إمام الحافظ شعبة بن الحجاج هو أمير المؤمنين في الحديث وإمام الجرح والتعديل وأول من فتَّش بالعراق عن الرجال وذب عن السنة، وما من مشتغل بالحديث إلا وهو يذكر له مواقف خلدت في التاريخ ذكره، ونحتت في ذاكرة المحدثين والعلماء اسمه. لذا قال فيه الحافظ أبو نعيم الأصبهاني: »الإمام المشهور، والعلم المنشور، في المناقب مذكور، له التقشف والتعبد، والتكشف عن الأخبار والتشدد, أمير المؤمنين في الرواية والتحديث، وزين المحدثين في القديم والحديث، أكثر عنايته بتصحيح الآثار والتبري من تحمل الأوزار، المتثبت المحجاج: أبو بسطام شعبة بن الحجاج، كان للفقر عانقا، وبضمان الله تعالى واثقا«.
اسمه ونسبه
هو الإمام الحافظ الهمام أبو بسطام شعبة بن الحجاج بن الورد العتكي مولاهم الواسطي ثم البصري، أمير المؤمنين في الحديث في زمانه، وعالم أهل البصرة، وهو من تابعي التابعين. ولد بقرية نهريان أسفل مدينة واسط بالعراق، سنة 82هـ وقيل 83هـ في خلافة عبد الملك بن مروان رحمه الله. قال الخطيب البغدادي: "شعبة أكبر من سفيان الثوري بعشر سنين، والثوري أكبر من ابن عيينة بعشر سنين".
نشأته وتعلمه
يرجع أصل شعبة بن الحجاج إلى واسط في العراق وبها نشأ وترعرع، ثم ارتحل إلى البصرة فسكن بها إلى أن تُوفي. وأما عن قدومه بغداد، فقال الخطيب البغدادي: »قدم شعبة بغداد مرتين وحدَّث بها، وكان قدومه إحدى المرتين بسبب أخ له حبس في دين كان عليه .. فجاء يتكلم فيه، وكان شعبة واسطيا نزل البصرة«.
بدأ الإقبال على الحديث مبكرًا، فقد كان أبوه من علماء الحديث، وكانت أمه تحثه على السماع والطلب، وأما أخواه فقد فرَّغاه عن العمل وكفياه مؤونته، ونقل الخطيب البغدادي أنه كان للإمام شعبة ابن يقال له سعد بن شعبة، وكان له أخوان، بشار وحماد، وكانا يعالجان الصرف. وكان شعبة يقول لأصحاب الحديث: "ويلكم الزموا السوق، فإنما أنا عيال على إخوتي".
وأما بداية طلبه لعلم الحديث، فقد روى الخطيب عن الأصمعي عن شعبة قال: "كنت ألزم الطرماح، أسأله عن الشعر، فمررت يومًا بالحكم بن عتيبة وهو يقول: حدثنا يحيى بن الجزار، وقال: حدثنا زيد بن وهب، وقال: حدثنا مقسم؛ فأعجبني، وقلت: هذا أحسن من الذي أطلب، أعني الشعر؛ قال: فمن يومئذ طلبت الحديث".
شيوخ شعبة بن الحجاج
رأى شعبة بن الحجاج محمد بن سيرين، والحسن البصري وأخذ عنه مسائل، وأخذ الحديث وسمعه من ثلاثمائة شيخ من التابعين، قال الذهبي في السير: »ذكر شيخنا أبو الحجاج –أي المزي- في تهذيبه: لشعبة ثلاث مائة شيخ سماهم«، منهم: أنس بن سيرين، وسلمة بن كهيل، وسعيد بن أبي سعيد المقبري، وقتادة بن دعامة، وعمرو بن دينار، ويحيى بن أبي كثير، وعبيد بن الحسن، وأيوب السختياني، ومعاوية بن قرة، وأبي جمرة الضبعي، وعدي بن ثابت، وطلحة بن مصرف، والمنهال بن عمرو، وسعيد بن أبي بردة، وسماك بن الوليد، ومنصور بن المعتمر، والأسود بن شيبان، وسليمان بن المغيرة، وخلق كثير سواهم. كما رأى ناجية بن كعب شيخ أبي إسحاق السبيعي. حتى صار شعبة من أوعية العلم الذي لا يتقدمه أحد في الحديث في زمانه، إضافة إلى كونه عالم البصرة وشيخها. وهو من نظراء الأوزاعي، ومعمر بن راشد، وسفيان الثوري في الكثرة.
