.
دوره في التجديد العلمي والفكري
وقد جاء العلامة الدهلوي في وقت كانت الدولة الإسلامية في حالة لا تختلف كثيرًا عن الحالة التي تمر فيها هذه الأيام، من حيث التشتت وضعف الهمة، وهيمنة الأعداء عليها وتداعيهم عليها كتداعي الأكلة إلى القصعة، ومحاولتهم تقاسم خيرات المسلمين، فكانت حالة الهند تزداد حالتها سوءا، والحكام يزدادون ضعفا، والبدع والخرافات تفتك بعقول الناس، والإنجليز يمسكون بأزمّة الأمور بعد أن رسخت أقدامهم، فتحركت نفسه إلى الصدع بالحق، ونصح الحكام، والأخذ بأيدي الناس إلى طريق الإصلاح، ولم ينصرف إلى التأليف والتدريس ويترك الناس حيارى لا دليل لهم.
وكان المحدث شاه ولي الله الدهلوي إمامًا في العلوم النقلية والعقلية، وكانت صفاته التي تدل على الفهم والذكاء وعلو الهمة ظاهرة بشدة، وكان صادق الفراسة، وكان العصر الذي عاش فيه عصرا مليئا بالفوضى والاضطرابات، حيث تعرضت "دلهي" للعديد من الغارات والحوادث المؤلمة، فجعل الشيخ يوجه رسائله إلى الأمراء ينصحهم بالاستقامة والثبات على الحق، والتعاون على الخير في صد العدوان، والدفاع عن الإسلام والمسلمين. كما دعا الناس عامة وأمراء المسلمين خاصة إلى الاعتصام بحبل الله تعالى، وإلى نبذ الفرقة والتفرق، وإلى ترك العصبية المذهبية، ووضح لهم الاعتقاد الصحيح الذي يجب أن يعتقدوه، والفقه السليم الذي يجب أن يسيروا عليه، وحاول بكل همته أن يرجع قطار الإسلام إلى سكته التي ينبغي أن يكون عليها، وقد كانت دولة الهند في ذلك الوقت قد انفرط عقد الإسلام فيها، وبدأ الهندوس والسيخ يسيطرون على كل شيء، ولم يبق في أيدي المسلمين إلا القليل القليل.
وقد اهتم العلامة شاه ولي الله بالعقيدة، وجعلها نصب عينيه، ولم يقتصر جهدًا في نشر الاعتقاد الصحيح المستمد من القرآن والسنة، تبليغه لكل من استطاع، لأنه كان يرى أن العقيدة الصحيحة هي الأساس المتين الذي يمكن أن تجتمع حوله كل تلك الفرق، وكل تلك الطوائف، وبدون هذه الاعتقاد يصعب تجميع المسلمين وتوحيدهم، ومن هنا فقد جعل الشيخ ولي الله التوحيد هو أساس دعوته، ثم تابع تلاميذه هذه المسيرة، وقاموا بتطبيق حركة الإصلاح والجهاد التي قادها الإمام المجدد سيد أحمد عرفان الشهيد، والشيخ محمد إسماعيل الشهيد، وأتباعهم من بعدهم، الذين وقفوا في وجه الاستعمار، وقاوموه، وثبتوا في أرض المعارك، وثبتوا في صد هجماتهم بكل أنواعها، والتي من أهمها التشكيك والتشويه، ووقف في وجه المعتقدات الوثنية والباطلة، وهاجم المنكرات والبدع، وقد كانت تلك المعتقدات الفاسدة منتشرة بشدة في تلك البقاع، وقد وضح الكثير من جهوده في هذا المضمار في العديد من كتبه، كـ "الفوز الكبير" الذي جعله في مخاصمة أعداء دعوة الإسلام من الطوائف الضالة الأربع، وهم المشركون، واليهود، والنصارى، والمنافقين.
واهتم العلامة ولي الله كذلك بالقرآن الكريم، حفظًا وتفسيرًا، وألف كتابه فتح الرحمن في ترجمة القرآن، وركز اهتمامه بتدريس القرآن وتفسيره، ولم يكن في الهند قبل ذلك ترجمة للقرآن الكريم إلى اللغة الفارسية، فكانت ترجمته فاتحة باب عظيم لنشر علوم القرآن، وتفاسيره، فاقتدى به تلاميذه من بعده، وقاموا بترجمة العديد من الكتب الإسلامية إلى اللغة الفارسية، ثم الأردية بعد ذلك.
