أحد أنجب علماء الإسلام في بلاد الأندلس، وصاحب التفسير الذي لم يؤلف في الإسلام مثله، والمسند الذي به صار محدث الأندلس، إنه العالم العظيم شيخ الإسلام بقي بن مخلد رحمه الله.
من هو بقي بن مخلد؟
الإمام، القدوة، شيخ الإسلام، الحافظ، أبو عبد الرحمن بقي بن مخلد بن يزيد، القرطبي، الأندلسي، صاحب (التفسير) و (المسند) اللذين لا نظير لهما. ولد رحمه الله في قرطبة ببلاد الأندلس في شهر رمضان سنة 201هـ / 817م.
شيوخ بقي بن مخلد
رحل بقي بن مخلد عن موطنه مشيا على الأقدام إلى المغرب، ومنها إلى بغداد، متوقفا في كل مدينة وبلدة سائلا شيوخها ومستفسرا منهم وناهلا من علمهم، حتى بلغ عدد الشيوخ الذين استمع إليهم حوالي 284 شيخا وعالما، وهو تطبيق مبكر للبحث العلمي العميق المستند إلى مصادر موثوقة.
أخذ بقي بن مخلد العلم عن: يحيى بن يحيى الليثي ومحمد بن عيسى الأعشى، وارتحل إِلَى الْمشرق ولقي الكبار من أئمة المحدثين، وكبار المسندين، فسمع بالحجاز أبا مصعب الزهري، وإبراهيم بن المنذر الحزامي، وبمصر يحيى بن بكير، وأبا الطاهر بن السرح، وبدمشق هشام بن عمار، وببغداد أحمد بن حنبل، وبالكوفة يحيى بن عبد الحميد الحماني، وأبا بكر بن أبي شيبة، وسمع بإفريقية من سحنون بن سعيد الفقيه، وعون بن يوسف، وخلائق.
وقد عني بقي بن مخلد برحلاته العلمية هذه عناية لا مزيد عليها، فأدخل جزيرة الأندلس علمًا جمًا، حتى صارت بلاد الأندلس دار حديث، وكان الغالب عليها قبل ذلك حفظ رأي مالك وأصحابه. وكا نبقي بن مخلد أول من أدخل بلاد الأندلس مصنف أبي بكر بن أبي شيبة بتمامه، وكتاب الأم للإمام الشافعي، وكتابي التاريخ والطبقات لخليفة بن خياط، وكتاب سيرة عمر بن عبد العزيز للدروقي.
تلاميذه ومن أخذ عنه
حدث عنه: ابنه أحمد، وأيوب بن سليمان المري، وأحمد بن عبد الله الأموي، وأسلم بن عبد العزيز، ومحمد بن وزير، ومحمد بن عمر بن لبابة، والحسن بن سعد الكناني، وعبد الله بن يونس المرادي القبري، وعبد الواحد بن حمدون، وهشام بن الوليد الغافقي، وآخرون.
صفات بقي بن مخلد وأخلاقه
كرّس بقي بن مخلد حياته للعلم والعمل الصالح، وسيرة حياته عبارة عن مجموعة لا متناهية من العبر والدروس الخالدة، فكان لا يركب دابة أبدا، ويتعمد المشي للخير طلبا للأجر على قدر المشقة، حتى أنه مشى من قرطبة إلى إشبيلية مع ضعيف مسكين ليؤازره في مظلمة له، وهي مسافة تبلغ حوالي 200 كيلومتر.
كما كان بقي بن مخلد رحمه الله إماما مجتهدا صالحا، ربانيا صادقا مخلصا، رأسا في العلم والعمل، عديم المثل، منقطع القرين، يفتي بالأثر، ولا يقلد أحدا.
وكان بقي بن مخلد ورعا فاضلا زاهدا، كثير التَّهَجُّد مجاب الدعْوَة، قد ظهرت له إجابات الدعوة في غير ما شيء، قَلِيل الْمثل مُجْتَهدا لَا يُقَلّد أحدا بل يُفْتِي بالأثر.