تلاميذ الإمام شعبة ومن رووا عنه
يقول الذهبي: »روى عنه: عالم عظيم، وانتشر حديثه في الآفاق«، فممن تتلمذوا على يدي الإمام الحافظ شعبة بن الحجاج خلق كثير، منهم: أيوب السختياني، وسعيد الجريري، ومنصور بن المعتمر، ومطر الوراق، ومنصور بن زاذان -وهؤلاء هم أحد شيوخه، وابن إسحاق، وأبان بن تغلب، وسفيان الثوري، وإبراهيم بن طهمان، وعلي بن حمزة الكسائي، وأبو إسحاق الفزاري، وأبو معاوية الضرير، وبشر بن منصور، وبقية بن الوليد، والحمادان، وسفيان بن عيينة، وشريك القاضي، وعبد الله بن إدريس، وعبد الله بن داود الخريبي، ويحيى بن سعيد القطان، وعبد الرحمن بن مهدي، ومعتمر بن سليمان، وأبو عبيدة معمر بن المثنى، ووكيع، والنضر بن شميل، وهارون الرشيد، ويحيى بن أبي زائدة، ويحيى بن سليم، ويحيى بن حمزة القاضي، ويزيد بن زريع، ويزيد بن هارون، ويونس بن بكير، والقاضي أبو يوسف، ويعقوب الحضرمي، وأبو داود الطيالسي، ومحمد بن كثير العبدي، وسليمان بن حرب، وأبو الوليد الطيالسي، وبكر بن بكار، وعبد الملك الأصمعي، وعلي بن حفص المدائني، قرة بن حبيب، ويحيى بن أبي بكير، ويحيى بن كثير أبو غسان، ويحيى بن عبد ربه، وعلي بن الجعد، وشيبان بن فروخ حكاية، وأمم سواهم.
وممن رووا عنه الإمام مالك بن أنس رحمه الله، قال الذهبي في السير: "ومن جلالته قد روى: مالك الإمام، عن رجل، عنه، وهذا قل أن عمله مالك".
صبره على طلب العلم
قال شعيب بن حرب: سمعت شُعْبة يقول: اختلفت (أي ذهبت) إلى عمرو بن دينار خمسمائة مرة، وما سمعت منه إلا مائة حديث. وقال شعبة: "ما سمعت من رجل عدد حديث إلا اختلفت (أي ذهبت) إليه أكثر من عدد ما سمعت منه الحديث".
احترام شعبة لمشايخه
قال يحيى بن سعيد: قال لي شُعْبة: "كل من كتبت عنه حديثًا، فأنا له عبدٌ". وقال المنهال بن بحر: سمعت شُعْبة يقول: "أكثرتُ عن هؤلاء: ابن عوف، والأسود بن شيبان، وسليمان بن المغيرة، ولو قدرت أن آخذ كل يوم لابن عوف بالركاب (أي أقود له دابته)، لفعلت".
علمه بالشعر
كان شعبة صاحب شعر وعالمًا بالعربية؛ وكان يحث على تعلم العربية. قال أبو نعيم في (الحلية): »حدثنا سليمان بن أحمد - الطبراني- ثنا عبد الله بن أحمد بن حنبل حدثني نصر بن علي قال: أخبرني أبي ثنا شعبة قال: كان قتادة يسألني عن الشعر، فقلت: أنشدك بيتًا وتحدثني حديثًا«. ثم أخرج عن أبي داود -الطيالسي- قال: سمعت شعبة يقول: لولا الشعر لجئتكم بالشعبي. وقال ابن حجر في (تهذيب التهذيب): »قال ابن معين: كان شعبة صاحب نحو وشعر«. وقال ابن حجر: »قال بدل بن المحبر سمعت شعبة يقول: تعلموا العربية فإنها تزيد في العقل«.
وقال الأصمعي: لم نر أحدا قط أعلم بالشعر من شعبة. وذكر الأصمعي عن أبي عمرو بن العلاء، قال: أنشدني:
فما جبنوا أنا نشد عليهم ***ولكن رأوا نارا تحس وتلفع
فذكرته لشعبة فقال. ويلك ما تقول، إنما هو:
فما جبنوا أنا نشد عليهم ***ولكن رأوا نارا تحش وتلفع
قال الأصمعي: وأصاب شعبة وأخطأ أبو عمرو بن العلاء، وما رأيت أحدا أعلم بالشعر من شعبة.
