رضي الله عنه
" لقد أوتي أبوموسى مزمارا من مزامير آل داود "
حديث شريف
انه عبدالله بن قيس المكني ب( أبي موسى الأشعري )، أمّهُ ظبية المكيّة بنت وهب
أسلمت وتوفيت بالمدينة ، كان قصيراً نحيفاً خفيف اللحيّة ، غادر وطنه اليمن الى
الكعبة فور سماعه برسول يدعو الى التوحيد ، وفي مكة جلس بين يدي الرسول الكريم
وتلقى عنه الهدى واليقين ، وعاد الى بلاده يحمل كلمة الله
السفينة
قال أبو موسى الأشعري :( بلغنا مخرج رسول الله -صلى الله عليه وسلم- ونحن باليمن ، فخرجنا مهاجرين إليه ، أنا وأخوانِ لي أنا أصغرهما أحدهَما أبو بُرْدة والآخر أبو رُهْم ، وبضع وخمسين رجلا من قومي فركبنا سفينة ، فألْقَتْنا سفينتنا إلى النجاشي بالحبشة ، فوافَقْنا جعفر بن أبي طالب وأصحابه عنده ، فقال جعفر :( إنّ رسول الله -صلى الله عليه وسلم- بعثنا وأمرنا بالإقامة ، فأقيموا معنا ) فأقمنا معه حتى قدمنا جميعاً )
قدوم المدينة
قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم- لأصحابه :( يقدم عليكم غداً قومٌ هم أرقُّ قلوباً للإسلام منكم ) فقدِمَ الأشعريون وفيهم أبو موسى الأشعري ، فلمّا دَنَوْا من المدينة جعلوا يرتجزون يقولون :( غداً نلقى الأحبّة ، محمّداً وحِزبه ) فلمّا قدموا تصافحوا ، فكانوا هم أوّل مَنْ أحدث المصافحة
اتفق قدوم الأشعريين وقدوم جعفر وفتح خيبر ، فأطعمهم النبي -صلى الله عليه وسلم- من خيبر طُعْمة ، وهي معروفة ب طُعْمَة الأشعريين ، قال أبو موسى :( فوافَقْنا رسول الله -صلى الله عليه وسسلم- حين افتتح خيبر ، فأسهم لنا ، وما قسم لأحد غاب عن فتح خيبر شيئاً إلا لمن شهد معه ، إلا لأصحاب سفينتنا مع جعفر وأصحابه ، قسم لهم معنا )
فضله
ومن ذلك اليوم أخذ أبوموسى مكانه العالي بين المؤمنين ، فكان فقيها حصيفا ذكيا ، ويتألق بالافتاء والقضاء حتى قال الشعبي :( قضاة هذه الأمة أربعة : عمر وعلي وأبوموسى وزيد بن ثابت ) وقال :( كان الفقهاء من أصحاب محمد -صلى الله عليه وسلم- ستة : عمر وعليّ وعبدالله بن مسعود وزيد وأبو موسى وأبيّ بن كعب )
القرآن
وكان من أهل القرآن حفظا وفقها وعملا ، ومن كلماته المضيئة :( اتبعوا القرآن ولا تطمعوا في أن يتبعكم القرآن ) وإذا قرأ القرآن فصوته يهز أعماق من يسمعه حتى قال الرسول -صلى الله عليه وسلم- :( لقد أوتي أبو موسى مزمارا من مزامير آل داود ) وكان عمر يدعوه للتلاوة قائلا :( شوقنا الى ربنا يا أبا موسى )
الصوم
وكان أبو موسى -رضي الله عنه- من أهل العبادة المثابرين وفي الأيام القائظة كان يلقاها مشتاقا ليصومها قائلا :( لعل ظمأ الهواجر يكون لنا ريّا يوم القيامة ) وعن أبي موسى قال :( غزونا غزوةً في البحر نحو الروم ، فسرنا حتى إذا كنّا في لُجّة البحر ، وطابت لنا الريح ، فرفعنا الشراع إذْ سمعنا منادياً يُنادي :( يا أهل السفينة قِفُوا أخبرْكم ) قال : فقمتُ فنظرتُ يميناً وشمالاً فلم أرَ شيئاً ، حتى نادى سبع مرات فقلتُ :( من هذا ؟ ألا ترى على أيّ حالٍ نحن ؟ إنّا لا نستطيع أن نُحْبَسَ ) قال :( ألا أخبرك بقضاءٍ قضاه الله على نفسه ؟) قلتُ :( بلى ) قال :( فإنّه من عطّش نفسه لله في الدنيا في يومٍ حارّ كان على الله أن يرويه يوم القيامة ) فكان أبو موسى لا تلقاه إلا صائماً في يوم حارٍ
في مواطن الجهاد
كان أبوموسى -رضي الله عنه- موضع ثقة الرسول وأصحابه وحبهم ، فكان مقاتلا جسورا ، ومناضلا صعبا ، فكان يحمل مسئولياته في استبسال جعل الرسول -صلى الله عليه وسلم- يقول عنه :( سيد الفوارس أبوموسى ) ويقول أبوموسى عن قتاله :( خرجنا مع رسول الله في غزاة ، نقبت فيها أقدامنا ، ونقبت قدماي ، وتساقطت أظفاري ، حتى لففنا أقدامنا بالخرق ) وفي حياة رسول الله ولاه مع معاذ بن جبل أمر اليمن
الامارة