واهتم كذلك بالأحاديث والسنة النبوية الصحيحة، ودعا إلى ضرورة التزام حركته التجديدية بالأحاديث الشريفة، وضرورة جعلها دائما نصب أعينهم، واهتم بحفظ المتون، وضبط الأسانيد، والاطلاع على دواوين الحديث، حتى أصبحت ترد إليه أسانيد رواية الحديث لجميع العلماء المحدثين في تلك البلاد، فأصبحون عنه يروون, وإليه يسندون، فقام بتأسيس منهجًا جديدًا يعنى بالحديث وعلم الحديث، حيث اختار تدريس الحديث على منهج العلماء المتقدمين الأوائل، رواية ودراية، وكان قد آتاه الله تعالى العديد من أسرار علم الحديث والتي وضع بعضها أو الكثير منها في كتابه "حجة الله البالغة".
وسعى شاه ولي الله الدهلوي إلى إصلاح التصوف، وأنكر على الكثير من طرقهم، وشطحاتهم، ورد عليهم، ووقف أمامهم، ودحض الكثير من اعتقاداتهم، ونصحهم بالوقوف مع تعاليم القرآن الكريم والسنة النبوية الصحيحة، وعدم السير خلف مشايخ الطرق الضالين، الذين يخدعون الناس بالطلاسم وغيرها. ودعا الشيخ إلى التصوف السني القائم على الاعتقاد والعمل بما جاء في الكتاب والسنة، وجرى عليها جمهور الصحابة والتابعين، وقام بتنقية التصوف من الشوائب، التي لحقت به من الفلسفات غير الإسلامية، وإبراز الجانب الإسلامي فيه. ودلهم على معنى التزكية والزهد والتصوف الصحيح السليم الخالي من البدع والشطحات والخرافات.
ونادى ولي الله الدهلوي بفتح باب الاجتهاد وعدم التقيد بآراء الفقهاء الأربعة، وذكر أن أبا حنيفة نفسه قال: "لا ينبغي لمن لا يعرف دليله أن يفتي بكلامه"، وقال الإمام مالك بأنه "ما من أحد إلا وهو مأخوذ من كلامه ومردود إلا رسول الله"، وكذلك ذهب الشافعى والإمام أحمد بن حنبل. فقد ساهم الدهلوي في عملية إصلاح الجمود الفقهي، والتعصب المذهبي، ودعاهم إلى الاعتصام بالكتاب والسنة، واعتبارهما مصدر العقائد والفقه، وكان الشيخ الدهلوي يتمسك بالمذهب الحنفي، لأنه هو المذهب الذي كان منتشرًا في تلك البلاد، إلا أنه كان يدعو إلى ضرورة الاهتمام بالدليل، وتناول مسائل الاجتهاد والتقليلد، وأصول التشريع الإسلامي، وكتب عددًا من المصنفات في هذا الجانب، مثل التفهيمات الإلهية، والإنصاف في سبب الاختلاف، وعقد الجيد في أحكام الاجتهاد والتقليد، والمسوى والمصى شرحي الموطأ، وغيرها من المصنفات القيمة في هذا الجانب. ودعى المسلمين إلى عدم الوقوف خلف مذهب فقهي واحد، ودعا إلى أن لا تكون هذه المذاهب الفقهية أو المذهبية سببا في فرقة المسلمين، بل ينبغي أن يكون هدفها تخفيفًا وتسهيلًا وتيسرًا لهم لا تضييقا وتشديدًا عليهم. ودعا إلى ضرورة التسامح في المسائل الاجتهادية، وعدم جعلها سببًا للفرقة والقطيعة بين المسلمين، ودعا إلى محاولة التوفيق بين المذاهب بأن يكون مرجعهم جميعًا هو الكتاب والسنة.
كما اهتم حكيم الأمة شاه ولي الله الدهلوي بمسألة الخلافة، وكان يرى أنها الرياسة العامة في التصدي لإقامة الدين بإحياء العلوم الدينية وإقامة أركان الإسلام، والقيام بالجهاد، وما يتعلق به من ترتيب الجيوش، وإقامة الحدود، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، ورفع المظالم، وتحدث عن شروط الخليفة، وما يجب عليه من القيام بمصالح المسلمين، وتحدث عن الخلفاء الراشدين، وعن تاريخ المسلمين منذ ذلك الوقت إلى وقته الذي عاش فيه، وتحدث عن أن إقامة الخلافة وإثباتها أصل من أصول الإسلام. وتحدث عن أسباب انحطاط المجتمع الإسلامي بعد عصر الخلفاء الراشدين، وتحدث عن الفتن، وعن الأحكام المخصوصة بزمان الفتنة، وعن الأحاديث النبوية التي تتحدث عن أخبار آخر الزمان.