وقال بقيّ بن مخلد يوما لطلابه: أنتم تطلبون العلم، أهكذا يطلب العلم؟ إنما أحدكم إذا لم يكن عليه شغل يقول: أمضي أسمع العلم، إني لأعرف رجلا تمضي عليه الأيام في وقت طلبه للعلم لا يكون له عيش إلا من ورق الكرنب الذي يلقيه الناس، وإني لأعرف رجلا باع سراويله غير مرة في شرى كاغد حتى يسوق الله عليه من حيث يخلفها.
بين بقي بن مخلد والإمام أحمد
من مناقب الإمام بقي بن مخلد رحمه الله، أنه عندما وصل إلى بغداد أراد الاستماع إلى الإمام أحمد بن حنبل وجمع ما يمكن من الأحاديث منه، ولكن تصادف وصوله مع تصاعد الخلاف بين الإمام أحمد والخليفة الواثق بالله، حتى أنه مُنع من الدرس والخطبة.
ولكن ذلك لم يثنِ بقي بن مخلد المسافر المتعطش للبحث والدرس، فذهب إلى دار ابن حنبل واتفق معه على الإفلات من مراقبة حرس الخليفة له بأن يأتيه كل يوم متنكرا بزي السائل المستجدي، فيدق الباب ويتظاهر بالسؤال عن عطيةٍ فيفتح ابن حنبل له الباب ويروي له حديثا أو حديثين بما يسمح به الوقت، واستمر الحال هكذا حتى ارتوى ابن مخلد.
مصنفات ومؤلفات بقي بن مخلد
وبعد طول سفر، عاد بقي بن مخلد إلى الأندلس ليفيد بعلمه وما جمعه، فألف "التفسير" و"المسند" الذي لا نظير لهما، حتى وصف الإمام أبو محمد بن حزم تفسيره للقرآن الكريم بالقول: "أقطع أنه لم يؤلف في الإسلام مثل تفسيره، لا تَفْسِير مُحَمَّد بن جرير وَلَا غَيره".
وفي المسند الذي كرس للحديث الشريف وأسانيده، قال ابن حزم: "ومسند بقيّ روى فيه عن ألف وثلاثمائة صاحب ونيف, ورتب حديث كل صاحب على أبواب الفقه, فهو مسند ومصنف, وما أعلم هذه الرتبة لأحد قبله, مع ثقته وضبطه, وإتقانه واحتفاله في الحديث".
وكان بقي أول من كثر الحديث بالأندلس ونشره، وهاجم به شيوخ الأندلس، فثاروا عليه، لأنهم كان علمهم بالمسائل ومذهب مالك، وكان بقي يفتي بالأثر، فشذ عنهم شذوذا عظيما، فعقدوا عليه الشهادات، وبدعوه، ونسبوا إليه الزندقة، وأشياء نزهه الله منها. وكان بقي يقول: "لقد غرست لهم بالأندلس غرسا لا يقلع إلا بخروج الدجال".
وللحافظ الإمام بقي بن مخلد كتاب "في فتاوى الصحابة والتابعين ومن دونهم"، الذي أربى فيه علي مصنف أبي بكر بن أبي شيبة، وعلى مصنف عبد الرزاق، ومصنف سعيد بن منصور.
وقد بلغت هذه الكتب من الشهرة بمكان، حتى قال أبو عبد الملك أحمد بن محمد بْن عَبْد البر القرطبي (ت: 338هـ): "صارت تصانيف هذا الإمام الفاضل قواعد الإسلام، لا نظير لها، وكان متخيرا لا يقلد أحدا، وكان ذا خاصة من أحمد بن حنبل، وجاريا في مضمار البخاري ومسلم والنسائي".
منزلة بقي بن مخلد
وقد لفت حرص بقيّ على تتبع العلم والعلماء في أرجاء بلاد الإسلام الأنظار إليه، حتى لقب بـ"المكنسة"، ذكره أحمد بن أبي خيثمة، فقال: "ما كنا نسميه إلا المكنسة، وهل احتاج بلد فيه بقي إلى أن يرحل إلى ها هنا منه أحد؟!". ولقب المكنسة إشارة إلى من لا يترك شاردة أو واردة إلا وأولاها اهتمامه.