ومثل هذه الشهادة من مثل الأصمعي راوِيَةِ اللغة والشعر والأدب، شهادة عجيبة لا ينالها إلا رجل ذو حفظ عجيب وذكاءٍ يتوقد وتعب تام وتدقيق كامل؛ فالحمد لله الذي صرف شعبة إلى الحديث ففاز به أهل الحديث دون سواهم!
ورع شعبة
قال بشر بن عمر الزهراني: سمعت شُعْبة يقول: لأن أَخِرَّ من السماء، أو من فوق هذا القصر: أحبُّ إليَّ من أن أقول: قال الحكم، لشيء لم أسمعه منه.
خوف شعبة على الحديث
قال أبو داود الطيالسي: سمعت شُعْبة بن الحَجَّاج يقول: "كل حديث ليس فيه (حدثنا) و(أخبرنا)، فهو خَلٌّ وبقلٌ". وقال الشافعى: كان شُعْبة يجيء إلى الرجل (يعني: الذي ليس أهلًا للحديث) فيقول: لا تحدِّث، وإلا استعديتُ عليك السلطان. وقال حماد بن زيد: رأيت شُعْبة قد لبَّب أبان بن أبي عياش، يقول: أستعدي عليك إلى السلطان؛ فإنك تكذب على رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال: فبصر بي، فقال: يا أبا إسماعيل، قال: فأتيته، فما زلت أطلب إليه حتى خلصته.
شعبة بن الحجاج إمام الجرح والتعديل
لعل أهم فضائل الإمام الحافظ شعبة بن الحجاج -بعد الإيمان والورع- أنه أمير المؤمنين في الحديث، ورأس علماء الرجال والعلل؛ وأول من توسع في نقد الرواة؛ وعنه أخذ الناس هذا العلم الشريف، فهو الذي شيد أركان مدرسة الجرح والتعديل في العراق، بل في العالم كله؛ بعد أن استبانت له أصولها التي فهمها جيدًا وأتقنها إتقانًا، واتضحت له أسسها التي ثبَّتها أسلافُه؛ فقام -بعزم وجد وثبات واحتياط- يشيّد من فن النقد أركانه، ويقيم على أسسه بنيانه، يفعل ذلك حسبة وديانة، وأداء لحق النصيحة والأمانة.
قال صالح بن محمد البغدادي: أول مَن تكلم في الرجال: شُعْبة بن الحَجَّاج، ثم تبعه يحيى بن سعيد القطان، ثم تبعه أحمد بن حنبل ويحيى بن معين. وقال وكيع بن الجراح: إني لأرجو أن يرفع الله لشُعْبة درجات في الجنة؛ بذَبِّه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم.
تثبته وتحريه
قال أبو قطن: سمعت شعبة بن الحجاج يقول: ما شيء أخوف عندي من أن يدخلني النار من الحديث. وعنه، قال: وددت أني وقاد حمام، وأني لم أعرف الحديث. قال الذهبي معقبا: "كل من حاقق نفسه في صحة نيته في طلب العلم، يخاف من مثل هذا، ويود أن ينجو كفافا". وعن أبي زيد الهروي: عن شعبة: لأن أقع من السماء إلى الأرض، أحب إلي من أن أدلس.
وقال ابن أبي حاتم في الجرح والتعديل: "حدثنا محمد بن يحيى قال: أخبرني يوسف بن موسى -يعنى التستري، قال: سمعت أبا داود يقول: سمعت شعبة يقول: ليس شيء أحدثكموه الا شيئًا حفظته أنا، لم يعنّي عليه أحد. وأخرج الخطيب عن محمد بن أحمد بن يعقوب حدثنا جدي قال: يقال إن شعبة كان إذا لم يسمع الحديث مرتين لم يعتد به ضبطا منه له وإتقانا وصحة أخذ. قال: وحدثنا جدي قال سمعت أحمد بن أبي الطيب أو غيره قال: قال سفيان الثوري: ما رأيت أحدًا أورع في الحديث من شعبة يشك في الحديث الجيد فيتركه.