وتحدث عن رأيه من فرقة الشيعة، وقال: إن عقيدتهم تنافي عقيدة سيدنا محمد خاتم الأنبياء والمرسلين، ذلك أنهم يدعون حب آل البيت، ويسبون الصحابة، ويطعنون في نسائه عليه الصلاة والسلام، ويعتقدون بالإمام المعصوم، وهم باعتقادهم هذا ينكرون ختم النبوة، وإن كانوا يقولون بألسنتهم أن الرسول صلى الله عليه وسلم خاتم الأنبياء والمرسلين.
منهجه في الإصلاح السياسي
لم يصرف الإمام شاه ولي الله الدهلوي نظره تماما عن المآسي والمهازل التي كانت تمثل أمامه على المسرح السياسي، فلم يكن من دأبه أن ينتظر الزعامة الجديدة لإصلاح الأحوال السياسية بعد فوات الأوان، بل بذل كل ما في وسعه لوضع حد للفساد قبل أن يتسع الخرق على الراقع، إنما كان جل اعتماده في تغيير الأوضاع السياسية على لسانه وقلمه.
وبما أنه لم يرد أن يثير العداوة والبغضاء بين الطبقات، ولم ييأس تماما من الخير في طبقة الملوك والأمراء حتى ليشن حربا شعواء عليهم ويقود الثورة ضدهم، بدأ بتوجيه النصح إلى كل من آنس فيه رشدا من الملوك والأمراء المعاصرين له، فبعث برسائل مطولة إلى الأمراء ونواب الملك، أمثال النظام أي العامل بالدكن (منطقة الجنوب)، ونجيب الدولة، يوقظهم من سباتهم وينبههم على أخطائهم ويقول لهم كلمة الحق ويصدع بأوامر الشرع ويذكرهم بواجبهم، وينير أمامهم السبل لأنقاذ المة الإسلامية من الوضع المؤلم الذي كانوا هم ورطوها فيه، وقد كان لمساعيه صدى في أوساط الأمراء والحكام، ولاسيما لأنه لم يسألهم عليها أجرا، ولم يطلب تنحية أحد منهم من منصبه، بل ضمن لهم البقاء إذا هم أخذوا بأسباب القوة وتفانوا في سبيل الإسلام وأصبحوا يدا واحدة ضد الأعداء في الداخل والخارج.
إلا أن الشاه ولي الله قدر في نفسه أن الأمر فيما يتعلق بالأمراء المحليين قد أصبح عسيرا، وأن الماء قد بلغ الزبى، فرمى ببصره إلى الخارج عسى أن يجد من الملوك المسلمين من يهب لنصرة الإسلام في الهند، فاختار من بينهم أحمد شاه الأبدالي وعقد عليه الآمال واتصل به ليطلعه على ما يلاقيه المسلمون من ذل وهوان في الهند، وما هم فيه من التشتت والضعف وما ينتظر لهم من الويل والثبور، فكان أحمد شاه الأبدالي عند حسن ظن الشاه ولي الله، حيث كانت عنده فكرة واضحة عن دور العلماء في الحياة القومية، فإن مهمتهم الأولى هي الدرس والتدريس وترويج العلوم الشرعية وبث التعاليم الإسلامية بين الشعوب لتهيئة الجو اللازم للعمل بالروح الدينية الخالصة في جميع ميادين الحياة، وبالتالي تقديم النصح وكلمة الحق أمام الأمراء والقواد ودعوتهم إلى العمل لإعلاء شان الإسلام وتقوية المسلمين، أما المناصب الإدارية والقيادة العسكرية فليس من شأن العلماء وربما يخل بوظيفتهم الأولى، تلك هي الخطة التي سار عليها الشاه ولي الله في الإصلاح السياسي الى أن اضطر أتباعه الى التدخل في السياسة تدخلا مباشرا.
