وضعت هاتفي أمامي وأخذت أقرأ منه ..
وقعت عيني على طفلٍ في عُمر العشر سنوات، يدخل من باب المسجد ويلتفت يمينًا ويسارًا ثم جاء إليّ وقال بصوت يرتعد ..
هل جاء الشيخ ؟!
- أي شيخ
= الشيخ الذي يُحفظ الأطفال ..
لم أكن أعلم أن هناك مُعلماً هنا ، فهمست له وأنا أبتسم لأنتزع الخوف الذي يسكن وجهه :
لا لم يأت بعد .. إجلس بجانبي ..
جلس الطفل، وفتح مُصحفهُ وأخذ يُقلب في صفحاته ، فهمّمتُ لأقول له في أي سورة تحفظ يافتى ؟!
فقطع ذلك صوته الذي كان يرتعد من الخوف وهو يقول :
يا عمي ، هل لك أن تُقرئني مرة أو أكثر حتىٰ أحفظ السورة جيدًا ، فوالدي يئس من قلة تركيزي وضعف حيلتي .. ودائمًا يشتكي من ذلك، حتى أصبحت أستحي أن أطلب منه أن يُحفظّني القُرآن ..
وعندما أذهب إلى شيخي وأخطئ في التلاوة يغضب مني.. وأنا لا أُجيد القراءة جيدًا فبعض الكلمات تشُق عليّ ..
ابتسمت للطفل وأخذت منه المصحف وهمست له :
إقترب يا حبيب عمك .. وبدأت أُرتل وهو يرتل خلفي .
وبعد ربع ساعة طلبت منهُ أن يُسَمِع ذلك بمفرده فلم يستطع . تذكرت شيخي عندما قال لي ذات يومٍ :
إذا وجدت صعوبة في الحفظ فافهم الآيات أولًا ، ثم حاول الحفظ ثانية ..
فحفظ الآيات بمثابة قفلٍ لباب ضخم يفصل بينك وبين الجنة .. حاول فتح هذا القفل بأي مفتاح على قدر استطاعتك .. وسيُفتح الباب ان شاء الله..
نظرت إلى الطفل ثانية وهو يضغط على إصبعهِ من الخجل فتبسمت وهمست له :
دعك من الحفظ يا فتى .. هل تعرف ماذا تعني هذه الآيات وماذا يقصد بها الله !
أخذتُ أشرح للفتى الآيات حتى انتهيت من الشرح ..
ورددت السورة مرتين وهو يردد خلفي ..
ثم طلبت منه أن يقولها بمفردهِ .. فقال بعض الآيات .. وعندما يشق عليه قول آية أو لا يتذكرها ، يبتسم ويقول لي : هل أخبرك بقصتها ؟
وبعد عدة محاولات حفظ الطفل السورة .. حفظها كحفظه لسورة الإخلاص ..
جاء الشيخ وجاء الأطفال ، فاستأذن الطفل مني ليذهب إليه ، فقلت له يا فتى هل أخبرك بشيء تضعه نصب عينيك !؟
ابتسم وقال لي أجل ..
أمسكت يّد الطفل وقبلتها ثم قُلت :
سيأتي يومًا يُقال لك : يافلان هلُمَ ..
فتذهب ، فتسمع ضجيج حَفَظة القرآن ..
ويُطلب منك أن تُرتل ، والله وملائكتهُ سيستمعون إليك..
ألا تشتاق لترتل أمام الله ويقول لك رتل سورة كذا !!!
ثم ربت على كتفه وهمست له بعبارات وددتُ لو قالها أحد لي منذُ الصغر ..
- أنت الآن تُعَدُ وتُجهز لتُرتل أمام الله .. فلا تمل ولا تكل ولا تيأس ولا تشتكي من ضعف حيلتك ..
فكل عالم تارك للقرآن جاهل ..
