سيمضي وقت ليس بالقصير قبل أن تتكشف حقائق كثيرة؛ حدثت قُبيل وأثناء وبُعيد المعركة التي جرت في صيدا. حجم تورط "حزب الله" فيها يتكشف يوماً بعد يوم، وقد بات حديث الشارع الصيداوي كله؛ وقد زادت استفزازات الحزب وحركة "أمل" وسرايا المقاومة- للمواطنين من هذا الواقع؛ لدرجة الشعور بأن ما جرى هو 7 أيار صيداوي!
ومع أن الدمار كبير، وحجم الخسائر البشرية أيضاً؛ إلا أن الأكثر فداحة هو الجرح النفسي الكبير وتعمق الشعور المذهبي على نحو مريع جراء ما حصل؛ ليس لأن الصيداويين كانوا يؤيدون ظاهرة الشيخ أحمد الأسير- وإن كان قسم منهم بالفعل كذلك-، بل لأنهم شعروا بالغلبة من الفريق الذي كان يخاصمه الأسير، أو أن أعداء الأسير أرادوا أن يبثوا هذا الشعور، عندما احتلوا شققاً أخرجوا قاطنيها منها عنوة واستعملوها للرمي على عبرا أثناء القتال بعضها سُرق أيضاً- (فيلا الصلح في مجدليون- فيلا أبو ظهر قرب بناية السايس...)، وعندما منعوا أشخاصاً بعينهم من الدخول إلى بيوتهم تحت طائلة اعتقالهم، لا سيما في منطقة التعمير (كثير من مناصري الأسير في أكثر من منطقة، فضلاً عن احتلال مراكز دينية كمركز أحمد بن حنبل في التعمير)، وعندما حوّلوا أنفسهم جهاز مخابرات لتقصي أثر "أعدائهم" وتسليمهم إلى الجيش (ما يزال هذا الواقع قائماً حتى الآن)، وعندما نصبوا حواجز في مجدليون وجادة نبيه بري ودققوا بهويات المارة وفتشوا هواتفهم وسياراتهم، واعتقلوا بعضهم، وسلموهم إلى المخابرات بعد أن حققوا بأنفسهم معهم في صيدا وخارجها، وعندما أدخلوا السلاح إلى الشقق في عبرا، ودشموا تلة مار الياس؛ ساعات قبل الاشتباك الأخير (ما تزال الدشم التي أطلقوا من ورائها النار على عبرا وبعض أحياء صيدا جاثمة إلى اليوم)... وعندما رفعوا رايات النصر وأعلام الحزب في عبرا، وفي أماكن استفزازية أخرى!.
الشعور السائد في صيدا اليوم لا يمكن اختزاله أو تغطيته بعبارات سطحية، أو شعارات أكثرها مخادع. هناك شعور حقيقي بالغلبة، واستهداف مذهبي لكل الذين يرفعون الصوت بوجه مشروع "حزب الله"، بغض النظر عن هويتهم وأدائهم السياسي. ولا يعني ذلك على الإطلاق أن "عزمة" الجيش في صيدا تزعج أهلها، فحتى الذين حملوا السلاح مع الأسير من أبناء المدينة، كان مطلبهم الأول؛ الذي اعتصموا من أجله وقطعوا الطرق؛ أن يكون السلاح حصراً مع القوى الشرعية، فمن باب أولى أن الآخرين وهم الأكثرية- في صيدا يريدون فعلاً تحقق هذا المطلب، ولكن التفسير السائد لما جرى أن فخاً نُصب بعناية للأسير والجيش معاً، وحصل ما حصل (عبّر الرئيس فؤاد السنيورة عن ذلك بوضوح في تصريح شهير له).
وفي الوقت الذي تطالب فيه المدينة؛ نواباً وفعاليات وقوى سياسية وعلماء، بالسلاح الشرعي حصراً، فإن الشعور بالإجحاف يتزايد، لأن استعمال القوة بوجه سلاح أحمد الأسير غير الشرعي لم يُستتبع بإزالة السلاح غير الشرعي من الآخرين، وما أكثر "زعرناتهم" في المدينة، بل الأنكى أن الممارسات الاستفزازية زادت تحت عين الجيش نفسه!.
من رحم هذا الواقع كانت الاجتماعات والمؤتمرات الصحافية التي شهدتها صيدا أمس؛ المؤتمر الصحافي في مركز الرحمة في عبرا لإطلاع الرأي العام على الدمار الذي حل به بعد احتلاله من مقاتلي الحزب، والمؤتمر الصحافي لعلماء صيدا في مسجد حمزة في عبرا، لاستنكار وجود سلاح غير شرعي روّع المدنيين أثناء المعركة التي كان يخوضها الجيش مع السلاح غير الشرعي لجماعة الأسير، وتصريح مفتي صيدا الشيخ سليم سوسان عن التجاوزات "التي تنذر بفتنة كبيرة"، والاجتماعات والاتصالات التي عُقدت في الإعلام أو بعيداً عن الأضواء مع مخابرات الجيش لعرض تجاوزات القوى غير الشرعية وطلب وقفها.