وقد أثرت جهود الشيخ الإصلاحية في تلامذته، وعلى رأسهم ابنه الشاه عبد العزيز، الذي كان كوالده نابغًا في الحديث والفقه، فحمل راية أبيه بعد وفاته، ووقف للإنجليز حين أخذوا يستبدون بالأمر، ويقلصون سلطات الحاكم المسلم، وأطلق الكلمة المأثورة: "إنه لا يُتصوَّر وجود ملك مسلم بدون نفوذ، إلا إذا تصورنا الشمس بدون ضوء!"، وهو صاحب الفتوى الشهيرة بأن الهند أصبحت دار حرب لا دار إسلام، وعلى المسلمين أن يهبوا جميعا للجهاد بعد أن أصبح إمام المسلمين لا حول له ولا قوة، ولا تنفذ أحكامه، والحل والعقد صار بيد الإنجليز المسيحيين، يعينون الموظفين، ويدفعون الرواتب، ويشرفون على القضاء وتنفيذ الأحكام.
وكان لصيحات مدرسة "شاه ولى الله الدهلوي" أثر؛ حيث قاد العلماء الجهاد، وخاضوا غمار الحروب والمعارك لإنقاذ المسلمين من الإنجليز، ومن السيخ الذين لقوا دعمًا من المحتلين، ومن أبرز هؤلاء العلماء أحمد عرفان الشهيد الذي تتلمذ على الشاه عبد العزيز الدهلوي وأخيه عبد القادر ابني ولي الله الدهلوي.
وأما الجهاد فقد كان له الموقف المشرّف والإسهام الكبير في حث الأمير نجيب الدولة لتحريك الجيوش لنصرة المسلمين ضد الكفرة المرهتة الذين شكلوا أكبر خطر على الحكومة الإسلامية في الهند، وكاتب الملك أحمد شاه القندهاري، فجرّد جيوشه، وهزمهم هزيمة منكرة في باني بت سنة 1174هـ، وذُكر أنه قتل منهم مائتي ألف، ولم تقم لهم قائمة بعدها.
مؤلفاته
لا شك أن ولي الله الدهلوي قد زود المكتبة الإسلامية بعدد وافر من المصنفات المهمة القيمة التي تمتاز بسلاسة العبارة، والفهم الصحيح لمقاصد الشريعة الإسلامية، في ضوء القرآن والسنة النبوية، والتي ذكرنا بعضًا منها، وكان السبب في مثل هذا النضوج والوعي هو طول المدة التي قضاها في الدراسة والتدريس، وكثرة العلماء الذين أخذ عنهم ودرس عليهم أصناف العلوم الشرعية، والذين كان من أهم وأكثرهم تأثيرًا عليه، والده الشيخ عبد الرحيم الدهلوي رحمه الله تعالى.
ويعد شاه ولي الله الدهلوي من ألمع العلماء الذين أنجبتهم القارة الهندية، وقد كان لمدرسته الفكرية دور مهم في إظهار الإسلام وانتشاره في تلك المنطقة، ولا تزال مؤلفاته التي تتميز بغزارة معانيها، وقوة حجتها، مرجعًا مهمًا لأصحاب التخصصات على اختلافهم، الفقهاء وأهل الحديث والتفسير وغيرهم، ولا تزال حركة الإصلاح التي بدأها تنير الطريق للعلماء جيلًا بعد جيل، حتى يومنا هذا.
وللشاه ولي الله مصنفات أخرى كثيرة كلها تهدف الى الفهم الدقيق المباشر لأصول الشريعة الإسلامية من القرآن والسنة، ومما يذكر في هذا الصدد أن العلماء في عصره انما كانوا يعتمدون على الفقه وحفظ المسائل الفرعية بدون ان يرجعوا إلى الأصول فلذلك كانوا جامدين متحجرين غير مسايرين لتقدم المجتمع، فكان من نتيجة الحركة العلمية الشاملة التي أسسها الشاه ولي الله ورسم معالمها عن طريق مصنفاته مثل "الفوز الكبير في أصول التفسير"، و"الانصاف في سبب الاختلاف"، و"عقد الجيد في الاجتهاد والتقليد"، كان من نتيجتها أن نشأ علماء مجتهدون واجهوا الأحوال الواقعية بحزم واناة، وقد أثمرت الحركة العلمية هذه فيما بعد ثمارا طيبة في حقل السياسة والجهاد بالسلاح حتى استطاعت الأمة الإسلامية في الهند أن تصمد لهجات السيخ والطوائف المعادية الأخرى وتكون فكرة لم تزل تختمر منذ ذلك الحين في إنشاء دولة إسلامية خالصة في أرض الهند ولا سيما المناطق الشمالية منها.
