بعد خطاب امتد لفترة طويلة وشمل فقرات كثيرة من الارتجال والحديث عن فترة حكم الإخوان المسلمين وعن رؤية السيسي، الذي كان وزير الدفاع آنذاك، لمصر التي وعد بأن تكون أماً للدنيا في هذا الخطاب.
سبع سنوات مرت إلا شهرين، تحول فيها السيسي من شخص ليس له طمع في السلطة إلى رئيس للبلاد بعد الانقلاب لدورة أولى. ثم ها هو يبدأ عامه الثالث من دورته الرئاسية الثانية.
تحول الطمع في السلطة إلى واقع أليم يعانيه الشعب المصري، فقد استطاع الجنرال العسكري أن يُحكم قبضته على مفاصل الدولة المصرية، تارة بزيادة الرواتب والمعاشات، كما فعلها أكثر من مرة مع أفراد القوات المسلحة المصرية العاملين في الخدمة، ومن أصبحوا على المعاش منهم.
وتارة أخرى بالإغراء بالسلطة كما يفعل مع محمد مختار جمعة وزير الأوقاف ومع شوقي علام مفتي الديار المصرية، وتارة ثالثة بالقمع والعزل والتنكيل كما فعل مع هشام جنينة رئيس الجهاز المركزي للمحاسبات الذي تحدث عن فساد كبير في عهد السيسي، فوجد نفسه معزولاً من منصبه ثم سجيناً يواجه تهماً ملفقة.
وأيضاً ما حدث مع قيادات كثيرة في القوات المسلحة عزلهم السيسي فور أن شك بإخلاصهم وولائهم المطلق وغير المشروط له هو شخصياً، أو قيادات سابقة في الجيش المصري مثل الفريق سامي عنان الذي حبسه السيسي لفترة طويلة قبل أن يطلق سراحه ويضعه قيد الإقامة الجبرية، لمجرد أنه فكر في خوض انتخابات الرئاسة عام 2018 أمام السيسي.
وفي هذا السياق يمكن فهم محاولات السيسي للسيطرة على المؤسسة الدينية بشكل كامل وإخضاعها لسلطة القصر. فقد باتت وزارة الأوقاف كأنها قناة فضائية داخل مدينة الإنتاج الإعلامي تتحدث بما يريده السيسي، وتنقل ما يكتبه عباس كاملمدير المخابرات العامة.
وأصبح محمد مختار جمعة وزير الأوقاف المصري أشبه بنسخة معممة من أحمد موسى أو عمرو أديب، فلا رأي له إلا ما يراه السيسي ورجاله، ولذلك ظل الرجل في منصبه وزيراً للأوقاف طيلة الأعوام السبعة الماضية.
أما في دار الإفتاء فلا يختلف الأمر كثيراً، فقد أصبحت في عهد مفتي الديار المصرية شوقي علام أشبه بماكينة للبيانات السياسية والفتاوى الجاهزة لتخوين المعارضين، ودعم النظام المصري في كل خطواته داخل مصر أو خارجها. وباتت المؤسسة كأنها وزارة الخارجية أو المتحدث باسم رئاسة الجمهوريةللشؤون الدينية.
سيطرة السيسي على مؤسسات الدولة الدينية بعد أن دان الجيش والإعلام والقضاء والنيابة العامة له بالولاء التام لم تكتمل بعد، فتوجد مؤسسة واحدة يبدو أنها لا تزال عصية على الإخضاع، فلم تقبل أن تكون مطية لرؤى السيسي الدينية أو لساناً زائفاً يستخدمه بحجة تجديد الخطاب الديني، وهي مؤسسة الأزهر.
مؤسسة الأزهر الشريف بعراقتها وتاريخها ووسطيتها يترأسها الشيخ أحمد الطيب، وهو ابن نظام مبارك الذي تربى داخل لجنة السياسات في الحزب الوطني قبيل ثورة الخامس والعشرين من يناير/كانون الثاني، وهو رجل يعرف من أين تؤكل الكتف، وكيف يمارس السياسة ليرضي جميع الأطراف من دون أن يخسر ما يريد .
شيخ الأزهر ربما يعتبره الكثيرون الآن الشخص الوحيد الذي استطاع أن يختلف مع السيسي من داخل مؤسسات الدولة ولم يسلِّم له الأزهر بشكل كامل.
"تعبتني يا فضيلة الشيخ".. تلك المقولة التي خرجت من السيسي بعفوية في أثناء نقاش له على الهواء مباشرة مع شيخ الأزهر لم تكن إلا انعكاساً لما يعانيه السيسي من صعوبات بالغة في إخضاع الأزهر وشيخه الطيب للسياسات الدينية التي يريد السيسي تعميمها على المصريين من خلال الأزهر الشريف.
الأزمات بين الرجلين كثيرة وممتدة منذ انقلاب يوليو/تموز 2013، حين رفض شيخ الأزهر مباركة مذبحة الحرس الجمهوري، ثم أصدر بياناً متلفزاً أدان فيه مذبحة رابعة العدوية، في وقت كان علي جمعة مفتي الديار المصرية الأسبق يحرض الجنود على قتل المصريين العُزَّل قائلاً: "اضرب في المليان، طوبى لمن قتلهم وقتلوه".
قضايا فقهية تتعلق بالطلاق ثم بخطبة الجمعة الموحدة مروراً بما يتعلق بمرجعية السنة النبوية والأحاديث الشريفة، وصولاً إلى الخلاف حول التراث الإسلامي، وأخيراً قانون فصل دار الإفتاء المصرية عن الأزهر الشريف وتبعيتها المباشرة لمجلس الوزراء، ومنح رئيس الجمهورية الحق في الاختيار والتجديد للمفتي دون الرجوع إلى شيخ الأزهر، كلها محطات اختلف فيها الطيب مع السيسي ووقف فيها الأزهر كمؤسسة دينية في وجه النظام ورئيسه، ولم يخضع لمحاولات إسكاته. ولكن يبدو أننا وصلنا إلى المحطة الأخيرة أو ما قبل الأخيرة.
الأزهر يعلنها صريحة أن القانون الذي أقره البرلمان المصري بشأن استقلالية دار الإفتاء مُنافٍ للدستور المصري الذي نص على أن الأزهر هو المؤسسة الحاكمة والمرجع الأساسي لكل الأمور الشرعية بما في ذلك الفتوى.
هذا الرفض ربما يعجل من وجهة نظري بالإطاحة المباشرة بشيخ الأزهر أحمد الطيب من منصبه. فالسيسي فاض به ما يفعله شيخ الأزهر من وقوف في وجهه، وإحراجه أمام الشعب المصري.
استقلال الإفتاء عن الأزهر هو المسمار الأخير في نعش المؤسسة الوحيدة الباقية في مصر من دون استحواذ السيسي وسيطرته عليها بشكل كامل، ولو نجح السيسي فيما يريد من إخضاع للأزهر وشيخه فسوف تعاني مصر لسنوات طويلة من فتاوى تحت الطلب، وعلماء يعملون من أجل رضا السلطان، وشيوخ يأكلون على موائد الحاكم، ودعاة يهرولون نحو المناصب.
المصدر: TRT عربي