ستكبر وتكون حاملًا لكتاب الله .. وستكون مميزًا في الدنيا عندما تكون إمامًا بالناس .. يرتعد صوتك خشوعًا أثناء تلاوتك .. وستجد نفسك في الآخرة مميزًا ومُكرمًا أمام السفرة الكرام البررة ..
وحق القرآن ليكرمنّ الله أهل القرآن ..
فالقرآن كلامه .. و ما أحب الله أحدًا كحبه لأهل القرآن..
وواللهِ لن يُعذّب الله بالنار لسانًا تلي القرآن ، ولا قلبًا وعاه، ولا أذنًا سَمِعته، ولا عينًا نظرت إلى آياته ..
هنيئًا لك زهرة شبابك التي نشأت في ظل آيات الله...
وقبّلت رأسه ثم قلت له :
الآن إذهب إلى شيخك ورتل وكأنك تُرتل في ظل عرش الرحمٰن، والله يستمع إليك .. أنا أثق أنك تستطيع .
- ذهب الطفلُ إلى شيخه .. وكنت آراه كل يومٍ ، وأُحَفِظّه في المسجد حتى يأتي شيخه .
وبعد شهرين ودعتهُ لأنني إنتقلت إلى سكنٍ أخر ، ولم أره منذ ذلك اليوم . وعلمتُ بعدها أن شيخه أيضًا انتقل ليُحَفظ في مسجدٍ آخر ..
- وبعد سبع سنواتٍ ، خرجت من عملي، وركبت السيارة فوقف السائق أمام مسجدٍ لنُصلي المغرب ..
دخلت المسجد وذهبت لأصلي حتىٰ رأيت شابًا وجههُ كقطعة من القمر يُردد :
( سَوُّوا صُفُوفَكُمْ, فَإِنَّ تَسْوِيَةَ الصُّفُوفِ مِنْ إِقَامَةِ الصَّلاةِ)..
كانت ملامح الشاب .. ملامحٌ أعرفها جيدًا .. لكنني لا أتذكر أين رأيته .. كان صوته كصوت الكروان . صوتُ يتنفس في صدر يعقوب ليعطيه الأمل ، ويبثُ البشرىٰ في قلب أم موسى بعودة طفلها .. صوتٌ يبُشر زكريا بيحيى ..
لو كنا خارج الصلاة لطلبتُ منه أن يكثر في التلاوة لأسمعه.. فتلاوتهِ كانت بمثابة الدواء إلى قلبي .. فاكتفيت أن أذكر إسمه في سجودي وقلت اللهم زدهُ ..
انتهت الصلاة وجلست لأردد أذكار ما بعد الصلاة حتى رأيت الشاب يجلس أمامي ويُقبّل رأسي ويقول :
سأشهد لك يوم القيامة أمام الله أنك كُنت سبب ما أنا عليه الآن ..
فـهمتتُ لأقول له من أنت يا فتىٰ !؟
فقطع ذلك صوته الذي كان يبتسم من شدة الفرحة وهو يقول :
يا عمي ، هل لك أن تُقرئني مرة أو أكثر حتىٰ أحفظ السورة جيدًا ، فـوالدي يئس من قلة تركيزي وضعف حيلتي..
وابتسم وعيناه تذرف الدمع ، ثم قال هل تذكرتني الآن ! ثم قام واحتضنني .. وقال:
لقد ختمت القُرآن وأخذتُ الإجازة والآن أصبحت أنا المُحفظ ..
هنيئًا لك يا عمي تاج الكرامة ، عاملتني بحبٍ وإحتضنت قلبي بلطف قلبك . وجعلت القُرآن أحب الأشياء إلي دون أن تشعر بذلك ، كنت آتي إليك ضعيفًا فترمم ضعف حيلتي ..
فهنيئًا لك الجنان بأجر ما حفظت وأجر من أُحَفظ ..
ياعمي ..
شكرًا لأنك وثقت بي عندما أقر الجميع أنني لا أستطيع "))
وقبّل الشاب رأسي وذهب إلى الأطفال ليُحفّظهم "))