ورغم صعوبة حصر جهود ومؤلفات حكيم الأمة الإمام ولي الله الدهلوي، إلا أننا سنحاول الوقوف على أهم المحطات والأعمال التي قام بها المحدث شاه ولي الله الدهلوي، والتي من أهمها كتابه: "حجة الله البالغة"، وكتابه: "إزالة الخفاء عن خلافة الخلفاء"، وغيرها.
فللشيخ ولي الله الدهلوي مؤلفات كثيرة جدًا، وفي كل المجالات الشرعية، وقد زادت عن سبعين كتابًا، وكان قد ألف بعضها باللغة العربية، وبعضها الآخر باللغة الفارسية، ثم تم ترجمة جميع هذه المؤلفات إلى اللغتين جميعًا، ومن مؤلفاته على سبيل المثال لا الحصر: الفوز الكبير في أصول التفسير، وفتح الخبير بما لا بد من حفظه في علم التفسير، وتأويل الأحاديث في رموز قصص الأنبياء، والدر الثمين في مبشرات النبي الأمين، والنوادر من أحاديث سيد الأوائل والأواخر، وغيرها الكثير والكثير.
ونقف على أهم كتبه وأشهرها:
- "حجة الله البالغة في أسرار الحديث وحكم التشريع"، وقد طُبع في الهند سنة (1286هـ/ 1869م)، ثم طُبع في مصر بعد ذلك في سنة (1294هـ/ 1877م)؛ وهو ما يدل على اتصال الحركة العلمية في مصر بغيرها من البلاد الإسلامية.
- "الإنصاف في بيان سبب الاختلاف"، وهو يتناول مباحث في أصول الفقه ونشأة المذاهب الفقهية وتعددها في الفقه الإسلامي.
- و"عقد الجيد في أحكام الاجتهاد والتقليد"، عرض فيه لكثير من الأحكام المتعلقة بالاجتهاد.
- "الفوز الكبير في أصول التفسير"، تكلم فيه عن الأشياء التي لا بد لمن يقوم بالتفسير أن يلم بها؛ حتى يكون على بينة من أمره حين يعرض لآيات القرآن الكريم.
- و"المسوَّى والمصفَّى في أحاديث الموطأ"، شرح فيه أحاديث الكتاب، وبيّن فيه ما تعقبه العلماء على الإمام مالك بإشارة لطيفة.
- وترجم القرآن إلى الفارسية بعنوان "فتح الرحمن في ترجمة القرآن".
ولي الله الدهلوي واللغة العربية
كان الشاه ولي الله الدهلوي موقنا بأن عماد النهضة العلمية الدينية هو اللغة العربية لا غير، وفعلا أسهم بنصيب وافر في الأدب والشعر، وله شعر بالعربي، فكأنما الإعجاز أو السحر في رقة اللفظ ومعناه وصفاء المورد ومغناه وهاكم أنموذجا من شعره في مدح النبي صلى الله عليه وسلم يقول:
يؤيد دين الله في كل دورة *** عصائب تتلو مثلها من عصائب
فمنهم رجال يدفعون عدوهم *** بسمر القنا والمرهفات القواضب
ومنهم رجال بينوا شرع ربنا *** وما كان فيه من حرام وواجب
ومنهم رجال يدرسون كتابه *** بتجويــد ترتيـل وحفظ مراتب
ومنهم رجال فسروه بعلمهم *** وهم علمونا مـا بـه من غرائب
ومنهم رجال بالحديث تولعوا *** وما كان منه من صحيح وذاهب
على الله رب الناس حسن جزائهم **** بما لا يوافي عده ذهن حاسب
ثناء العلماء عليه
قال شيخه أبو طاهر الكوراني في إجازته له: "العلامة الأوحد، والفهامة الأمجد، الحبر الذي لا يبلغ الفحول شأوه في مضمار البيان الخطير، والجهبذ الحائز قصب السبق في ميادين التقرير والتحرير، الوارث للكمالات عن أسلافه الكرام ذوي التقريب، البالغ في شبيبته من الكمال ما لا يبلغه الشيب".