وقد عقد ابن أبي حاتم في الجرح والتعديل بابًا باسم "باب ما ذكر من مراجعة شعبة لناقلة الحديث وإيقافهم على ما يتخالج في نفسه، ومما أورده فيه ما يلي: حَدثنا عَبد الرَّحمن، حَدثنا أَبي، حَدثنا الحميدي قال قيل لسفيان: إِن شُعبة استحلف عَبد الله بن دينار، يَعني في حديث ابن عُمر: نهي النَّبي صَلى الله عَليه وسَلم عن بيع الولاء وعن هبته، قال سُفيان لكنا لم نستحلفه سمعناه مرارا.
حَدثنا عَبد الرَّحمن، حَدثنا صالح بن أَحمد، حَدثنا علي بن المَديني، قال: سَمِعتُ بهز بن أسد، قال: سَمِعتُ هماما قال: كان شُعبة يوقف قتادة، قال فحدث شُعبة ذات يوم بحديث فقال قتادة من حدثك؟ أَو من ذكر ذلك؟ فقال نسألك فتغضب وتسألنا ؟
حَدثنا عَبد الرَّحمن، حَدثنا علي بن الحسين بن الجنيد قال: قال علي بن المَديني، حَدثنا بشر بن المفضل قال قدم علينا إِسرائيل فحَدثنا، عَن أَبي إِسحاق، عَن عَبد الله بن عطاء عن عقبة بن عامر بحديثين، فذهبت إلى شُعبة فقلتُ: ما تصنع شيئًا، حَدثنا إِسرائيل، عَن أَبي إِسحاق، عَن عَبد الله بن عطاء عن عقبة بكذا، فقال يا مجنون هذا حَدثنا به أَبو إِسحاق فقلت لأَبي إِسحاق من عَبد الله بن عطاء؟ قال شاب من أهل البصرة قدم علينا، فقدمت البصرة فسألت عنه فإذا هو جليس فلان وإذا هو غائب في موضع فقدم فسألته فحدثني به، فقلت من حدثك؟، قال: حَدثني زياد بن مخراق فأحالني على صاحب حديث، فلقيت زياد بن مخراق فسألته فحدثني به، قال: حَدثني بعض أَصحابنا عن شهر بن حوشب.
فانظر كم قضى شعبة في تحقيق هذا الحديث من الجهد والبذل، وكم ضيَّع شبابنا أوقاتهم فيما يضر ولا ينفع.
تجرده للحق وعدم محاباته لأحد
مما عرف به الإمام شعبة رحمه الله تجرده للحق وقوته في هذا الشأن وعدم محاباته فيه أحدًا من الناس كائنًا من يكون، قال الآجري في (سؤالات أبي داود): "وسمعت أبا داود يقول: قال شعبة: لو حابيت أحدًا حابيت هشامًا بن حسان، وكان قريبَه". قال مكي بن إبراهيم: سئل شعبة عن ابن عون، فقال: سمن وعسل. قيل: فما تقول في هشام بن حسان؟ فقال: خل وزيت. قيل: فما تقول في أبي بكر الهذلي؟ قال: دعني لا أقيء به.
وقال ابن حبان في (المجروحين): "أخبرنا الحسن بن سفيان قال سمعت معاذ بن شعبة يقول: قال أبو داود: جاء عباد بن صهيب إلى شعبة فقال: إن لي إليك حاجة، فقال: ما هي؟ قال: تكف عن أبان بن أبي عياش، فقال: أنظرني ثلاثة أيام، ثم جاء بعد الثالث فقال: نظرت فيما قلتَ فرأيت أنه لا يحل السكوت عنه.
سمعت محمد بن عبد الرحمن يقول سمعت الحسين بن الفرج يقول عن سليمان بن حرب عن حماد بن زيد قال: جاءني أبان بن أبي عياش، فقال: أحب أن تكلم شعبة أن يكف عني. قال: فكلمته فكف عنه أيامًا، فأتاني في بعض الليل، فقال: "إنك سألتني أن أكف عن أبان، وإنه لا يحل الكف عنه، فإنه يكذب على رسول الله صلى الله عليه وسلم".
