بين "مجزرة حماة الكبرى" و"ثورة الكرامة السورية":
الثوار تغيّروا.. والنظرة إلى العلاقة بلبنان أيضاً
فادي شامية
في 2 شباط 1982 بدأت الحرب على مدينة حماة. استمر القتل والتهديم الرهيب إلى 23 من الشهر نفسه. الحسم حصل في الأيام الأولى وما تلا ذلك كان وقتاً لـ "التمشيط" والاعتقال، والاستباحة؛ سرقةً واغتصاباً للنساء!. عُرفت هذه الأحداث باسم مجزرة حماة الكبرى (الثانية)، وقد راح ضحيتها ما بين 30 إلى 40 ألف سوري –حسب معارضي النظام-، غالبيتهم الساحقة لا علاقة لهم بـ "الأخوان المسلمين" الذين أراد الرئيس حافظ الأسد القضاء على معارضتهم له.
المعارضة قبل ثلاثين عاماً
بالعودة إلى ذلك الزمن؛ كان واضحاً أن الصدام بين حافظ الأسد و"الأخوان" حاصل لا محالة، لكن أحداً لم يكن يتوقع قسوة ما حصل. حافظ الأسد قالها أمام مؤتمر حزبه الثالث عشر بدمشق في تموز1980: "الخطّة السياسية إزاء الإخوان المسلمين وأمثالهم لا يمكن أن تكون إلا خطّة استئصالية"!. الاستئصال لديه تمثل بمجازر تمهيدية متتالية: مجزرة جسر الشغور (60 قتيلاً في 10/3/1980)- مجزرة حماة الأولى ( بين 5-12/4/1980)- مجزرة سجن تدمر (27/6/1980 قُتل فيها 1181 من المعتقلين السياسيين الإسلاميين)- مجزرة حي المشارقة ـ حلب (صباح عيد الفطر في 11/8/1980، قُتل فيها نحو مئة؛ دفنتهم الجرافات في مقبرة هنانو، بعضهم كان ما زال جريحاً لم يُفارق الحياة)... ثم وقعت مجزرة حماة الكبرى!.
بطبيعة الحال؛ استغل النظام تهور "الطليعة المقاتلة"، وهي المجموعة التي انسلخت عن "الأخوان" واتخذت مساراً عنفياً في مواجهة ظلم النظام، لا سيما هجوم "الطليعة" على مدرسة المدفعية في 16/6/1979، والتي قُتل فيها 35 طالباً عسكرياً. كما قام النظام نفسه بعمليات اغتيال نسبها إلى "الطليعة المقاتلة"، والأهم أن "بروباغندا" النظام لم تُفرّق بين "الطليعة المقاتلة" و"الأخوان المسلمين"، بل حشرت الجماعة كلها؛ فجعلتها والمنشقين عنها في خانة واحدة، عندما صدر القانون رقم 49 في 7/7/1980، والذي تنص مادّته الأولى على أنه "يُعتبر مجرماً ويُعاقب بالإعدام كلّ منتسبٍ لتنظيم جماعة الإخوان المسلمين"!.
في ذلك الزمن؛ لم يحسن معارضو الأسد مواجهته. آلته الإعلامية تفوقت عليهم؛ فعزلتهم في خانة الطروحات الطائفية المشبوهة. كان المد القومي في أوجه، وكانت الطروحات المقابلة موصومة حكماً بالرجعية. لم تتحرك المدن السورية نصرةً لحماة، إما رفضاً لسياسة "الأخوان المسلمين"، وإما خوفاً من بطش النظام. لم يشكل "الأخوان" جبهة شعبية تتعدى المتعاطفين معهم، وأكثرهم في حماة، فاستُفردت المدينة وعوقبت على احتضانها "الأخوان".
ولم يكن الإعلام في ذلك الزمن كحاله اليوم، وفي ظل تحكم النظام بكل شيء، لم يدرك العالم إلا متأخراً حقيقة ما جرى هناك، وربما لم يدرك أحد في هذا العالم بعد كل ما جرى!. أوصل النظام رسالته: لا حياة لشيء اسمه "الأخوان" بعد اليوم. ولا إمكانية لمعارضة لا يرضى النظام عن خطابها في سوريا في عهد حافظ الأسد، بدليل أن القمع وحال الطوارئ استمرت إلى ما بعد زوال "الأخوان" عن سوريا، لدرجة أن مجرد لفظ اسمهم بات ممنوعاً!.