وقال ابنه الشاه عبد العزيز في بستان المحدثين: "شيخنا وقدوتنا في كل العلوم والأمور الشيخ ولي الله الدهلوي". وقال صديق خان في أبجد العلوم: "مسند الوقت الشيخ الأجل".
وقال محسن الترهتي في اليانع الجني: "إمامنا ومولانا وحجتنا ومقتدانا، قدوة الأمة، وصدر الأئمة ..، هو المفسّر المحدّث الفقيه العارف، لسان الحقائق والمعارف، رئيس المحدّثين، وريحانة الفقهاء المبرزين، صدر الأئمة، وحجة الأمة، متقن العلوم وباقرها ونحريرها، جامع خصال الخير الذي تهللت به أساريرها".
وقال عبد الحي الحسني في نزهة الخواطر: "الشيخ الإمام الهمام، حجة الله بين الأنام، إمام الأئمة، قدوة الأمة، علامة العلماء، وارث الأنبياء، آخر المجتهدين، أوحد علماء الدين، زعيم المتضلعين بحمل أعباء الشرع المتين، محيي السنة، وعظمت به لله علينا المنة، شيخ الإسلام، قطب الدين".
وقال عبد الحي الكتاني: "كوكب الديار الهندية .. كان هذا الرجل من أفراد المتأخرين علما وعملا وشهرة، أحيا الله به وبأولاده وأولاد بنته وتلاميذهم الحديث والسنة بالهند بعد مواتهما، وعلى كتبه وأسانيده المدار في تلك الديار، والمترجم والله جدير بكل إكبار واعتبار".
وعدّه الألباني في أحكام الجنائز من كبار العلماء المحققين المعروفين باستقلالهم في الفهم، وتعمقهم في الفقه عن الله ورسوله، وأحد الأفاضل.
تلامذته
أبناؤه محمد، وعبد العزيز، وعبد القادر، وأخوه أهل الله، وابن خاله محمد عاشق الفلتي، وأبو سعيد بن محمد ضياء البريلوي، وأحمد بن أبي أحمد الدهلوي، وأمين الله العظيم آبادي، وتهور علي النكينوي، والقاضي ثناء الله باني بتي، وثناء الله السنبهلي، جارالله بن عبدالرحيم اللاهوري المدني, وجمال الدين الرامفوري، وغيرهم الكثير.
وفاته رحمه الله
وبعد حياة حافلة بجلائل الأعمال توفي الشيخ في (26 من المحرم 1176هـ= 17 من أغسطس 1762م)، قال عبد الحي الحسني: "توفي إلى رحمة الله سبحانه ظهيرة يوم السبت سلخ شهر الله المحرم سنة ست وسبعين ومائة وألف بمدينة دهلي فدفن عند والده خارج البلدة، وله اثنان وستون سنة، كذا وجدته بخط الشيخ نعمان بن نور الحسني النصير آبادي".
وترك رحمه الله أربعة من أولاده العلماء هم: "شاه عبد العزيز" الذي قام مكانه في العلم والعمل، و"شاه رفيع الدين"، و"شاه عبد القادر"، و"شاه عبد الغني"، ومخلفًا ذكرى عطرة لا يزال شذاها يفوح حتى الآن، وقد أثنى عليه وعلى جهوده العلماء؛ فقال عنه "عبد الحي الكتاني" صاحب "فهرس الفهارس": "أحيا الله به وبأولاد بنته وتلاميذهم الحديث والسنة بالهند بعد مواتهما، وعلى كتبه وأسانيده المدار في تلك الديار".
_________
المصادر والمراجع:
- عبدالحي الحسني:الإعلام بمن في تاريخ الهند من الأعلام المسمى بـ (نزهة الخواطر وبهجة المسامع والنواظر)، دار النشر: دار ابن حزم - بيروت، لبنان، الطبعة: الأولى، 1420هـ / 1999م.
- عبد الحي الكتاني: فهرس الفهارس، تحقيق: إحسان عباس، الناشر: دار الغرب الإسلامي – بيروت، الطبعة: 2، 1982م.
- محمد زياد التكلة: الشاه ولي الله الدهلوي، شبكة الألوكة.
- عبد الله عطا الله عمر: ولي الله الدهلوي .. علامة الهند المُجدد المُصلح، شبكة إسلام ويب.
- الشاه ولي الله الدهلوي: موجز عن حياته وأفكاره، مجلة دعوة الحق، العدد (144).