منزلة شعبة العلمية
قال سفيان الثوري: شُعْبة أمير المؤمنين في الحديث. وقال الشافعي: لولا شُعْبة لَمَا عُرف الحديث بالعراق. وقال أحمد بن حنبل: كان شُعْبة أمةً وحده في الحديث. وقال حماد بن زيد: إذا خالفني شُعْبة في شيء تركتُه. وقال حماد: قال لنا أيوب السَّختياني: الآن يقدَمُ عليكم رجلٌ من أهل واسط، يقال له: شُعْبة، هو فارسٌ في الحديث، فإذا قدم فخذوا عنه،قال حمادٌ: فلما قدم أخذنا عنه. وقال يحيى بن سعيد القطان: ما رأيت أحدًا قط أحسن حديثًا من شُعْبة. وقال أبو داود الطيالسي: سمعت من شُعْبة سبعة آلاف حديث، وسمع منه غندرٌ سبعة آلاف. وقال أبو زيد الأنصاري: هل العلماء إلا شُعْبة من شُعْبة؟.
عبادة شعبة
قال أبو قطن عمرو بن الهيثم: "كان شُعْبة كثير الصلاة، كثير الصيام، سخيَّ النفس". وقال كذلك: ما رأيت شُعْبة ركع قط إلا ظننت أنه نسي، ولا قعد بين السجدتين إلا ظننت أنه نسي. وقال أبو بحر البكراوي: ما رأيت أحدًا أعبد لله من شُعْبة، لقد عبد الله حتى جف جلده على ظهره ليس بينهما لحم. وقال عمر بن هارون: "كان شُعْبة يصوم الدهر كله لا ترى عليه، وكان سفيان الثوري يصوم ثلاثة أيام من الشهر ترى عليه". وقال عبد العزيز بن أبي رواد: كان شُعْبة كثير الصلاة. وقال عبد السلام بن مطهر: ما رأيت أحدًا أمعن في العبادة من شُعْبة رحمه الله. وقال أبو زيد الهروي: رأيت شُعْبة يصلي حتى تورم قدماه.
زهد شعبة
قال محمد بن عمرو: سمعت أصحابنا يقولون: وهب المهدي لشُعْبة ثلاثين ألف درهم، فقسمها، وأقطعه (أي أعطاه) ألف جريب (مقدار معين من الأرض) بالبصرة، فقدم البصرة، فلم يجد شيئًا يطيب له، فتركها. وقال عبدالرحمن بن مهدي: ما رأيت أحدًا أكثر تقشفًا من شُعْبة.
اهتمام شعبة بالفقراء
قال النضر بن شُمَيل: ما رأيت أرحم بمسكين من شُعْبة،كان إذا رأى المسكين لا يزال ينظر إليه حتى يعطى. وقال عمرو بن حكام: أتى شُعْبةَ شيخٌ من جيرانه محتاج، فسأله، فقال له شُعْبة: لمَ سألتَني؟ عندي شيء؟ قال: فذهب الشيخ لينصرف، فقال له شُعْبة: اذهب فخذ حماري فهو لك،فقال: لا أريد حمارك،قال: اذهب فخذه، قال: فذهب فأخذه، فمر به على مجالس أصحابنا بني جبلة فاشتراه بعضهم بخمسة دراهم، فأهداه إلى شُعْبة. وقال أبو داود الطيالسي: كنا عند شُعْبة، فجاء سليمان بن المغيرة يبكي، وقال: مات حماري، وذهبت مني الجمعة، وذهبت حوائجي،قال: بكم أخذته؟ قال: بثلاثة دنانير، قال شُعْبة: فعندي ثلاثة دنانير، والله ما أملك غيرها، ثم دفعها إليه. وقال مسلم بن إبراهيم: "كان شُعْبة إذا وقف في مجلسه سائلٌ، لا يحدِّث حتى يعطى، فقام يومًا سائلٌ ثم جلس، فقال: ما شأنه؟ قال: ضمن عبد الرحمن بن مهدي أن يعطيه درهمًا".
وقال أبو داود: كنا عند شُعْبة نكتب ما يملي، فسأل سائلٌ، فقال شُعْبة: تصدقوا، فلم يتصدق أحدٌ، فقال: تصدقوا؛ فإن أبا إسحاق حدثني عن عبد الله بن معقل، عن عدي بن حاتم، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "اتقوا النار ولو بشق تمرة"، قال: فلم يتصدق أحدٌ، فقال: تصدقوا؛ فإن عمرو بن مرة حدثني عن خيثمة، عن عدي بن حاتم قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "اتقوا النار ولو بشق تمرة، فإن لم تجدوا، فبكلمة طيبة، فلم يتصدق أحدٌ"،فقال: تصدقوا؛ فإن مُحِلًّا الضبي حدثني عن عدي بن حاتم، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "واستتروا من النار ولو بشق تمرة، فإن لم تجدوا، فبكلمة طيبة"، فلم يتصدق أحدٌ، فقال: قوموا عني، فوالله لا حدثتكم ثلاثة أشهر، ثم دخل منزله، فأخرج عجينًا، فأعطاه السائل، فقال: خذ هذا، فإنه طعامنا اليوم.