الثورة اليوم
ورث بشار الأسد الحكم عن أبيه. كل شيء كان ممهداً لـ "قيادة إلى الأبد" (كما تقول شعارات النظام). بات همّ المعارضين السوريين، وعلى رأسهم "الأخوان المسلمون"، مجرد العودة إلى أرض الوطن. توسطت "حماس" و"الجماعة الإسلامية في لبنان"، والعلامة يوسف القرضاوي، وغيرهم لتحقيق ذلك، لكن بشار الأسد لم يجد نفسه مضطراً لـ "العفو"!.
ومع مرور السنين كان كل شيء يتغير؛ لم يعد خطاب "الأخوان المسلمين" هو نفسه نهاية سبعينيات وأوائل ثمانينيات القرن الماضي. انتشارهم في أصقاع الأرض، وقراءتهم في تجربتهم المريرة، واحتكاكهم بأطياف المعارضة السورية المنفية والمطرودة والخائفة علمتهم إنتاج خطاب جديد؛ بات مقبولاً أكثر بكثير من خطاب "حزب البعث" البالي، فوضعوا "ميثاق الشرف الوطني للعمل السياسي في سوريا"، وتعلموا من الغرب أشياء كانت تنقصهم. خصمهم السابق عبد الحليم خدام انشق أيضاً وتحالف معهم فترة من الزمن. آخرون أيضاً انشقوا عن النظام؛ منهم من انضم إلى معارضة الخارج، ومنهم انتُحر، ومنهم من فر وصمت، ومنهم من خاف وسكت.
وفيما كان العالم يتغير بسرعة نحو الحرية، متأثراً بظواهر لافتة في المجال الإعلامي؛ "العولمة الإعلامية"، و"الانفجار الإعلامي"، وانتشار "الإعلام الاجتماعي"... ظل "نظام البعث الأخير" على جموده الكامل. ضيّع بشار زهوة انتخابه رئيساً شاباً، وأهدر آمال "ربيع دمشق"، ثم ارتكب حماقته في لبنان، فاندلعت "ثورة الأرز"، وأُخرج جيشه من لبنان ذليلاً... ثم حل موسم الثورات العربية، ولم ير الأسد في ذلك كله أي شيء يستحق التغيير، بدليل أنه نصّب نفسه واعظاً للحكام العرب، الذين سبقوه إلى السقوط، فقال قبل شهر ونصف على اندلاع الثورة في بلاده: "إذا لم تكن ترى الحاجة للإصلاح قبل ما جرى في مصر وتونس، فقد فاتك الوقت أن تقوم بأية إصلاحات... وما تعرضت له مصر وتونس هو نتاج اليأس، وانعدام الأمل والكرامة"!.
وفي وقت كان كثيرون يظنون أن سوريا معزولة عن الثورات العربية، وأن نظام الأسد راسخ رسوخ الجبال؛ شاء القدر أن ينفجر الاحتقان، من حيث لم يحتسب أحد؛ من درعا التي لم تشهد في السابق أي احتجاج على النظام، ومن أضعف الناس؛ الأطفال!. لم ينجح النظام في الحسم في الأيام الأولى، ولم تسعف الحكمة بشار الأسد في خطابه الأول...فانتهى كل شيء!، وما الذي يجري وسيجري إلا سيرورة دموية، لحتمية تاريخية، ستُبصر النور في وقت قريب–إن شاء الله!.
