نِعْمَ الرجل عبدالله لو كان يصلي من "
" الليل فيكثر
حديث شريف
عبد الله بن عمر بن الخطاب بدأت علاقته مع الإسلام منذ أن هاجر مع والده الى المدينة
وهو غلام صغير ، ثم وهو في الثالثة عشر من عمره حين صحبه والده لغزوة بدر لولا
أن رده الرسول -صلى الله عليه وسلم- لصغر سنه ، تعلم من والده عمر بن الخطاب
خيرا كثيرا ، وتعلم مع أبيه من الرسول العظيم الخير كله ، فأحسنا الإيمان
محاكاة الرسول
كان عبد الله بن عمر ( أبو عبد الرحمن ) حريصا كل الحرص على أن يفعل ما كان الرسول -صلى الله عليه وسلم- يفعله ، فيصلي في ذات المكان ، ويدعو قائما كالرسول الكريم ، بل يذكر أدق التفاصيل ففي مكة دارت ناقة الرسول -صلى الله عليه وسلم- دورتين قبل أن ينزل الرسول من على ظهرها ويصلي ركعتين ، وقد تكون الناقة فعلت ذلك بدون سبب لكن عبد الله لا يكاد يبلغ نفس المكان في مكة حتى يدور بناقته ثم ينيخها ثم يصلي لله ركعتين تماما كما رأى الرسول -صلى الله عليه وسلم- يفعل ، وتقول في ذلك أم المؤمنين عائشة -رضي الله عنها -:( ما كان أحد يتبع آثار النبي -صلى الله عليه وسلم- في منازله كما كان يتبعه ابن عمر )
حتى أنّ النبي -صلى الله عليه وسلم- نزل تحت شجرة ، فكان ابن عمر يتعاهد تلك الشجرة فيصبُّ في أصلها الماء لكيلا تيبس ، قال الرسول -صلى الله عليه وسلم- :( لو تركنا هذا الباب للنّساء ) فلم يدخل فيه ابن عمر حتى مات
الجهاد
أول غزوات عبد الله بن عمر كانت غزوة الخندق ، فقد اسْتُصْغِرَ يوم أحد ، ثم شهد ما بعدها من المشاهد ، وخرج إلى العراق وشهد القادسية ووقائع الفرس ، وورَدَ المدائن ، وشهد اليرموك ، وغزا إفريقية مرتين
يقول عبد الله :( عُرضتُ على النبي -صلى الله عليه وسلم- يوم بدر وأنا ابن ثلاث عشرة فردّني ، ثم عرضتُ عليه يوم أحد وأنا ابن أربع عشرة فردّني ثم عرضت عليه يوم الخندق وأنا ابن خمسَ عشرة فأجازني
وكان ابن عمر رجلاً آدم جسيماً ضخماَ ، يقول ابن عمر :( إنّما جاءتنا الأدْمة من قبل أخوالي ، والخال أنزعُ شيء ، وجاءني البُضع من أخوالي ، فهاتان الخصلتان لم تكونا في أبي رحمه الله ، كان أبي أبيض ، لا يتزوّج النساء شهوةً إلا لطلب الولد )
قيام الليل
يحدثنا ابن عمر -رضي الله عنهما- :( رأيت على عهد رسول الله -صلى الله عليه وسلم- كأن بيدي قطعة إستبرق ، وكأنني لا أريد مكانا من الجنة إلا طارت بي إليه ، ورأيت كأن اثنين أتياني وأرادا أن يذهبا بي إلى النار ، فإذا هي مطوية كطي البئر ، فإذا لها قرنان كقرني البئر ، فرأيت فيها ناساً قد عرفتهم ، فجعلت أقول :( أعوذ بالله من النار أعوذ بالله من النار ) فلقينا ملك فقال :( لا تُرَع ) فخليا عني ، فقصت حفصة أختي على النبي -صلى الله عليه سلم- رؤياي فقال رسول الله -صلى الله عليه وسلم- :( نِعْمَ الرجل عبد الله لو كان يصلي من الليل فيكثر ) ومنذ ذلك اليوم الى أن لقي ربه لم يدع قيام الليل في حلِّه أو ترحاله