منزلة شعبة عند الخليفة المهدي العباسي
قال أبو عاصم النبيل: اشترى أخٌ لشُعْبة من طعام الخليفة المهدي، فخسر هو وشركاؤه، فحبس بستة آلاف دينار بحصته، فخرج شعبة إلى الخليفة المهدي ليكلمه فيه، فلما دخل عليه، قال له: يا أمير المؤمنين، أنشدني قتادة وسماك بن حرب لأمية بن أبي الصلت يقول لعبدالله بن جدعان:
أأطلُب حاجتي أم قد كفاني *** حياؤُك! إن شيمتك الحياءُ
كريم لا يعطِّله صباحٌ *** عن الخُلُق الكريم ولا مساءُ
فأرضُك أرضُ مكرمة بَنَتْه *** بنو تَيْمٍ وأنت لهم سماءُ
فقال: لا، يا أبا بسطام لا تذكرها، قد عرفناها وقضيناها لك، ادفعوا إليه أخاه لا تلزموه شيئًا.
أقوال السلف في شعبة
قال يحيى بن معين: شُعْبة إمام المتقين. وقال سلم بن قتيبة: أتيت سفيان الثوري، فقال: ما فعل أستاذنا شُعْبة؟. وقال يزيد بن زريع: كان شُعْبة من أصدق الناس في الحديث. وقال عبد الله بن إدريس: ما جعلت بينك وبين الرجال مثل سفيان وشُعْبة. وقال سليمان بن المغيرة: شُعْبة سيِّد المحدِّثين. وقال محمد بن عبد الله الرقاشي، عن حماد بن زيد: أنه كان إذا حدث عن شُعْبة، قال: حدثنا الضخم عن الضخام: شُعْبة الخير أبو بسطام. وقال سفيان بن عيينة: سمعت شُعْبة يقول: من طلب الحديث أفلس، بعت طست أمي بسبعة دنانير. وقال أبو الوليد الطيالسي: قال لي حماد بن زيد: إذا خالفني شُعْبة في حديث، صرت إلى قوله، قلت: كيف يا أبا إسماعيل؟ قال: إن شُعْبة كان لا يرضى أن يسمع الحديث عشرين مرةً، وأنا أرضى أن أسمعه مرةً.
وقال أبو بكر بن منجويه: كان شُعْبة بن الحَجَّاج من سادات أهل زمانه؛ حفظًا وإتقانًا، وورعًا وفضلًا، وهو أول من فتش بالعراق عن أمر المحدثين، وجانَبَ الضعفاء والمتروكين، وصار علمًا يقتدى به، وتبعه عليه بعده أهل العراق.
قال أبو عبد الرحمن النسائي: أمناء الله على علم رسول الله صلى الله عليه وسلم ثلاثة: شُعْبة بن الحَجَّاج، ويحيى بن سعيد القطان، ومالك بن أنس. وقال النووي: أجمع العلماء على إمامة شُعْبة بن الحَجَّاج في الحديث، وجلالته، وتحرِّيه، واحتياطه، وإتقانه. وقال أبو عبد الله الحاكم: شُعْبة بن الحَجَّاج إمام الأئمة بالبصرة في معرفة الحديث.
وقال الإمام الذهبي: كان شُعْبة بن الحَجَّاج إمامًا، ثبتًا، حجةً، ناقدًا، جِهْبِذًا، صالحًا، زاهدًا، قانعًا بالقوت، رأسًا في العلم والعمل، منقطع القرين، وهو أول مَن جرَّح وعدَّل.
وفاة الإمام شعبة بن الحجاج
وبعد حياة حافلة بخدمة حديث النبي صلى الله عليه وسلم توفي الإمام الحافظ شعبة بن الحجاج بمدينة البصرة سنة 160هـ، وعمره ثمان وسبعون سنة، قال الإمام الذهبى في سير أعلام النبلاء: قال سعد بن شعبة: "أوصى أبي إذا مات أن أغسل كتبه، فغسلتها"، قال الذهبى: وهذا قد فعله غير واحد: بالغسل وبالحرق وبالدفن؛ خوفًا من أن تقع فى يد إنسان واهٍ يزيد فيها أو يغيِّرها.