في الشارع كما لدى السياسيين؛ هناك شعور حقيقي بأن "حزب الله" ارتاح بعد شطب ظاهرة الشيخ أحمد الأسير، بالشكل الذي كانت عليه، لكن شعور الحزب بالحاجة إلى تنظيف الساحة الداخلية مما يعتبرها خناجر في ظهره، لا يقتصر على الأسير ولا على صيدا، إذ ثمة مؤشرات عديدة على تصاعد التوتر بينه وبين "الجماعة الإسلامية" والقوى السلفية، كهدف تالٍ محتمل على صعيد ضرب القوى السياسية. إضافة إلى حاجته لـ "تأديب" أو "تطهير" مناطق يعتبرها حاضناً لـ "التكفيريين"؛ كطرابلس والطريق الجديدة والناعمة وعرسال وبعض مناطق البقاع الغربي.
ورغم أن صوت القوى السلفية وحضورها المسلح، لا سيما في الشمال هو الطاغي، إلا أن الحزب ينظر إلى الجماعة بعين الريبة أكثر؛ فهي الأكثر تنظيماً والأوسع امتداداً لبنانياً وإقليمياً. حذُر الحزب من "الجماعة" على صلة أيضاً بحذره من "الاخوان المسلمين" عموماً؛ إذ بعد أن رحّب بصعودهم بعد ثورات الربيع العربي؛ أخذ في مخاصمتهم لاحقاً على خلفية مواقف كثيرة اتخذوها؛ أكثرها حساسية موقفهم من الثورة السورية. يشمل هذا الواقع أيضاً حركة حماس، المتهمة بـ "قلة الوفاء" وانحيازها إلى المحور المعادي للمقاومة.
احتك الحزب بـ "الجماعة" مؤخراً أكثر من مرة، وربما قصدها تعريضاً الأمين العام للحزب عند ذكر قوى لبنانية سبقته إلى سوريا. اتهمها أمن الحزب بنقل جرحى الجيش الحر بسيارات الإسعاف التابعة لها، فاستهدفوا هذه السيارات غير مرة. وقعت احتكاكات مع حركة "أمل" تارة ومع الحزب تارة أخرى في بيروت.
أما في صيدا؛ حيث يكبر الشعور بالاستهداف، فتتهم أوساط الحزب "الجماعة" بأنها أرادت أن تحاكي السقف العالي للأسير، وأقامت مهرجاناً في المعلب البلدي لصيدا (ملعب الشهيد رفيق الحريري)؛ حضره الآلاف، لدعم الجيش الحر؛ استضافت فيه فضل شاكر وآخرين، وبحضور مئات من عناصر الجماعة بلباس موحد، وقد شتم فيه الجمهور السيد حسن نصر الله بهتافات معروفة (نقلته أكثر من فضائية عربية). كما أنها جمعت تبرعات لصالح الجيش الحر، وأنها سكتت عن الأسير و"ممارساته" المعادية للحزب.
مؤشرات انزعاج الحزب من "الجماعة" قبل معركة صيدا؛ كانت واضحة في الحملة التي شنها الشيخ ماهر حمود على "الاخوان المسلمين" و"الجماعة" تحديداً لأنها "تكتم الحق" حول ممارسات الأسير، وفي تصريحات بعض الأسماء الصغيرة المرتبطة بالحزب؛ التي كانت تحذر الجماعة من عواقب مواقفها، وفي الاحتكاكات المتكررة التي جرت بين السرايا أو التنظيم الناصري وأنصار "الجماعة" في صيدا على خلفية تعليق لافتات دعم الثورة السورية.
أثناء الاشتباكات في صيدا تفجّرَ انزعاج الحزب من "الجماعة" بصورة واضحة. ثمة ثلاثة حوادث واضحة على ذلك؛ إطلاق النار على مركز الرحمة واحتلاله وتحطيم محتوياته بشكل واسع، واستهداف سيارات الإسعاف التابعة لـ "الجماعة" (الجمعية الطبية) -مع أنها كانت تنقل جرحى الجيش اللبناني وشهدائه أيضاً-، وإطلاق النار عمداً على مسجد الإمام علي في محلة الفيلات في صيدا، وتحطيم بعض كاميرات المراقبة.
ما بين الحزب و"أعدائه الخونة"؛ ثمة بلد يتفتت من دون أن تلوح في الأفق مؤشرات قوية على تغيير هذا المسار الكارثي