ولدى إجراء المقارنة بين الماضي والحاضر؛ يتضح أن ثورة 15 آذار 2011 لا تشبه معارضة "الأخوان المسلمين" للأسد وقت مجزرة حماة عام 1982، وأن ما فعله الوالد في حماة لا يمكن للولد أن يكرره، ولو استعان بالمستشارين أنفسهم. لم تعد حماة وحدها، والمدن السورية باتت تطلب السماح منها بعد ثلاثين عاماً، ومن قبل هتفت المدن لبعضها: "نحنا معاكم للموت". لم يعد النظام قادراً على خنق الإعلام لأن كل ضحية صار مراسلاً ومذيعاً ومصوراً في الوقت نفسه. الثائرون ما عادوا فصيلاً واحداً، بل مزيج هائل من تنوع الشارع السوري، وهؤلاء انتظموا في تنسيقيات، والأحزاب و"المجلس الوطني" و"الجيش الحر" وكل المعارضة هي في الواقع تبعٌ لهذا الشارع، وهذا الشارع لن يعود قبل أن يصنع "الثورة الشاملة"!.
لبنان في قلب الثورة
ولأن الفوارق كبيرة جداً بين ما جرى وقت مجزرة حماه وما يجري اليوم، فإن لبنان بات في قلب الثورة السورية، ليس من باب التغييرات المتوقعة جراء تغير النظام في سوريا فحسب، وإنما من باب أن القوى الثائرة باتت تنظر إلى لبنان- للمرة الأولى- بهذا الشكل المختلف، والذي يجيب عن إشكالية مزمنة في علاقة البلدين، إذ ليس قليلاً أبداً في ظل آلة الموت الرهيبة، أن يبعث "المجلس الوطني السوري" رسالةً مفتوحة إلى الدولة اللبنانية؛ يعيد فيها تأسيس العلاقات اللبنانية- السورية على قواعد جديدة، لطالما تمناها لبنان: "إعادة النظر في الاتّفاقات الموقّعة بين البلدين في سبيل التوصّل إلى اتّفاقات جديدة تراعي مصالح كلّ من البلدين من جهة، والمصالح المشتركة بينهما من جهة ثانية، فضلاً عن تركيز العلاقات بين البلدين والدولتين في إطار التمثيل الدبلوماسي الصحيح على مستوى سفارتين وإلغاء المجلس الأعلى اللبناني – السوريّ، وترسيم الحدود السوريّة – اللبنانيّة، ولا سيما في منطقة مزارع شبعا، وضبط الحدود المشتركة بين البلدين، وإنهاء الدور الأمني - المخابراتي، سواء التدخّل في الشؤون اللبنانيّة، أو تهريب السلاح لجعل لبنان ساحة تتنافى ومبادئ الكيان والدولة والقانون، فضلاً عن تشكيل لجنة تحقيق سوريّة - لبنانيّة مشتركة لمعالجة ملفّ المعتقلين والمفقودين اللبنانيّين في سجون النظام".
هذه العبارات المختصرة كان يلزمها دهراً كاملاً من التفاوض مع نظام الأسد –لو لم تندلع الثورة- حتى يُكتب ما يشبهها –إن كُتب-، ولكن دون تنفيذ صادق بالتأكيد. اليوم وبفضل الثورة السورية بات الصوت اللبناني يجد صداه في سوريا والعكس صحيحاً، لأن الشعبين -في غالبيتهما- اقتنعا بأن مكمن الداء هو "نظام البعث الأخير"، فبوجوده تحوّل انتقاد اللبنانيين لسياسته تحريضاً على الشعب السوري!، وبظله تفسخت وشائج المحبة بين الأخوة والمتصاهرين من اللبنانيين والسوريين!.
بفضل الثورة السورية سيكون شهداء استقلال لبنان الثاني؛ ابتداءً من رفيق الحريري ومن تلاه على الدرب شهداء لسوريا الجديدة، وسيكون شهداء "ثورة الكرامة" ورموزها؛ ابتداءً من الطفل الشهم حمزة الخطيب شهداء لبنان أيضاً!. وعلى عكس "ثورة الأرز" اللبنانية؛ تشكّل "ثورة الكرامة" السورية اليوم؛ اللحظة التاريخية لوحدة شعبين، ونهاية وصايتين، وسيادة "ديمقراطيتين"، تتناغمان اليوم عبر تبادل الرسائل المفتوحة ("المجلس الوطني" و"الأمانة العامة لـ 14 آذار") وغداً عبر تبادل سفراء من طينة وعقلية مختلفة كلياً عمن يُسمى اليوم سفيراً لسوريا في لبنان!.