ولما مات الحافظ شعبة رؤيت له منامات حسنة، منها ما رواه الذهبي في السير عن عبد القدوس بن محمد الحبحابي قال: سمعت أبي يقول: لما مات شعبة، أريته بعد سبعة أيام، وهو آخذ بيد مسعر، وعليهما قميصا نور، فقلت: يا أبا بسطام! ما فعل الله بك؟ قال: غفر لي. قلت: بماذا؟ قال: بصدقي في رواية الحديث، ونشري له، وأدائي الأمانة فيه، ثم أنشأ يقول:
حَبَانِي إِلَهِي فِي الجِنَانِ بِقُبَّةٍ *** لَهَا أَلْفُ بَابٍ مِنْ لُجَيْنٍ وَجَوْهَرُ
شَرَابِي رَحِيْقٌ فِي الجِنَانِ وَحِلْيَتِي *** مِنَ الذَّهَبِ الإِبْرِيْزِ وَالتَّاجُ أَزْهَرُ
وَنَقْلِي لِثَامُ الحُورِ وَاللهُ خَصَّنِي *** بِقَصْرٍ عَقِيْقٍ تُرْبَةُ القَصْرِ عَنْبَرُ
وَقَالَ لِيَ الرَّحْمَنُ يَا شُعْبَةُ الَّذِي *** تَبَحَّرَ فِي جَمْعِ العُلُوْمِ فَأَكْثَرُ
تَنَعَّمْ بِقُرْبِي إِنَّنِي عَنْكَ رَاضِي *** وَعَنْ عَبْدِيَ القَوَّامِ بِاللَّيْلِ مِسْعَرُ
كَفَى مِسْعَرًا عِزًّا بِأَنْ سَيَزُوْرُنِي *** فَأَكْشِفُ حُجْبِي ثُمَّ أُدْنِيْهِ يَنْظُرُ
لـه كـل يوم نظرتان وإنني *** سأجلسه للمصطفى فوق منبر
فهذا فعالي بالذين رضيتهم *** ولم يركبوا في سالف الدهر منكر
فرحمه الله رحمة واسعة.
___________________
المصادر والمراجع:
- البخاري: التاريخ الكبير، الطبعة: دائرة المعارف العثمانية، حيدر آباد – الدكن، طبع تحت مراقبة: محمد عبد المعيد خان.
- ابن حبان: الثقات، طبع بإعانة: وزارة المعارف للحكومة العالية الهندية، تحت مراقبة: الدكتور محمد عبد المعيد خان مدير دائرة المعارف العثمانية، الناشر: دائرة المعارف العثمانية بحيدر آباد الدكن الهند، الطبعة: الأولى، 1393ه / 1973م.
- ابن أبي حاتم: الجرح والتعديل، الناشر : الهند، الطبعة : الأولى 1271هـ / 1952م.
- الخطيب البغدادي: تاريخ بغداد، دراسة وتحقيق: مصطفى عبد القادر عطا، الناشر: دار الكتب العلمية - بيروت، الطبعة: الأولى، 1417هـ.
- أبو نعيم الأصفهاني: حلية الأولياء وطبقات الأصفياء، الناشر: السعادة - مصر، 1394هـ / 1974م.
- ابن خلكان: وفيات الأعيان، تحقيق: إحسان عباس، الناشر: دار صادر – بيروت.
- الذهبي: سير أعلام النبلاء، تحقيق: مجموعة من المحققين بإشراف الشيخ شعيب الأرناءوط، الناشر : مؤسسة الرسالة، الطبعة : الثالثة ، 1405هـ / 1985م.
- ابن حجر: تهذيب التهذيب، الناشر: مطبعة دائرة المعارف النظامية، الهند، الطبعة: الطبعة الأولى، 1326هـ.
- محمد خلف سلامة: الإمام شعبة بن الحجاج مام النقاد وأمير المؤمنين في الحديث، موقع أهل الحديث.
- الشيخ صلاح نجيب الدق: الإمام الحافظ شعبة بن الحجاج، موقع شبكة الألوكة.