القرآن
كان عبدالله مثل أبيه -رضي الله عنهما- تهطل دموعه حين يسمع آيات النذير في القرآن ، فقد جلس يوما بين إخوانه فقرأ :(
ويل للمُطَفِّفين الذين إذا اكتالوا على الناس يستوفون ، وإذا كالوهم أو وَزَنوهم يُخسرون ، ألا يظن أولئك أنهم مبعوثون ليوم عظيم ، يوم يقوم الناس لرب العالمين )
ثم مضى يردد :( يوم يقوم الناس لرب العالمين ) ودموعه تسيل كالمطر ، حتى وقع من كثرة وجده وبكائه
قال ابن عمر :( مكثتُ على سورة البقرة ثماني سنين أتعلّمها ) وقال :( لقد عشنا بُرهةً من دهرنا وأحدنا يرى الإيمان قبل القرآن ، وتنزل السورة على محمد -صلى الله عليه وسلم- فتعلّم حلالها وحرامها ، وأمرها وزاجرها ، وما ينبغي أن نقف عنده منها كما تعلّمون أنتم القرآن ، ثم رأيتُ اليوم رجالاً لا يرى أحدُهم القرآن قبل الإيمان ، فيقرأ ما بين فاتحته إلى خاتمته ، وما يدري ما أمره ولا زاجره ، ولا ما ينبغي أن يقف عنده منه ، فينثرُ نثرَ الدَّقَل )
العلم
كتب رجل إلى ابن عمر فقال :( اكتبْ إليّ بالعلم كلّه ) فكتب إليه ابن عمر :( إنّ العلم كثيرٌ ، ولكن إن استطعتَ أن تلقى الله خفيفَ الظهر من دماء الناس ، خميص البطن من أموالهم ، كافاً لسانك عن أعراضهم ، لازماً لأمر الجماعة فافعل ، والسلام )
القضاء
دعاه يوما الخليفة عثمان -رضي الله عنهما- وطلب منه أن يشغل منصب القضاء ، فاعتذر وألح عليه عثمان فثابر على اعتذاره ، وسأله عثمان :( أتعصيني ؟) فأجاب ابن عمر :( كلا ولكن بلغني أن القضاة ثلاثة ، قاض يقضي بجهل فهو في النار ، وقاض يقضي بهوى فهو في النار ، وقاض يجتهد ويصيب فهو كفاف لا وزر ولا أجر ، وإني لسائلك بالله أن تعفيني ) وأعفاه عثمان بعد أن أخذ عليه عهدا ألا يخبر أحدا ، لأنه خشي إذا عرف الأتقياء الصالحون أن يتبعوه وينهجوا نهجه
حذره
كان -رضي الله عنه- شديد الحذر في روايته عن الرسول -صلى الله عليه وسلم- ، فقد قال معاصروه :( لم يكن من أصحاب رسول الله أحد أشد حذرا من ألا يزيد في حديث رسول الله أو ينقص منه من عبد الله بن عمر ) كما كان شديد الحذر والحرص في الفُتيا ، فقد جاءه يوما سائل يستفتيه في سؤال فأجابه قائلا :( لا علم لي بما تسأل ) وذهب الرجل الى سبيله ، ولا يكاد يبتعد بضع خطوات عن ابن عمر حتى يفرك ابن عمر كفيه فرحا ويقول لنفسه :( سئل ابن عمر عما لا يعلم ، فقال لا يعلم )
وسأل رجلٌ ابن عمر عن مسألة فطأطأ ابن عمر رأسه ، ولم يُجبه حتى ظنّ الناس أنّه لم يسمع مسألته ، فقال له :( يرحمك الله ما سمعت مسألتي ؟) قال :( بلى ، ولكنكم كأنّكم ترون أنّ الله ليس بسائلنا عما تسألونا عنه ، اتركنا يرحمك الله حتى نتفهّم في مسألتك ، فإن كان لها جوابٌ عندنا ، وإلا أعلمناك أنه لا علم لنا به )
جوده