وبعد وفاة الرسول -صلى الله عليه وسلم- عاد أبوموسى من اليمن الى المدينة ، ليحمل مسئولياته مع جيوش الاسلام ، وفي عهد عمر ولاه البصرة سنة سبعَ عشرة بعد عزل المغيرة ، فجمع أهلها وخطب فيهم قائلا :( ان أمير المؤمنين عمر بعثني اليكم ، أعلمكم كتاب ربكم ، وسنة نبيكم ، وأنظف لكم طرقكم ) فدهش الناس لأنهم اعتادوا أن يفقههم الأمير ويثقفهم ، ولكن أن ينظف طرقاتهم فهذا ما لم يعهدوه أبدا ، وقال عنه الحسن -رضي الله عنه- :( ما أتى البصرة راكب خير لأهلها منه ) فلم يزل عليها حتى قُتِلَ عمر -رضي الله عنه-
كما أن عثمان -رضي الله عنه- ولاه الكوفة ، قال الأسود بن يزيد :( لم أرَ بالكوفة من أصحاب محمدٍ -صلى الله عليه وسلم- أعلم من عليّ بن أبي طالب والأشعري )
أهل أصبهان
وبينما كان المسلمون يفتحون بلاد فارس ، هبط الأشعري وجيشه على أهل أصبهان الذين صالحوه على الجزية فصالحهم ، بيد أنهم لم يكونوا صادقين ، وانما أرادوا أن يأخذوا الفرصة للاعداد لضربة غادرة ، ولكن فطنة أبي موسى التي لم تغيب كانت لهم بالمرصاد ، فعندما هموا بضربتهم وجدوا جيش المسلمين متأهبا لهم ، ولم ينتصف النهار حتى تم النصر الباهر
موقعة تستر
في فتح بلاد فارس أبلى القائد العظيم أبوموسى الأشعري البلاء الكريم ، وفي موقعة التستر ( 20 ه ) بالذات كان أبوموسى بطلها الكبير ، فقد تحصن الهُرْمُزان بجيشه في تستر ، وحاصرها المسلمون أياما عدة ، حتى أعمل أبوموسى الحيلة فأرسل مائتي فارس مع عميل فارسي أغراه أبوموسى بأن يحتال حتى يفتح باب المدينة ، ولم تكاد تفتح الأبواب حتى اقتحم جنود الطليعة الحصن وانقض أبوموسى بجيشه انقضاضا ، واستولى على المعقل في ساعات ، واستسلم قائد الفرس ، فأرسله أبوموسى الى المدينة لينظر الخليفة في أمره
الفتنة
لم يشترك أبوموسى -رضي الله عنه- في قتال الا أن يكون ضد جيوش مشركة ، أما حينما يكون القتال بين مسلم ومسلم فانه يهرب ولا يكون له دور أبدا ، وكان موقفه هذا واضحا في الخلاف بين علي ومعاوية ، ونصل الى أكثر المواقف شهرة في حياته ، وهو موقفه في التحكيم بين الامام علي ومعاوية ، وكانت فكرته الأساسية هي أن الخلاف بينهما وصل الى نقطة حرجة ، راح ضحيتها الآلاف ، فلابد من نقطة بدء جديدة ، تعطي المسلمين فرصة للاختيار بعد تنحية أطراف النزاع ، وأبوموسى الأشعري على الرغم من فقهه وعلمه فهو يعامل الناس بصدقه ويكره الخداع والمناورة التي لجأ اليها الطرف الآخر ممثلا في عمرو بن العاص الذي لجأ الى الذكاء والحيلة الواسعة في أخذ الراية لمعاوية
ففي اليوم التالي لاتفاقهم على تنحية علي ومعاوية وجعل الأمر شورى بين المسلمين دعا أبوموسى عمرا ليتحدث فأبى عمرو قائلا :( ما كنت لأتقدمك وأنت أكثر مني فضلا وأقدم هجرة وأكبر سنا ) وتقدم أبوموسى وقال :( يا أيها الناس ، انا قد نظرنا فيما يجمع الله به ألفة هذه الأمة ويصلح أمرها ، فلم نر شيئا أبلغ من خلع الرجلين - علي ومعاوية - وجعلها شورى يختار الناس لأنفسهم من يرونه لها ، واني قد خلعت عليا ومعاوية ، فاستقبلوا أمركم وولوا عليكم من أحببتم ) وجاء دور عمرو بن العاص ليعلن خلع معاوية كما تم الاتفاق عليه بالأمس ، فصعد المنبر وقال :( أيها الناس ، ان أباموسى قد قال ما سمعتم ، وخلع صاحبه ، ألا واني قد خلعت صاحبه كما خلعه ، وأثبت صاحبي معاوية ، فانه ولي أمير المؤمنين عثمان والمطالب بدمه ، وأحق الناس بمقامه !!)
ولم يحتمل أبوموسى المفاجأة ، فلفح عمرا بكلمات غاضبة ثائرة ، وعاد من جديد الى عزلته الى مكة الى جوار البيت الحرام ، يقضي هناك ما بقي له من عمر وأيام
وفاته
ولمّا قاربت وفاته زادَ اجتهاده ، فقيل له في ذلك ، فقال :( إنّ الخيل إذا قاربت رأس مجراها أخرجت جميع ما عندها ، والذي بقي من أجلي أقل من ذلك ) وجاء أجل أبو موسى الأشعري ، وكست محياه اشراقة من يرجو لقاء ربه وراح لسانه في لحظات الرحيل يردد كلمات اعتاد قولها دوما :( اللهم أنت السلام ، ومنك السلام ) وتوفي بالكوفة في خلافة معاوية