وَكَانَ الأمير محمد بن عبد الرحمن الأموي صاحب الأندلس محباً للعلوم عَارِفًا، فَلَمَّا دخل بَقِي الأندلس بمصنف ابْن أبي شيبَة وَقُرِئَ عَلَيْهِ، أنكر جمَاعَة من أهل الرَّأْي مَا فِيهِ من الْخلاف واستبشعوه ونشطوا الْعَامَّة عَلَيْهِ ومنعوه من قِرَاءَته، فَاسْتَحْضرهُ الْأَمِير مُحَمَّد وإياهم وتصفح الْكتاب جُزْءا جُزْءا حَتَّى أَتَى على آخِره، ثمَّ قَالَ لخازن كتبه: "هَذَا كتاب لَا تَسْتَغْنِي خزانتنا عَنهُ فَانْظُر فِي نُسْخَة لنا"، وَقَالَ لبقي: "انشر علمك، وارو مَا عنْدك"، ونهاهم أَن يتَعَرَّضُوا لَهُ.
قال أبو عبد الملك القرطبي: "كان فاضلا تقيّا صوَّاما قواما متبتلا، منقطع القرين فِي عصره، منفردًا عن النَّظير في مصره ..، وكان بقي طوالا أقنى (احديداب في الأنف)، ذا لحية مضبرا (تلزيز العظام، واكتناز اللحم)، قويا جلدا على المشي، لم ير راكبا دابة قط، وكان ملازما لحضور الجنائز، متواضعا، وكان يقول (أي بقي): إني لأعرف رجلا، كان تمضي عليه الأيام في وقت طلبه العلم، ليس له عيش إلا ورق الكرنب الذي يرمى، وسمعت من كل من سمعت منه في البلدان ماشيا إليهم على قدمي".
وقال قاسم بن أصبغ: خرجت من الأندلس ولم أرو عن بقي شيئا، فلما دخلت العراق وغيره من البلدان سمعت من فضائله وتعظيمه ما أندمني على ترك الرواية عنه وقلت: إذا رجعت لزمته حتى أروي جميع ما عنده، فأتانا نعيه ونحن بطرابلس.
قال ابن لبابة الحافظ: "كان بقي من عقلاء الناس وأفاضلهم"، وكان أسلم بن عبد العزيز يقدمه على جميع من لقيه بالمشرق، ويصف زهده، ويقول: "ربما كنت أمشي معه في أزقة قرطبة، فإذا نظر في موضع خال إلى ضعيف محتاج أعطاه أحد ثوبيه".
قال أبو عبيدة مسلم بن أحمد: "كان بقي يختم القرآن كل ليلة، في ثلاث عشرة ركعة، وكان يصلي بالنهار مائة ركعة ، ويصوم الدهر". قال ابن بشكوال: "من حفاظ المحدثين وأئمة الدين، والزهاد الصالحين". وقال عنه أبو الوليد بن الفرضي: "ملأ بقيّ بن مخلد الأندلس حديثا".
وكان بقي بن مخلد كثير الجهاد، وتقول المصادر التاريخية إنه اشترك بأكثر من سبعين غزوة مقاتلا مجاهدا في سبيل الله، حيث كانت الدولة الإسلامية في الأندلس محاطة من كل صوب بممالك الصليبيين الساعين ليل نهار لإسقاط دولة الخلافة هناك.
وفاة بقي بن مخلد
تفرغ بقي بن مخلد في نهاية حياته للتدريس، ورغم أنه قضى حياته صائما يصلي في اليوم مائة ركعة ويختم القرآن كل يوم وليلة، فإن تقواه في نهاية حياته بلغت مبلغ الولاية، حتى كان يقضي يومه بين الصلاة والدرس في مسجده، وهكذا كان حتى توفاه الله لليلتين بقيّتا من جمادى الآخرة عام 276هـ / 889م، ودفن بمقبرة بني العباس.
المصادر والمراجع
- ابن الفرضي: تاريخ علماء الأندلس، 1/ 107 – 109.
- ابن ماكولا: الإكمال في رفع الارتياب/ 1/ 344 – 345.
ياقوت الحموي: معجم الأدباء، 2/ 746 – 749.
- ابن عساكر: تاريخ دمشق، 10/ 354 – 359.
- الذهبي: سير أعلام النبلاء، 13/ 285 – 269.
- الصفدي: الوافي بالوفيات، 10/ 115 – 116.
السيوطي: طبقات المفسرين، ص40 – 42.