كان ابن عمر -رضي الله عنه- من ذوي الدخول الرغيدة الحسنة ، إذ كان تاجراً أميناً ناجحاً ، وكان راتبه من بيت مال المسلمين وفيرا ، ولكنه لم يدخر هذا العطاء لنفسه قط ، إنما كان يرسله على الفقراء والمساكين والسائلين ، فقد رآه ( أيوب بن وائل الراسبي ) وقد جاءه أربعة آلاف درهم وقطيفة ، وفي اليوم التالي رآه في السوق يشتري لراحلته علفاً ديناً ، فذهب أيوب بن وائل الى أهل بيت عبد الله وسألهم ، فأخبروه :( إنه لم يبت بالأمس حتى فرقها جميعا ، ثم أخذ القطيفة وألقاها على ظهره و خرج ، ثم عاد وليست معه ، فسألناه عنها فقال إنه وهبها لفقير )
فخرج ابن وائل يضرب كفا بكف ، حتى أتى السوق وصاح بالناس :( يا معشر التجار ، ما تصنعون بالدنيا ، وهذا ابن عمر تأتيه آلاف الدراهم فيوزعها ، ثم يصبح فيستدين علفاً لراحلته !!) كما كان عبد الله بن عمر يلوم أبناءه حين يولمون للأغنياء ولا يأتون معهم بالفقراء ويقول لهم :( تَدْعون الشِّباع وتَدَعون الجياع )
زهده
أهداه أحد إخوانه القادمين من خُراسان حُلة ناعمة أنيقة وقال له :( لقد جئتك بهذا الثوب من خراسان ، وإنه لتقر عيناي إذ أراك تنزع عنك ثيابك الخشنة هذه ، وترتدي هذا الثوب الجميل ) قال له ابن عمر :( أرِنيه إذن ) ثم لمسه وقال :( أحرير هذا ؟) قال صاحبه :( لا ، إنه قطن ) وتملاه عبد الله قليلا ، ثم دفعه بيمينه وهو يقول :( لا إني أخاف على نفسي ، أخاف أن يجعلني مختالا فخورا ، والله لا يحب كل مختال فخور )
وأهداه يوما صديق وعا مملوءاً ، وسأله ابن عمر :( ما هذا ؟) قال :( هذا دواء عظيم جئتك به من العراق ) قال ابن عمر :( وماذا يُطَبِّب هذا الدواء ؟) قال :( يهضم الطعام ) فابتسم ابن عمر وقال لصاحبه :( يهضم الطعام ؟ إني لم أشبع من طعام قط منذ أربعين عاما )
لقد كان عبد الله -رضي الله عنه- خائفا من أن يقال له يوم القيامة :( أَذْهَبتم طيّباتكم في حياتكم الدنيا واستمتعتم بها ) كما كان يقول عن نفسه :( ما وضعت لَبِنَة على لَبِنَة ولا غرست نخلة منذ توفي رسول الله -صلى الله عليه وسلم-) ويقول ميمون بن مهران :( دخلت على ابن عمر ، فقوّمت كل شيء في بيته من فراش ولحاف وبساط ، ومن كل شيء فيه ، فما وجدته يساوي مائة درهم )
خوفه
كان إذا ذُكِّر عبد الله بن عمر بالدنيا ومتاعها التي يهرب منها يقول :( لقد اجتمعت وأصحابي على أمر ، وإني لأخاف إن خالفتهم ألا ألحق بهم ) ثم يخبر الآخرين أنه لم يترك الدنيا عجزا ، فيرفع يديه الى السماء ويقول :( اللهم إنك تعلم أنه لولا مخافتك لزاحمنا قومنا قريشاً في هذه الدنيا )
قال ابن عمر :( لقد بايعت رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فما نكثتُ ولا بدّلتُ إلى يومي هذا ، ولا بايعتُ صاحب فتنة ، ولا أيقظت مؤمناً من مرقده )
الخلافة
عرضت الخلافة على ابن عمر -رضي الله عنه- عدة مرات فلم يقبلها ، فهاهو الحسن -رضي الله عنه- يقول :( لما قُتِل عثمان بن عفان ، قالوا لعبد الله بن عمر :( إنك سيد الناس وابن سيد الناس ، فاخرج نبايع لك الناس ) قال :( إني والله لئن استطعت ، لا يُهْرَاق بسببي مِحْجَمَة من دم ) قالوا :( لَتَخْرُجَنّ أو لنقتُلك على فراشك ) فأعاد عليهم قوله الأول فأطمعوه وخوفوه فما استقبلوا منه شيئاً )
فقد كان ابن عمر يأبى أن يسعى الى الخلافة إلا إذا بايعه المسلمون جميعا طائعين وليس بالسيف ، فقد لقيه رجلا فقال له :( ما أحد شر لأمة محمد منك ) قال ابن عمر :( ولم ؟ فوالله ما سفكت دماءهم ولا فرقت جماعتهم ولا شققت عصاهم ) قال الرجل :( إنك لو شئت ما اختلف فيك اثنان ) قال ابن عمر :( ما أحب أنها أتتني ، ورجل يقول : لا ، وآخر يقول : نعم )
واستقر الأمر لمعاوية ومن بعده لابنه يزيد ثم ترك معاوية الثاني ابن يزيد الخلافة زاهدا فيها بعد أيام من توليها ، وكان عبد الله بن عمر شيخا مسناً كبيراً فذهب إليه مروان وقال له :( هَلُمّ يدك نبايع لك ، فإنك سيد العرب وابن سيدها ) قال له ابن عمر :( كيف نصنع بأهل المشرق ؟) قال مروان :( نضربهم حتى يبايعوا ) قال ابن عمر :( والله ما أحب أنها تكون لي سبعين عاما ، ويقتل بسببي رجل واحد ) فانصرف عنه مروان
موقفه من الفتنة
رفض -رضي الله عنه- استعمال القوة والسيف في الفتنة المسلحة بين علي ومعاوية ، وكان الحياد شعاره ونهجه :( من قال حيّ على الصلاة أجبته ، ومن قال حيّ على الفلاح أجبته ، ومن قال حيّ على قَتْل أخيك المسلم وأخذ ماله قلت : لا ) يقول أبو العالية البراء :( كنت أمشي يوما خلف ابن عمر وهو لا يشعر بي فسمعته يقول :( واضعين سيوفهم على عَوَاتِقِهم يقتل بعضهم بعضا يقولون : ياعبد الله بن عمر أَعْطِ يدك ))
وقد سأله نافع :( يا أبا عبد الرحمن ، أنت ابن عمر ، وأنت صاحب الرسول -صلى الله عليه وسلم- ، وأنت وأنت فما يمنعك من هذا الأمر -يعني نصرة علي- ؟) فأجابه قائلا :( يمنعني أن الله تعالى حرّم عليّ دم المسلم ، لقد قال عزّ وجل :( قاتلوهم حتى لا تكون فتنة ويكون الدين لله ) ولقد فعلنا وقاتلنا المشركين حتى كان الدين لله ، أما اليوم ففيم نُقاتل ؟ لقد قاتلت والأوثان تملأ الحرم من الركن الى الباب ، حتى نضاها الله من أرض العرب ، أفأُقاتل اليوم من يقول : لا إله إلا الله ؟!)
الوصية
ذُكرت الوصية لابن عمر في مرضه فقال ابن عمر -رضي الله عنه- :( أمّا مالي فالله أعلم ما كنت أفعل فيه ، وأمّا رباعي وأرضي فإنّي لا أحب أن يُشارك ولدي فيها أحد ) ولمّا حضر ابن عمر الموت قال :( ما آسى على شيءٍ من الدنيا إلا على ثلاث : ظمأ الهواجر ، ومكابدة الليل ، وأني لم أقاتل هذه الفئة التي نزلت بنا ) يعني الحجاج
وفاته
وقد كف بصر عبد الله بن عمر -رضي الله عنه- آخر عمره ، وفي العام الثالث والسبعين للهجرة توفي -رضي الله عنه- بمكة وهو في الخامسة والثمانين من عمره